الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب الزهد في الدنيا أورد المصنف -رحمه الله-:
حديث المُستورِد بن شداد ، والمستورد من صغار الصحابة ورواياته عن النبي ﷺ قليلة، روى نحو سبعة أحاديث، هذا الحديث الذي في صحيح مسلم، وحديث آخر، وليس له في البخاري شيء.
عن المستورد بن شداد، قال رسول الله ﷺ: ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع[1].
يعني: الدنيا ماذا تمثل بالنسبة للآخرة، المقارنة بين الدنيا والآخرة، ما الذي يكون من النعيم والمتع واللذات التي في الدنيا حينما نقارن ذلك بما في الآخرة، فالنبي ﷺ يقول: ما الدنيا في الآخرة كل الدنيا من أولها إلى آخرها، وكل ما فيها من الأملاك والثروات التي توصل إليها الناس، والتي بادت وانصرمت والتي لم يتوصلوا إليها بعد.
قال: إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم يعني: في البحر فلينظر بم يرجع ما الذي يصيب هذا الأصبع من البحر؟، بلل فقط، هذا البلل ماذا يساوي بالنسبة للبحر؟ لا شيء، هل يتأثر البحر؟ هل ينقص؟ أبداً، لو انغمس الإنسان بكامله في البحر وخرج، هذا البلل الذي أصابه ماذا يؤثر؟، ماذا يمثل بالنسبة لماء البحر؟ لا شيء، بل لو انغمس أهل البلد جميعاً في البحر، ثم خرجوا لن يتغير من حال البحر شيء، فكيف بالإصبع؟ فكل ما نراه في هذه الدار وفي هذه الدنيا مما يتنافس فيه المتنافسون، ومما يريق أقوام فيه ماء وجوههم ويبيت آخرون يفكرون في طريق جمعها أو وتصريفها، وهكذا من تذهب نفوسهم عليها حسرات لما فاتهم من المتاجر والمكاسب والأموال، وما يقع لهم فيها من الخسائر، يبيت الرجل ولربما فقد صوابه وعقله، ولربما أصابته الأدواء التي يعيا الأطباء بمعالجتها من أجل هذه الدنيا، وأكثر الناس يسخرون ما أعطاهم الله من الإمكانات والعقول والذكاء والمهارات في جمع الدينار والدرهم.
وقد صار إقبالُ الورى واحتيالُهم | على هذه الدنيا وجمعِ الدراهمِ |
وصار ذلك غاية بالنسبة للكثيرين، وإذا حصل شيء من هذا المتاع لقوم فقد يكون ذلك سبباً لطغيانهم ونسيانهم وغفلتهم وإعراضهم عن ربهم: كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] هذا الغنى الذي يحصل لإنسان واحد مهما بلغ ماذا يمثل بالنسبة للدنيا من أولها إلى آخرها؟ لا شيء، وكل الدنيا هي بمنزلة هذا البلل الذي يصيب الأصبع، وهذا كلام من لا ينطق عن الهوى، ليست هذه اجتهادات ونظر يصيب ويخطئ، إنما هو كلام المعصوم ﷺ ولهذا قال ﷺ كل الدنيا هي بمنزلة هذا البلل الذي يصيب الأصبع، وهذا كلام من لا ينطق عن الهوى، ليست هذه اجتهادات ونظر يصيب ويخطئ، إنما هو كلام المعصوم ﷺ ولهذا قال ﷺ: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء[2].
الإنسان أحياناً لما يتفكر وينظر إلى الأرقام الفلكية في الثروات المهدرة التي تنتهب من بلاد المسلمين، يأخذها أعداؤهم فإن الإنسان أحياناً يشعر بشيء من الامتعاض والغبن، كيف يتسلط هؤلاء الأعداء على هذه الثروات الطائلة ويضعون أيديهم عليها، وينهبونها لكن إذا تفكر في هذا المعنى، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة يهون ذلك عليه، فلينظر بم يرجع.
ثم ذكر الحديث الآخر، وهو حديث جابر وهو يمثل حال الدنيا أيضاً.
مر النبي ﷺ بالسوق، والسوق معروف إما لأنه تُساق إليه الأموال فقيل له: سوق، أو لأن الناس يقفون فيه على أقدامهم، على سوقهم، أو لأنه يتزاحم فيه الناس فتصطك السوق -سيقانهم- من الزحام، الشاهد السوق معروف فهو المحل الذي تجلب إليه البضائع، يقول: والناس كَنَفَتَيْه، يعني: اكتنفوه ﷺ عن جانبيه يمشون معه ﷺ، فمر بجديٍ أسَكَّ ميتٍ، ثلاثة أوصاف: جدي والجدي هو: ولد الماعز الذكر، وولد الماعز الأنثى يقال له: عناق، والذكر يقال له: جدي، ما قيمة الماعز؟، الآن لو ذهبت إلى السوق أرخص ما ستجد الماعز أليس كذلك؟ فكيف بولد الماعز؟!، والأنثى أغلى من الذكر أليس كذلك؟، فهذا جدي صغير بعضهم يقول: لم يكن له سنة.
وأسَكّ يعني: هو الذي له أذن قصيرة، وبعضهم يقول: لا أذن له، لكن هنا له أذن؛ لأن النبي ﷺ أخذ بأذنه، وإلا فالأصل أن الأسَكَّ هو الذي لا أذن له، ولهذا تقول العرب: كل أسك بَيَوض، كل سكّاء فهي بيوض، وكل شرقاء فهي ولود، قاعدة عندهم ما يتخلف عنها شيء، وهذا كثير في كلام العرب، عندهم قواعد دقيقة في علم الحيوان بجميع أنواعه، كل سكاء بيوض، يعني: التي ما لها أذن، وكل شرقاء ولود الخفاش له أذن فهو يلد، الأرنب له أذن يلد، الدجاجة سكاء ليس لها أذن تبيض، الحية ليس لها أذن إذاً تبيض، الضب ليس له أذن يبيض، العقرب ليس له أذن فهو يبيض، الفيل له أذن فهو يلد، السمك ليس له أذن فهو يبيض، وهكذا.
الأسَكّ عيب فيه، آذانه قصيرة، فيكون ذلك نقصاً فيه، وميت، كم قيمة هذا الآن لو أن الجدي عرض على الناس وقيل لهم: هذا جدي صغير أسك؟، كانوا يتأذون من رؤيته، والنظر إليه وقربه من بيوتهم، يقولون: خذوه اشتروه، ما أحد يشتري هذا، تسوّي عليه مزادًا في الحي ما أحد يسومه، أليس ذلك؟
النبي ﷺ أخذ بأذنه، ثم قال: أيكم يحب أن يكون له هذا بدرهمٍ؟ لاحظ مع الحاجة في وقتهم درهم، فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيءٍ وما نصنع به؟ ماذا نستفيد منه؟ ثم قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حيًّا كان عيباً، إنه أسك فكيف وهو ميتٌ؟! يعني: لو أنه حي كان عيباً يعني: معيباً، فقال: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم[1].
وانظر إلى نظرنا للدنيا وتعظيمنا لها ولأهلها، الناس كما قال ابن القيم -رحمه الله:
والناسُ أكثرُهم فأهل ظواهر | تبدو لهم ليسوا بأهل معانِ |
فهم القشورُ وبالقشور قوامُهم | واللبُّ حظُّ خلاصة الإنسانِ[2] |
إذا رأوا أبهة ورأوا ثياباً ولباساً ومركباً عظيماً، ورأوا هالة وقصراً، ونحو ذلك عظموا هذا الشخص، ويا أبا فلان ويا أبا فلان، وإذا مر بهذه السيارة الفارهة الجميع يتوقف ويحسب له حسابًا، وإذا جاء في الدوار كل إنسان يفرمل، ونفس هذا الشخص لو أنه ركب سيارة صغيرة قديمة ما أحد ينظر إليه، وحتى لو كان الطريق له لا يعبأ به أحد، هذا شيء مشاهد، وأنا جربت هذا بنفسي حينما تركب سيارة أمام الناس سيارة تعتبر جيدة، وتركب سيارة قديمة صغيرة جدًّا، ما أحد ينظر إليك، ولا أحد يتوقف، تكاد تصعد الرصيف هذا يلف عليك من هنا، وهذا يلف عليك، وهذا ينظر لك بنظرة تكاد تخترقك، هذه النظرات من الغضب، وأنت ما عملت شيئًا، أليس كذلك؟
هو نفس الشخص في هذه السيارة، وفي هذه السيارة، ولهذا يذكر من الطرف أن رجلاً جاء إلى قوم لحاجة ما نظر إليه أحد، فجاء ولبس أبهةً ولبس مِشلحاً مذهّباً وكذا، فأكرموه ووضعوه في صدر المجلس وقدموه للطعام، فجلس يقول لعباءته: كلي كلي، يعني: إن الإكرام كان لهذه العباءة.
فالمقصود أننا نحن هكذا ننظر للدنيا في كثير من الأحيان، وتجد الغبطة الإنسان إذا ما يحسد الآخرين فهو على الأقل يغبطهم: ما شاء الله، الله أعطاهم، فلان من أين له هذه التجارات؟ من أين له هذه الأموال؟ كيف كان تاريخه؟ كان أولا يعمل في المكان الفلاني وما كان عنده شيء والآن انظر، ويجعلونه قدوة، وكيف أن الإنسان ينفتح أمامه الأمل أنه ما شاء الله، أنا ممكن أصير مثله، على ماذا؟
ليس هذا مما يتنافس به المتنافسون، ولكنه قصر النظر أيها الإخوان، هذا الجدي الأسكّ، هذا الذي يتهافت عليه هذا العالم من شرقه إلى غربه، وليس معنى ذلك أننا نترك عمارة الأرض، لا، فلابد من السعي والعمل والاستغناء عن الناس، واستغناء الأمة عن أعدائها هذا لابد منه، لكن الكلام كله ليس في هذا الكلام، وإنما في التهافت، في اشتغال القلب في الدنيا وحطامها، قطيعة الأرحام بسبب الدنيا، أن تذهب نفس الإنسان حسرات بسبب الدنيا، أن يترك طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ بسبب غفلته واشتغاله بجمع الدينار والدرهم، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فكل هم الناس يدور على هذين الأمرين مسألة الرزق والمستقبل، كما يقولون: أمِّن المستقبل، أو مسألة الأجل خائف من الموت، ومن أن يأتيه مرض، ما هذا؟ العلة التي في جنبه، التي في رقبته، الورم الذي ما أدري ما هو، وهموم.
لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، الرزق مضمون، والأجل مضمون، مهما نزلت به أمراض الدنيا، ومهما نزل به من الكوارث في ماله، لن يذهب عليه درهم واحد.
ولهذا بعض السلف كان في غاية الطمأنينة والراحة فسئل عن هذه الطمأنينة وسرها، فذكر جملاً عجيبة منها قال: أيقنت أن رزقي لن يأكله غيري، رزقي لن يأكله غيري، لماذا التزاحم والاحتيال؟ ولماذا الخديعة؟ ولماذا الغش والكذب؟، ما كتب للإنسان من الرزق سيأتيه إن استعجل أخذه من الحرام وإن صبر أخذه من الحلال.
فنسأل الله أن يغنينا وإياكم بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه، وأن يحفظنا وإياكم من كل آفة وسوء وفتنة وشر.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، (4/ 2272)، برقم: (2957).
- انظر: نونية ابن القيم (ص: 15).