الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب الزهد أورد المصنف -رحمه الله-:
قوله ﷺ: يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة قوله: من أهل النار يخرج به أهل الإيمان فإنهم لا يدخلون في هذا، وإنما الأنعم من الكافرين، ومثل هذا يمكن أن يفهم منه -والله تعالى أعلم- أعلى أنواع النعيم؛ لأن الكفار غالب ما يكون النعيم إنما هو في جانبهم، والله يقول: وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً أي: على الكفر لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا [الزخرف:33-35]، يعني: ذهباً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:35].
والنبي ﷺ قال لعمر كما سبق: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟[2] فالدنيا الله -تبارك وتعالى- يعطيها هؤلاء الكفار، وينعمهم فيها، ولهذا يقول الله لنبيه ﷺ: لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ [الحجر:88].
والمقصود أي: أصنافاً منهم من المنعمين في الدنيا، يؤتى بهذا الإنسان المنعم فيصبغ في النار صبغة، يعني: يغمس، وعبر عن هذا الغمس بالصبغ؛ لأنه يبقى عليه أثره، كما قال الله : صِبْغَةَ اللّهِ [البقرة:138]، وكذلك التعميد الذي يفعله النصارى بالغسل بماء معين يعتقدون أنه مقدس يقال له: صبغة، وهكذا ما يكون من صبغ الأشياء وتلوينها، فالشاهد أنه يصبغ في النار صبغة، أي: يغمس غمسة، والتنكير لربما يفهم منه هنا أن هذه الصبغة يسيرة قليلة، ليست بمدة طويلة، وإنما هو شيء يسير.
ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟، هل مر بك نعيم قط؟ لاحظ هذه نكرة خيراً وهل مر بك نعيم نكرة في سياق الاستفهام، والنكرة في سياق الاستفهام للعموم، هل مر بك أيّ نعيم؟ هل رأيت أيّ خير في الدنيا؟
الله يقول: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]، والنبي ﷺ أخبر أن الإنسان يُسأل ألم نروك من الماء البارد؟[3].
هذا الماء الذي يشربه الإنسان الماء البارد هو من النعيم الذي يحاسب الإنسان عليه، والنبي ﷺ لما أكل مع أصحابه من البسر، وأكل من الشاة ونحوه، قال لهم: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ[4].
فهذا الإنسان المنعم جدًّا، هذا الكافر، هذا الذي ليس له هم إلا الحياة الدنيا وما فيها بمجرد صبغة واحدة في النار ينسى كل شيء، وينقشع عنه كل وهم، فيقول ويحلف: لا والله يا رب يعني: ما رأيت شيئاً، ما رأيت شيئاً من النعيم ولا مر بي خير قط، يحلف على هذا، وهذا إما أن يكون باعتبار أن ما رأى من العذاب المؤلم غاية الإيلام أنه ليس بشيء بالنسبة إليه ما وجده وعاشه من الترف والنعيم في ستين سنة أو سبعين سنة أو أقل أو أكثر، ولا شيء، أو أنه تلاشى ذلك عنه واضمحل، وهذا لا يعارض المعنى الأول، فعندما يرى الإنسان الحقائق ويعاين الأهوال ينسى كل لذة ونعيم قارفها، وبهذا ندرك أن هذه المتع التي في هذه الحياة الدنيا أنها كالأحلام سرعان ما تزول وتنقشع، ثم بعد ذلك ينساها الإنسان، ولا يبقى منها شيء، ولذلك لو أراد الإنسان أن يتذكر في سني عمره الأولى كم مرة أكل أكلة يلتذ بها، وكم مرة شرب شربة يلتذ بها،، وكم مرة قام بأمور يأنس بها ويسعد، نسي ذلك، فإذا مات الإنسان، وجاء في القيامة ورأى أهوال القيامة صارت الدنيا منقشعة اللذات، زائلة عنه، لا يجد منها شيئًا، فينسى ذلك كله، فإذا وُجد ما يقابله وهو من شدة العذاب، والنكال فإن ذلك ينسيه كل شيء من هذه المتع التي زاولها ورآها، حتى إنه يقول: ما رأيت خيراً قط، نسأل الله العافية.
وهذا يدل أيها الأحبة على أن الإنسان لا يغتر بهذه الدنيا، فهذا الكافر الذي هو أنعم إنسان في الدنيا منذ وقع الكفر في عهد نوح إلى قيام الساعة، أنعم إنسان كم يملك من المليارات؟، كم يملك من القصور والجزر والمراكب الجوية والبرية والبحرية ؟، كم يملك من المزارع؟ كم يملك من النساء والذهب وألوان البهرج؟
شيء لا يقادر قدره، أنعم إنسان في الدنيا، ما ظنكم؟، يعني: لمّا تقرأ عن بعض المنعمين في الدنيا ماذا يملكون أحياناً تتعجب: ماذا يصنع بهذه الدور والقصور والمتع؟، ماذا يصنع بها؟ ومتى يذهب إليها جميعاً، لربما يموت وما دخل بعضها، فكيف بأنعم إنسان في الدنيا؟!.
فهذا يغمس غمسة واحدة فيقول: لا والله يا رب، ما رأى خيراً قط، ولا رأى -نسأل الله العافية- نعيماً قط، إذا كان هذا أنعم إنسان فكيف بالذي ينتظر نهاية الشهر متى يأتيه الراتب، ولربما لا يملك أرضاً ولا يستطيع أن ينبي شقة، ولا يملك شيئاً من هذه المتع، لا يملك لا جزيرة، ولا قاربًا، ولا سفينة، ولا طائرة، لربما ما يستطيع أن يشتري تذكرة طائرة يسافر بها، فيسافر في البر، فهل هذا يستحق أيها الأحبة أن يُعرض الإنسان عن طاعة ربه ، والدارِ الآخرة التي لا تنقضي بزمان أبداً، فيترك هذا من أجل هذا الفتات؟، هل تستحق هذه أن يشتغل بها الإنسان عن الدار الآخرة؟، أبداً، كل شيء فيها يزول، هذا الشباب يبدأ الشيب يلوح، ثم يبدأ يحني الإنسان لحيته ويظهر الشيب من تحتها، ويحاول أن ينسى أنه قد مر به السنون، وأن العمر ينقضي، لكن لا فائدة، وتبدأ تجاعيد الوجه تظهر والضعف والترهل في الجسم، ولا يمكن أن يصلح العطّار ما أفسد الدهر كما قيل.
هذه هي الحياة الدنيا أيها الأحبة، والنهاية معروفة للجميع يخرج الإنسان منها وليس معه ثوب، حتى ثيابه تنزع، فالمقصود هذا يصبغ فينسى كل شيء.
وهكذا أيضاً يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، تصور ماذا لقي هذا البائس من أهل الجنة من بعد آدم ﷺ إلى قيام الساعة، ماذا لقي من العناء والآلام والأمراض والقهر والذل والمهانة والتشحط بالفقر؟، أبأس إنسان في الدنيا لك أن تطلق الخيال ماذا يلاقي؟ فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟، هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط.
هذا البؤس الطويل الذي في الدنيا هو بالنسبة للإنسان طويل في أيام الدنيا، لكنه بالنسبة للآخرة لا شيء، وإذا أردت أن تعرف أنه لا شيء لو سألناك عن الشدة التي لقيتها في صيام رمضان نحن نمثل بالفرائض، لربما نحن نقصر كثيراً في العبادات النوافل، فقد لا نمثل بها لكن في صيام رمضان هل مر بك بؤس قط؟، هل مر بك شدة قط؟، تقول: لا، ما أجد شيئًا، ذهب، لكن في حينه لربما كان الإنسان يعاني ويكابد، وهكذا ما يزاوله الإنسان في ساعته من قيام ليلة، أو صيام نهار، أو قراءة ورد من القرآن، أو ما يحتاج إلى مجاهدة النفس من البذل، والصدقة، والإحسان إلى الناس، كل هذه الأمور هي في حينها تحتاج إلى مجاهدة، لكن إذا تجاوزها الإنسان صارت ذكريات فقط، ثم بعد ذلك إذا وصل إلى الآخرة صارت هذه الأشياء والأتعاب نسياً منسيًّا ماذا تساوي هذه المدة اليسيرة التي يبقاها الإنسان في الدنيا بالنسبة لما في الآخرة من البقاء الأبدي السرمدي في النعيم المقيم؟، لا مقارنة إطلاقاً.
فأقول: كل هذه الأمور أيها الأحبة تفتح عين القلب وبصره، ليكون ذلك النظر نافذاً في الحقائق معرضاً عن القشور والصور والأشكال التي تستهوي من قل عقله ونظره وقصر تدبره، اغتر بظاهر من الحياة الدنيا فشغلته عن الآخرة، فنسأل الله ألا يشغلنا عن طاعته وعبادته، وأن يرضينا من الدنيا باليسير، وأن لا يجعل ما أعطانا فتنة لنا ولا استدراجاً، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار وصبغ أشدهم بؤسا في الجنة، (4/ 2162)، برقم: (2807).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ [التحريم: 1]، (6/ 156)، برقم: (4913).
- أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة ألهاكم التكاثر، (5/ 448)، برقم: (3358)، وابن حبان في صحيحه، كتاب إخباره ﷺ عن مناقب الصحابة ، باب ذكر الإخبار عن سؤال الرب -جل وعلا- عبده في القيامة عن صحة جسمه في الدنيا (16/ 364)، برقم: (7364)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 76)، برقم: (539).
- أخرجه ابن حبان (12/ 16)، رقم: (5216).