الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب جديد، عقده المصنف -رحمه الله- في فضل البكاء من خشية الله تعالى وشوقًا إليه.
والبكاء كما ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أنواع: منه ما يكون بسبب الفرح، كما جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- في واقعة الهجرة، لما عرض النبي ﷺ على أبي بكر أن يرافقه في هجرته، فبكى أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- فرحًا[1].
وقد يكون البكاء بسبب الخوف من المخلوقين، أو من المرض، أو نحو هذا، وقد يكون بسبب الحزن.
والفرق بين الحزن والخوف: أن الحزن يكون على أمر مضى، كالذي يبكي على موت قريب، والخوف على شيء مستقبل، فيخاف من أمر من الأمور، فيغلبه هذا الخوف حتى يبكي.
وقد يكون هذا البكاء من باب المشاكلة والموافقة، رأى الناس بكوا فبكى معهم، موافقة لهم، كما جاء عن عمر لما دخل على النبي ﷺ ومعه أبو بكر الصديق فرآهما يبكيان، فسألهما عن سبب هذا البكاء، وكان مما قال: إنه إن وجد بكاء بكى، أو بكيت لبكائكما[2].
قوله: أو بكيت لبكائكما هذا هو بكاء الموافقة، يرى إنسانًا يبكي فيبكي معه موافقة له، ولا يدري ما سبب هذا البكاء، وهذا يقع أيضًا، وليس ذلك بمستبعد.
وعمر بن عبد العزيز لما بكى بكت زوجته فاطمة، وبكى أهل الدار، ولم يعلموا سبب بكائه[3].
وهناك أنواع أخرى من البكاء، أحيانًا البكاء يكون بسبب الجزع، وهناك بكاء يكون من قبيل النفاق، وذلك بالتصنع.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن المنافق يستطيع أن يبكي بعين واحدة، ثم يكف، ثم يبكي بالعين الأخرى، وإن شاء بكى بهما جميعًا، فهذا بكاء النفاق، يعني: يتصنع ذلك، يمثل، يتظاهر بالبكاء، وليس ذلك بحقيقة.
وهذا الباب في البكاء من خشية الله وهذا هو المطلوب، وهو الشيء الذي يرتفع به الإنسان، ويؤجر عليه، إذا كان ذلك بضوابطه الشرعية.
يعني: في الصلاة النبي ﷺ كان يسمع لصدره صوت أزيز كأزيز المرجل من البكاء.
مثل القِدر إذا استجمعت غليانًا، وما كان يُسمع له ﷺ صوت مرتفع في البكاء في الصلاة كما يفعله بعض الناس، وهذا ضعف.
والنبي ﷺ كان من أكمل الناس خشوعًا، بل كان أكملهم خشوعًا -عليه الصلاة والسلام- ولم يكن يرفع صوته بالبكاء، وهكذا الصحابة لربما سُمع للواحد منهم نحيب كما كان يُسمع لعمر من وراء الصفوف، دون رفع الصوت بالبكاء والعويل والصراخ، وما إلى ذلك.
والبكاء إذا كان بسبب المصيبة فإن هذا لا يحرم، والنبي ﷺ ذرفت عيناه في القصة المعروفة لما دعته ابنته ليشهد جنازة ابنها الصغير، وجاء وإذا نفسه تحشرج -نفس الصغير هذا- فبكى النبي ﷺ ولما سأله عن هذا من معه من الصحابة أخبرهم أن هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء[4].
وهكذا في قوله ﷺ : إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون[5].
فدمع العين بسبب المصيبة لا ينافي الصبر، ولا يكون من الجزع، ولا يؤاخذ عليه الإنسان، كما ثبت عن النبي ﷺ أن الله لا يؤاخذ على دمع العين، وإنما على ما زاد على ذلك من رفع الصوت رفعًا زائدًا، ولطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعر، وما أشبه هذا، فهذه هي النياحة.
هنا أورد بعض الآيات في صدر هذا الباب كعاته -رحمه الله- قال الله تعالى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء: 109].
يعني: إذا سمعوا كلام الله خشعوا، بكوا من خشية الله حينما سمعوا القرآن، والله يقول: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23].
وهنا قال: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ لماذا قدم الأذقان؟، يمكن أن يقال -والله أعلم-: إنها أول ما يقترب من الأرض من وجه الإنسان وهو يريد السجود، انظر إلى هيئة الساجد كيف يقع؟ يقع أولاً مُقدِّمًا لناحية الذقن، ثم بعد ذلك يقع أعلى الرأس وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء: 109].
وقال: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ [النجم: 59-60]، هذا إنكار على الذين قست قلوبهم فلم يتأثروا بمواعظ القرآن وآياته وتذكيره.
ثم أورد حديث ابن مسعود قال: قال لي النبي ﷺ اقرأ عليّ القرآن، قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أُنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري[6].
هذا يدل -كما استنبط بعض أهل العلم- على أن من السنة أن يطلب الناس من واحد منهم أن يقرأ القرآن عليهم، وثبت ذلك من فعل الصحابة أنهم إذا اجتمعوا أمروا أحدهم، فقرأ عليهم من القرآن.
فالنبي ﷺ طلب من ابن مسعود أن يقرأه عليه، وهذا الطلب تعجب منه ابن مسعود فقال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! لأنه فهم أن المطلوب ليس هو تصحيح التلاوة، ما طلب منه من أجل أن يصحح تلاوته، فإن هذا ليس بمحل للعجب، إنما المقصود أنه يسمع منه سماع رغبة ويلتذ بهذا السماع -عليه الصلاة والسلام-.
فتعجب ابن مسعود، كيف يطلب منه النبي ﷺ ذلك؟، وفيه أن من هو أعلى مرتبة يمكن أن يقع منه هذا لمن هو أدنى منه.
فقال: إني أحب أن أسمعه من غيري وهذا من الأمور التي يمكن أن تحرك به القلوب، أن يسمع الإنسان القرآن من غيره، إذا كان يجد قلبه في تلك الحال.
فمن الناس من قد لا يتأثر كثيرًا إذا قرأ، ولكن إذا قرأ عليه غيره فإن ذلك يشترك فيه السماع، ولربما كان أكثر تأثيرًا.
يقول: فقرأت عليه سورة النساء، حتى جئت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41].
جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وهم الرسل -عليهم الصلاة والسلام- يشهدون على أممهم، وأنهم بلغوهم، يشهدون على من آمن واستجاب وانقاد، ومن لم يؤمن وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا بعضهم يقول: "على هؤلاء" يعني: الكفار والمكذبين.
والأقرب -والله أعلم- وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ يعني: هذه الأمة المؤمن والكافر، يشهد عليهم بالبلاغ، ويشهد للمؤمن بالإيمان، ويشهد على الكافر بالكفر والتكذيب.
قال: حسبك الآن يعني: يكفيك.
يؤخذ من هذا أنه يجوز قطع القراءة لمصلحة، وأنه يقال لمن طلب منه التوقف في القراءة: حسبك، أو نحو هذا، وأمّا ما اعتاده كثير من الناس من أنه يقول: صدق الله العظيم، فإن هذا -وإن كان من ناحية المعنى صحيحًا- إلا أن المواظبة عليه أمر يحتاج إلى دليل، والنبي ﷺ لم يكن يقطع القراءة بقول: صدق الله العظيم.
يقول: فالتفتّ إليه، فإذا عيناه تذرفان. يعني: تسيلان بالدموع، لماذا بكى النبي ﷺ ؟
بكى تأثرًا من سماع القرآن لاسيما هذه الآية التي تحمل الموقف العظيم، فيحتمل أن يكون البكاء بسبب رهبة ذلك الموقف، وعظم ذلك الموقف، وهول المطلع، فيؤتى بالأمم، ويؤتى بالنبي ﷺ يشهد على أمته.
ويمكن أن يكون هذا البكاء بسبب أن النبي ﷺ رق عند ذلك، حيث يشهد على بعض أمته بالتكذيب، والجحود والكفر، فيؤخذون بهذه الشهادة، ويقادون إلى النار.
ويمكن أن يجتمع هذا وهذا، لكنه موقف عظيم، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- انظر: مسند إسحاق بن راهويه (2/ 584).
- أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم (3/1383)، رقم: (1763)
- أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب البكاء في الصلاة (1/238)، رقم: (904)، والنسائي، باب البكاء في الصلاة (3/13)، رقم: (1214)، وأحمد (16312)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/316).
- أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله -تبارك وتعالى-: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110]، (9/115)، رقم: (7377)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، (2/635)، رقم: (923).
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي ﷺ: إنا بك لمحزونون (2/83)، رقم: (1303)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته ﷺ الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك (4/1807)، رقم: (2315).
- أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب البكاء عند قراءة القرآن (6/197)، رقم (5056)، ومسلم، باب فضل استماع القرآن، وطلب القراءة من حافظه للاستماع والبكاء عند القراءة والتدبر (1/551)، رقم: (800).