الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب الزهد:
هذا الحديث يقول فيه النبي ﷺ: الدنيا ملعونة، أي: أنها مبغضة إلى الله -تبارك وتعالى، أن الله يسخطها ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه يعني: إلا ما قاربه أو قرب إليه من الطاعة ودل عليه، ولهذا قال ﷺ: وعالماً ومتعلماً والمقصود به من يشتغل بالعلوم التي توصله إلى المالك المعبود ، العلم بالله وأسمائه وصفاته، والعلم بالطريق الموصل إليه، والعلم بما يصير إليه الإنسان في آخرته، هذه الثلاث.
هذا الحديث يفهم على وجهه، وهو أن الإسلام لا يدعو أتباعه إلى تعطيل الحياة الدنيا، والاشتغال فقط بالعمل للآخرة، ويبقى المسلمون في حال من الضعف والضعة والمذلة لعدوهم، ليس هذا هو المراد إطلاقاً.
فالنبي ﷺ يقول: ألا إن القوة الرمي[2]، لما قال النبي ﷺ: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ [الأنفال:60].
وأمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود العبرية، فتعلمها في سبعة عشر يوماً، ولما كان الأسارى في يوم بدر، وعزم النبي ﷺ على أخذ الفداء منهم، كان من يقرأ منهم ويكتب أمره النبي ﷺ أن يعلم عشرة من صبيان المسلمين، ولهذا امتن الله -تبارك وتعالى- على هؤلاء الأميين بأن بعث فيهم رسولاً منهم، فهو أمي، يتلو عليهم آياته، وكان من جراء ذلك أن علمهم الكتابة والقراءة، كان سبباً لهذا، كما هو أحد المعاني في قوله -تبارك وتعالى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، بعد قوله: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِه ففسر بأنه يعلم الكتاب أي: الكتابة.
فالشاهد أن من تتبع النصوص الواردة في الشريعة وجد فيها هذه المعاني، والنبي ﷺ يخبر في جملة من الأحاديث أن المال الصالح لا يكون مذموماً إذا كان بيد صالحة، إذا أخذ الإنسان المال من حله، وأنفقه في حله، وأدى حق الله فيه فإن ذلك لا يكون مذموماً، والصحابة كان لهم حروث وكانت لهم مصالح وصنائع وتجارات، وعثمان بن عفان كان من تجار الصحابة وجهز جيش العسرة وقال فيه النبي ﷺ: ما ضر عثمانَ ما فعل بعد اليوم[3].
وعبد الرحمن بن عوف حاله معروفة، ولما مات قيل: إن ما تركه من الذهب وحده قطع بين الورثة بالفئوس، لكثرته.
والنبي ﷺ كان له من فَدَك نصفها، وله من خيبر من الخمس، وكذلك أيضاً كان له ﷺ من النضير سهم فيها، فكل هذه الأموال كانت بأيديهم، ولكنها لم تدخل قلوبهم، فيكون ذلك سبباً لإفسادها، فلا بأس بل ينبغي على الإنسان ويجب عليه أن يكتسب من أجل أن يكفي نفسه الحاجة والفقر وسؤال الناس والمذلة، ويجب على المسلمين أن يأخذوا بأسباب القوة والتمكين، وذلك إنما يكون بأمور كثيرة مجتمعة من العلوم المتنوعة النافعة، العلوم الرياضية وغيرها من علوم الصنائع والتجارات، وما شابه ذلك، كل هذا تحتاج إليه الأمة، والنبي ﷺ قال: علميها رقية النملة[4]، وهو داء يصيب الجَنب، تظهر بثور حمراء ونحو ذلك على الجلد، "علميها رقية النملة"، وأرشد أحد أصحابه أن يذهب إلى رجل من أجل أن يطبب قلبه، وغير ذلك من الأمور التي تستفاد وتُعرف من سنته ﷺ ومن هديه، ومن هذا الدين الذي جاء به أن هذا الدين جاء لعمارة الدنيا، كما جاء لعمارة الآخرة.
والمقصود هنا -والله تعالى أعلم: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها أي: ما أشغل عن ذكر الله وصرف عنه.
والحديث الذي بعده يوجَّه بمثل هذا أيضاً:
والمقصود بالضيعة يعني ما يتخذه الإنسان من عقار أو زراعة أو نحو ذلك مما يشغله ويطول أمله في هذه الحياة، فتحمل هذه على هذه المعاني وإلا فالأنصار كانت لهم مزارع، وقد شاركهم المهاجرون حينما هاجروا، شاركوهم في هذه الأراضي التي كانوا يستصلحونها للزراعة، ولكن المقصود ألا يخلد الإنسان إلى الأرض ويشتغل بحطامها وينصرف عن العمل للآخرة، هذا هو المقصود، وتجمع النصوص مع بعضها من أجل أن يفهم المراد، فالإسلام ينهى أتباعه عن الاشتغال بالدنيا والإغراق فيها، والتكالب عليها على حساب الآخرة، فقط ألا يكون ذلك على حساب الآخرة.
والله قال: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195]، وقد فسرها أبو أيوب الأنصاري حينما كانوا في حصار القسطنطينية، فسر ذلك للناس الإلقاء بالتهلكة: أن ينشغل الإنسان بحروثه؛ لأن الصحابة بعد أن نصر الله دينه حدثتهم نفوسهم بهذا أن يرجعوا إلى مصالحهم، وإلى أرضهم فيصلحوها بعد أن عطلوها وانشغلوا عنها بالجهاد في سبيل الله ، فنزلت هذه الآية: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ بالانصراف إلى الدنيا والإعراض عن الآخرة، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ (4/ 565)، رقم: (2328)، وأحمد (4/ 185)، برقم: (4234)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 45)، برقم: (12).