الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب الزهد في الدنيا أورد المصنف -رحمه الله-:
النبي ﷺ قال ذلك حينما خرج على أصحابه في غداة باردة، وهم يحفرون الخندق، وكان بعض أصحاب النبي ﷺ قد ربط على بطنه الحجر من الجوع، فلما رآهم في هذه الحال قال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة لا عيش إلا عيش الآخرة، أما الدنيا، فإنها دار تحول وانتقال، ويكفي لبيان ذلك ومعرفته أن اسمها عنوان عليها: دنيا، فهي ليست بتلك المنزلة والمرتبة، وإنما هي دنيا لدنائتها ودنوها وانحطاط مرتبتها وسفولها قيل لها دنيا، فهي عرض زائل ينقضي سريعاً بما فيه من اللذات، أو بما فيه من الآلام والمشقات، وما يقاسيه الإنسان من الشظف والفقر والحاجة، اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة.
النبي ﷺ وهو أشرف من وطئ الثرى ﷺ كان ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبه، ويمر الهلال والهلال والهلال وما يوقد في بيته نار، ويخرج من بيته ﷺ من شدة الجوع، ويأتيه الضيف وليس في بيته ما يقدمه له، حتى يعرض ذلك على أصحابه فيأخذه رجل من الأنصار، ثم بعد ذلك ذلك الرجل لا يجد إلا طعام الصبية، ما عندهم شيء لم تكن بيوتهم ملأى بالأطعمة المتنوعة، وهل ذلك لهوانهم على الله ؟ أبداً، فعمر حينما دخل على النبي ﷺ في تلك العُلّية -الغرفة العلوية- التي كان درجها جذع نخلة، عمر يصعد وهو يتمسك يخشى أن يسقط، والنبي ﷺ قد اعتاد ذلك فيذهب ويجيء، فالمقصود هذه الغرفة التي يجلس فيها النبي ﷺ أو اعتزل حينما آلى من أزواجه شهراً، وأزواجه لما اجتمعن يطالبن بالزيادة في النفقة مما كان سبباً لهذا الإيلاء، يطالبن بالتوسعة عليهن في النفقة، فالنبي ﷺ آلى منهن، حلف ألا يطأهن شهراً، فجلس في تلك العلية حتى جلس الناس يبكون في المسجد يقولون: إنه ﷺ طلق أزواجه، ولم يطلقهن، فعمر يدخل عليه ويرى أثر الحصير في جنبه، وينظر في هذه الغرفة، لا يرى شيئاً يرد البصر، ما فيها شيء، لا ستائر، ولا أثاث، ولا كنبات، ولا جلسة، ولا فراش، ولا شيء، ثم تنهال دموعه فيسأله النبي ﷺ فيقول: كسرى وقيصر فيما هم فيه يعني: من النعيم، وأسرّة الذهب، وألوان الأمور البهيجة، وأنت في هذه الحال، فالنبي ﷺ أنكر عليه هذا، وبين له حقيقة هذا الأمر فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟، أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟[2].
ولهذا تجدون في بعض الأحاديث التي وردت في صفة عمر أو حينما قام أو خطب أو نحو ذلك، قام وفي ظهره ثمان رقاع، ثمان في ظهر الخليفة، في ثوبه ثمان رقاع، اليوم هل أحد منا في ثوبه رقاع؟
لو الثوب أصابه أدنى شيء تركه، هل أحد منا اليوم يبيت هو وعياله ما يجدون شيئاً من الجوع، ويجلس ثلاثة أشهر ما يوقد في بيتهم طعام؟، هل أحد منا هكذا؟ أبداً، هل يوجد منا من يأتيه الضيف وليس عندهم شيء لا تمر ولا غيره؟، لا يوجد، وانظر إلى حال النبي ﷺ وحال أصحابه مع أنهم أعظم قدراً عند الله و منزلة وأحب إلى الله منا، انظر إلى حالهم وانظر إلى حالنا، فالدنيا ليست دليلاً على كرامة الله على العبد إذا أعطيها فله حظ وله منزلة، هذا قاله من لا يعرف الحقائق، يظن أنه إذا رجع إلى ربه قال: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [مريم:77]، وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36].
يقيس الدنيا على الآخرة، إذا أُعطي في الدنيا فإنه سيعطى في الآخرة، هذا الكلام غير صحيح، فأقول: النبي ﷺ يقول: اللهم لا عيش أي: عيش حقيقي، ولهذا قال الله : وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت:64] الحياة الكاملة إلا عيش الآخرة أما الدنيا فتذهب آلامها وتذهب مشقاتها وتذهب حسراتها ويذهب نعيمها ولا يبقى إلا عمل الإنسان.
ثم أورد الحديث الآخر أيضاً:
قوله: يتْبع الميتَ ثلاثة: أهله وهذا ظاهر، يذهبون معه يشيعونه، والعجيب أن الذين يضعونه في القبر ويضعونه في اللحد ويبدءون بإهالة التراب عليه، وتغبر أيديهم وأرجلهم هم أقرب الناس إليه، إكرامه دفنه، هذه الحياة، فالأهل يتبعونه، والمال، ما هذا المال الذي يتبعه؟ المال ما كان معهم من أجل تجهيزه، سابقاً كانوا يجهزون بمال الميت، والآن البلدية تتكفل بهذا، وأضف إلى ذلك من يأتون إذا كان الإنسان عنده مؤسسة، عنده موظفون، عنده عمال يأتون بهذه السيارات، ويأتون بسيارات الشركة، ولربما جاءت حافلات مليئة بهؤلاء العمال، وامتلأت المقبرة بهؤلاء الموظفين عنده في هذه الشركة أو المؤسسة أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك آخر العهد حينما خرجوا من باب المقبرة انتهى كل شيء، معه ماله، ويبدأ هذا المال، هذه الشركة تقسم على الورثة وهكذا أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله هل رأيتم أحدًا دُفن معه شيء من ماله؟، أو قيل: نترك عنده على الأقل سيارة واحدة يمكن سبحان الله يحتاجها، أو ترجع إليه الحياة فيركب سيارته إذا احتاج، أو يقال: خلوا عنده بطانية أو بطانيتين يمكن أن يتلحف فيها؟، أبداً، ولا شيء، يتركون القبر قاعاً صفصفاً ما فيه إلا التراب، ليس عليه شيء، لو سقط من أحد خاتم أو أدنى شيء أخذه، أليس هذا يدعو إلى الاعتبار والتفكر والنظر الصحيح إلى حقيقة هذه الدنيا التي يتهالك عليها الناس وتحصل القطيعة بسببها، والرجل لربما يضيع من يعول ولا يربي أولاده بسبب الجري وراء هذه الأموال والدنيا؟، يبقى العمل فإذا ما كان عنده عمل، الرجل مشغول عفيف الجبهة لا يصلي، ولا يعرف المسجد، جيد بجمع أحجار الذهب والفضة، وأنواع السيارات، عند الباب السيارات الفارهة، لكن لا يعرف المسجد، ولا يدخل المسجد، وليس له أعمال صالحة، ولا يتصدق، ولا يعرف الله ما الذي يبقى عنده؟ ما يبقى عنده شيء، يبقى عمله.
فالآخرة دار لا تصلح للمفاليس، فينبغي أن يجتهد الإنسان حقيقة في جمع الذي يبقى معه، يبقى عنده، يؤنسه في قبره، يأتيه على أفضل صورة، يوسَّع له في قبره بسببه ويأتيه من روح الجنة ونعيمها، كل ذلك بعد ألطاف الله يكون بسبب الأعمال في الحياة الحقيقية، من أجل أن يأخذ كتابه بيمينه، أما هذا فلو كان أثرى الناس ثم ماذا؟ اعتبروا بالتجار الذين يموتون العام، وقبل العام، وإلى آخره، عبر هذه القرون هل أحد يذكرهم بشيء الآن؟ هل ترون أن أحدا قال: فلان -رحمه الله-؟ أبداً، ولا شيء، ذهبت الأموال، والجسد هذا من نصيب الدود، بل لربما أقرب الناس إليه لا يترحمون عليه إذا كان مقصراً في حقهم، "أو ولد صالح يدعو له"فإذا ما ورّث أولادًا صالحين، وإنما ورّث أولادًا مثله يجرون خلف الدنيا ماديين، ليس لهم هم إلا جمع الدرهم والدينار والريال والمليون والمليونين والمليار، ورصيد فلان أحسن من رصيدي، ورصيدي أحسن من رصيد فلان، وأنا رقم ثمانية عشر في العالم، وأنا رقم عشرة، وهذا رقم تسعة عشر، وهذا رقم عشرين، فإذا مات بقي مجموعة من الأولاد العَقَقة الذين لا يذكرونه بخير ويبقى عليه الحساب على هذه الأموال المكدسة، وهذه المظالم لهؤلاء العمال والموظفين والأُجراء، وما أشبه ذلك، والورثة يتمتعون بهذا المال.
فنسأل الله أن يلطف بنا، وألا يجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، وأن يبصرنا بها، وأن يقينا الشح، وأن يجعلنا وإياكم من المفلحين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب سكرات الموت، (8/ 107)، برقم: (6514)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، (4/ 2273)، برقم: (2960).