الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد أورد المصنف -رحمه الله- في باب الزهد:
قوله: "أخذ بمنكبيّ" المنكب هو الموضع الذي يجمع بين رأس العضد مع الكتف، والأخذ بالمنكب لا شك أنه يسترعي الانتباه والاهتمام من قِبل المخاطب، ويدل أيضاً على عناية بهذا المحدَّث عند مخاطبته، والنبي ﷺ يفعل ذلك أحياناً مع أصحابه، كما جاء عن ابن مسعود حيث ذكر وصية رسول الله ﷺ له قال: "وكفي بين كفيه"[2] يعني: أخذ بكفه من أجل أن يتفطن وأن ينتبه، وأن يصغي فلا ينشغل قلبه بشيء آخر؛ لأن الإنسان قد يوجه إليه الخطاب وقلبه مشغول، فلا يفقه ما قيل ولا ينتفع به.
يقول: "أخذ بمنكبيّ" فقال: كن في الدنيا كأنك غريب وابن عمر في ذلك الحين كان شابًّا في مقتبل العمر، والنبي ﷺ من تواضعه كان يعتني بأصحابه بالكبير والصغير على حد سواء.
كن في الدنيا كأنك غريب كن في الدنيا، أي: في معاشك، وفيما تؤمله، وفيما تخطط له من أمور المعاش وما يحصل من المكاسب كأنك غريب أو عابر سبيل، والغريب هو الإنسان البعيد عن وطنه، وعابر السبيل هو الإنسان الذي يجتاز بمحل، ثم بعد ذلك يفارقه.
كن في الدنيا، أي: في معاشك، وفيما تؤمله، وفيما تخطط له من أمور المعاش وما يحصل من المكاسب كأنك غريب أو عابر سبيل، والغريب هو الإنسان البعيد عن وطنه، وعابر السبيل هو الإنسان الذي يجتاز بمحل، ثم بعد ذلك يفارقه.
وقوله ﷺ: كأنك غريب أو عابر سبيل "أو" هذه من أهل العلم من يقول: هي للانتقال، قال له: كن في الدنيا غريبًا، ثم قال: بل عابر سبيل، انتقل إلى حال أبلغ من ذلك؛ لأن الغريب قد يستقر في مكان الغربة، قد يذهب الإنسان لحاجة، لعمل، لدراسة، لبلد هو غريب فيها، ثم بعد ذلك يطيب له المقام فيستقر وتصير تلك البلاد وطناً له، مع أن الغريب في حال غربته في الأصل أنه لا يعد للإقامة، ولا يتخذ في تلك الدار ما يتخذه أهل الإقامة، وإنما يتخفف فيما يتعلق بأثاثه، وما يتعلق بالدور التي يسكنها، ويتخفف أيضاً في علائقه مع الناس، فالغريب لا يتوسع كما يتوسع الإنسان في وطنه وأرضه التي يستقر فيها، وأما عابر السبيل فإنه لا يتخذ من ذلك شيئاً، يجتاز بمكان يأخذ حاجته منه، ثم بعد ذلك يذهب، الغريب قد يجلس شهرًا وسنة وأكثر ويأخذ حاجته من تلك الديار بما يناسب ويليق بحاله، أما عابر السبيل فلربما يقف عند محل أو ناحية تتعلق بها مصلحته، ثم هو على جناح السفر، ولهذا ينسب إلى الطريق يقال: ابن السبيل، ابن الطريق لملازمته لها، فهو ليس بمستقر، ولا يعد للاستقرار، والإنسان في هذه الحياة الدنيا يكون كالغريب بل يكون كعابر السبيل، كيف يكون عابر السبيل؟
هكذا ينبغي أن يكون المؤمن في هذه الحياة الدنيا، لا يتكثر منها، ولا يعلق قلبه بها، ولا يشغل جوارحه في جمعها والسعي في تطلبها وتحصيلها الاشتغال الذي يشغله عن الله والدار الآخرة، لابد من الكسب، ولابد من العمل، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كانوا يمشون في الأسواق ويكتسبون، فهذا أمر مطلوب، وحتى لا يحتاج الإنسان إلى الناس، لكن لا يشتغل القلب بها ولا تكون هي غايته وطلبته التي من أجلها يقوم ويقعد، ولا تكون هذه الدنيا هي محل الاشتغال في الليل والنهار، فيضيع من يعول ويضيع حقوق الله بسبب اشتغاله بها، كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل فيتخفف ويأخذ منها ما يكفيه ويغنيه عن الناس دون أن يكون متبعاً لأطماع النفوس وشهواتها، فإن ذلك لا ينقطع إلا بالموت، كما قال النبي ﷺ: لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً وقال: ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب[3] وهي آية كما جاء في الروايات مما نسخ لفظه.
تصوروا هذا الإنسان المسافر حينما يمر ببلدة، هل يلفت نظره ما يعلق فيها من مهرجانات، أو من أراض وعقارات للبيع، أو ما فيها من متنزهات، أو ما فيها من متع وغير ذلك؟، أبداً، لا يصغي إلى شيء من هذا، فهكذا المؤمن في هذه الحياة لا يحط رحله فيها، وإنما الأمر أقرب من ذلك.
وكان ابن عمر -ا، يقول: إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء" هذا يحتمل معنيين: يحتمل أنك إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح بعملك، فتؤجل عمل المساء إلى الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء بعملك، فتؤجل عمل الصباح إلى المساء، أو العكس.
والمعنى الثاني: وهو الأقرب وهو الظاهر المتبادر إذا أصبحت: يعني قصِّر الأمل في هذه الحياة الدنيا، قد لا تدرك المساء، فاعمل واجتهد في طاعة الله ولا يكون أملك طويلاً تؤمل أنك ستعيش ستين سنة أو سبعين سنة أو أكثر من هذا، الذي يكون أمله طويلاً في هذه الحياة يؤخر التوبة، يؤخر الأعمال الصالحة، يغرق في الملذات والشهوات، ويعمر الدور والقصور، كأنه يعيش آلاف السنين، لكن إذا كان الإنسان إذا أصبح لا ينتظر المساء يتحلل من حقوق الخلق، ويتخفف من الأوزار، وإذا دعته نفسه إلى الشهوات تذكر أن الأمر أقرب من ذلك، وإذا حدثته نفسه بالتسويف في العمل الصالح فإنه يتذكر أنه قد لا يعيش إلى المساء، وإذا كان في المساء قد لا يعيش إلى الصباح، فلا يقول: أبدأ من الغد، أشتغل بهذا غداً، وإنما يبادر ويعمل، فلا يدري متى يلقى الله -تبارك وتعالى.
ولهذا يقول ابن عمر : وخذ من صحتك لمرضك، أنت الآن صحيح استغل هذه الفترة في الصحة من أجل أنه قد يعرض لك المرض فتتمنى العمل ولا تستطيع، تريد أن تصوم ما تستطيع أن تصوم، قد يصيبك مرض فيمنعك الأطباء من كثير من الأعمال الصالحة، فاستغل فترة الصحة وجِدّ واجتهد واجمع فيها ما استطعت من الحسنات.
قال: ومن حياتك لموتك، يعني: أن الإنسان في هذه الحياة يعمر آخرته، فهي مدة أو مزرعة يزرع فيها الإنسان لآخرته، هي تجارة مع الله رأس مال الإنسان فيها هذه الأنفاس والأوقات والدقائق، ثم بعد ذلك يفضي إلى ما عمره، وما ورثه، وما بناه في الآخرة، فإذا كان الإنسان مضيعاً مشتغلاً بعمارة الدنيا عن عمارة الآخرة أفضى إلى خراب، فكيف يسكنها؟!، وإذا كان الإنسان مشتغلاً بعمارة آخرته، ولو على حساب خراب دنياه، وذلك بالبذل في سبيل الله والإحسان إلى الخلق، وما إلى ذلك، فمثل هذا يقبل على عمارة وسعة، وقصور وروح وريحان، خذ من دنياك لآخرتك، وهكذا أيضاً يأخذ الإنسان من فراغه لشغله، الإنسان لا يدري متى يشغل، وهذا عكس ما عليه أكثر الخلق، أكثر الناس إذا حصلت لهم فرصة في الفراغ من أجازة أو نحو ذلك قضيت بالمتع، والله يقول: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ [الشرح:7] يعني: فانصب في طاعة الله واجتهد وجد؛ لأن الشغل يكون قاطعاً وعائقاً دون ذلك، وهكذا أيضاً الإنسان حينما يكون في شبابه يسوّف التوبة والعمل الصالح، يقول: إذا تقدم بي العمر، إذا تقدم العمر عند ذلك أُقبلُ على الله وأجتهد في الطاعة، قد لا يُقبل، أما ترون كبار السن؟، هل كل هؤلاء تابوا إلى الله وأنابوا؟ أبداً، منهم من يكون أكثر تعلقاً بالدنيا من الشباب، والإنسان يشيب ويشب معه هذا الطمع وحب الدنيا والتعلق بها، هل رأيتم الإنسان إذا تقدمت به السن يقول: أنا لا أريد الدنيا، وأنا زاهد فيها، وأنا لا أريد؟، أبداً، ما دام فيه طاقة وعنده قدرة على العمل فهو يعمل ليل نهار في الصباح وفي المساء في جمعها، بل قد يكون أكثر شحًّا وتمسكاً فيها، لم نرَ فرقاً في الزهد بين الشباب وبين الشِّيب، إن لم يكن الشيب أكثر تعلقاً بالدنيا، هذا هو المشاهد إلا من وفقه الله ووقاه شح نفسه.
الإنسان إذا أخر الأعمال الصالحة من مدة الشباب إلى الهرم والشيبة، فما الذي يكون؟ لا يستطيع القيام بكثير من الأعمال، لا يستطيع أن يحج، ولربما لا يستطيع أن يعتمر، لا يستطيع أن يقوم الليل، ولا يستطيع أن يصوم النهار، وأول من يقف في وجهه أولاده يمنعونه، أنت لا تستطيع، يخافون عليه، إذا جاءت الأيام البيض لئلا يتفطن -هذا إذا كان له رغبة بالعبادة والصيام- لا يخبره أحد من أجل ألا يصوم فيتعب، ولذلك لربما أول من يقف في وجهه أولاده، لا يرضون أن يوقف شيئاً له شأن وله قيمة إن كان من أصحاب الأموال كما هو مشاهد، بل لربما تقام عليه دعوة في المحكمة مطالبة بالحجر كما حصل، أموال طائلة وأراد أن يوقف الثلث مثلاً أو نحو هذا دون أن يشعر به أولاده، ويجلس مدة وهو يوقف ويوقف، ويوقف من هذه الأشياء من الأموال الهائلة وإلا لو شعروا لحالوا بينه وبين ذلك، وهذا موجود، ثم بعد ذلك يفاجئهم بالأمر الواقع والوثائق وكل شيء قد انتهى، ثم بعد ذلك لربما فعلوا ما فعلوا، يغضبون ويسخطون عليه ولربما قطعوه وهجروه، ولربما اتهموه بالجنون، والله يقول: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14].
هذا معنى العداوة بمعنى: أنهم يصدونه ويشغلونه ويصرفونه عن طاعة الله -تبارك وتعالى، فالمقصود أيها الأحبة: البدار البدار، البدار البدار، إذا وجدتَ وقت فراغ صف قدميك وصلِّ لك ركعتين تنفعك عند الله .
إذا وجدت صحة ونشاطًا وجاءت الأيام البيض، جاء الإثنين، جاء الخميس صم، ولا يقال لك: لا تتعب نفسك النهار طويل، الجو حار، أنت عندك عمل، أنت عندك دراسة، قل: لا، أنا بحاجة إلى سراج في قبري، وإذا وجدت سعة فتصدق وأنفق، هي مدخرات لك عند الله تُثمَّر هذه الأموال وتلقاها أوفر ما كانت مضاعفة، وهكذا في كل شأن من الشئون، أما الإخلاد إلى الأرض ولا يكون هم الإنسان إلا التفكير في جمعها وعمارتها، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، ولن يأتي أكثر مما كتب له، فيريح القلب ويأخذ منها ما حل، ويترك ما اشتبه عليه، أو ما كان من قبيل الحرام، وانظر إلى من يتهافتون عليها تهافتاً عظيماً هائلاً، هل حصلوا فيها غير ما كتبه الله لهم؟، منهم من يتشحط بالفقر، ولو نظرت إلى أحوالهم وأعمالهم يأخذ بطاقة هذا لأجل أن يساهم فيها، ويستأجر بطاقة هذا لأجل أن يساهم فيها، ويشترك مع هذا بالمليارات، وهو من فقر إلى فقر، وتهافت وتقاطع وتشاحن على دريهمات، وعلى أشياء تافهة، ما تستحق ذلك كله، ما تستحق الذهاب للبنك على شأن يكتتب فيها، وحيل، أنواع الحيل، وإشغال بالأسئلة، هذا الذي يسأل، دعك من الذي ما يسأل.
فأقول: نسأل الله أن يرزقنا وإياكم القناعة والرضا والرزق الحلال، وألا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي ﷺ: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، (8/ 89)، برقم: (6416).
- أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب الأخذ باليدين، (8/ 59)، برقم: (6265)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، (1/ 302)، برقم: (402).
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال، (8/ 92)، برقم: (6436)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثا، (2/ 725)، برقم: (1048).