الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما قبلُ:
فهذه إشارة إلى ما يتعلق بموضوع جمع الصلاة في المطر، وهذه القضية كثيرًا ما يحتاج إليها الناس، ولربما تُشكل على كثير منهم، ويكون الناس فيها بين إفراط وتفريط.
والأصل أن تُصلَّى الصلاة لوقتها، والنبي ﷺ صح عنه أن أفضل العمل الصلاة لوقتها[1]، وفي بعض الروايات في أول وقتها[2].
وكما قال النبي ﷺ: وجعلت قرة عيني في الصلاة[3].
فيسر بها، ويقبل عليها، ويجد الانشراح والسرور واللذة حينما يناجي ربه، لا أنه يتبرم بها، ويستثقلها، والجمع إنما شرعه الله من أجل التيسير، وذلك إذا وُجدت المشقة، متى ما وُجدت المشقة وُجدت الرخصة، وهذا من يسر هذه الشريعة، ليس مجرد نزول رذاذ، أو مطر مع أجواء دافئة دون هواء، ودون عناء، ودون أوحال يكون مبررًا للجمع بين الصلاتين، وإنما متى يكون الجمع؟، إذا وُجدت المشقة، متى توجد المشقة؟، إذا كان هناك مطر يبلل ثياب الناس، فيدخلون وهم ينضحون من الماء، فيجدون مشقة بسبب ذلك، فهنا يجمعون، إذا كان هناك مطر خفيف، لكن برد شديد يصعب على الناس الخروج من منازلهم فهنا يجمعون، وكذلك إن لم يوجد برد ولم يوجد مطر يُذكر، لكن بينهم وبين المسجد أوحال، لا يصلون إلى المسجد إلا بعد الخوض في هذه الأوحال، فهذه مشقة فيجمعون، فمن وُجد في حقه شيء من هذه المشقات الثلاث فله الجمع.
أما إذا وجد الهواء، والأجواء الملائمة، لا يوجد برد شديد، ولا يوجد مطر يشق على الناس، ويبلل ثيابهم، ولا يوجد هواء أو أوحال، أو نحو ذلك، فهنا ما وجه الجمع؟.
ليس له وجه، ولذلك إذا نظرتم الآن إلى أحوال الناس، كثير من المساجد جمعت مثلاً، الناس ينتشرون في الطرقات، والسيارات كثيرة، وفي كل مكان، وفي الأسواق، ما شق عليهم الخروج من منازلهم، لا بسبب مطر، ولا بسبب وحل، ولا بسبب برد شديد أقعدهم في بيوتهم، إطلاقًا.
بل هم أكثر انتشارًا بمثل هذه الأجواء من انتشارهم لربما في غيرها، فهم يرون هذه الأجواء جميلة، فلا توجد المشقة، فلا يتساهل في الصلاة، والإنسان لا يحاكي الآخرين.
من الناس من يقول: المساجد الأخرى جمعت.
وإذا جمعت المساجد!
أنا صليت اليوم الظهر في مسجد، ما في مطر، فجمعوا، ولا أعرف إلى الآن ما وجه الجمع؟ ولكني لم أجمع معهم؛ لأني لا أستحل هذا العمل.
نرجع إلى موضعنا.
أما بعد:
فهذا باب فضل الرجاء، لما تكلم المؤلف -رحمه الله- على الرجاء ذكر فضل الرجاء، وكعادته -رحمه الله- يصدر بآيات من القرآن في كل باب.
قال: قال الله تعالى -إخبارًا عن العبد الصالح مؤمن آل فرعون-: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ [غافر:28] إلى أن قال لهم: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ [غافر:44].
الحاصل أنه قال: "وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد"، أي نافذ البصر يعلم أحوالهم ومتقلبهم ومثواهم، فكانت النتيجة "فوقاه الله سيئات ما مكروا".
فهذا له تعلق بباب الرجاء من جهة أن من فوض أمره إلى الله فإن الله لا يضيع عبده الذي فوض أمره إليه، وركن إليه، وكانت ثقته كاملة بربه ، "فوقاه الله" والفاء هنا تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها.
لماذا وقاه الله سيئات ما مكروا؟، لأنه فوض أمره إلى الله، فنفوض أمورنا إلى الله فنجد منه الكفاية والحفظ والرعاية، والله يكفينا كل المخاوف، لكن هذا يحتاج إلى ثقة بالله .
ثم ذكر الأحاديث: منها حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: قال الله : أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني[4].
يعني: ما ظنك بربك؟، فالله يكون عند هذا الظن، فمن كان ظنه بالله حسنًا أن الله يكفيه، وأن الله يرزقه من حيث لا يحتسب -مع بذل الأسباب- فإن الله يفتح له أبواب السعة والرزق والخير والعطاء.
من ظن أن الله هو الذي ينجيه من الكروب، وقع في كربة، في مشكلة، في ضائقة، وكان ظنه بالله حسنًا، فإن الله يفرج له هذا الكرب، وينفس عنه الضيق مع بذله للأسباب، إن كان هناك ما يبذل من الأسباب، لكن أحيانًا تنعقد الأمور، ولا يوجد سبب أصلا، ليس بيد العبد شيء، فهنا ليس عليه إلا التسليم والتفويض لأمر الله فيأتيه الفرج، وقد تكلمنا على هذا طويلاً، وذكرنا شواهد، وأمثلة ووقائع في الكلام على الصبر بنحو ثمانية مجالس في هذا المسجد.
فأقول: ينبغي أن يحسن الإنسان الظن بالله، وهكذا عند الموت، كما يقول النبي ﷺ: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه[5].
بحيث إن الإنسان لا يسيء الظن بالله أنه لا يغفر له ولا يرحمه، ولا يتجاوز عن سيئاته، وأن الله سيدخله النار، وما إلى ذلك، لا، وإنما إذا جاء الموت يحسن الظن بأنه مقبل على رب عفو غفور رحيم، وسعت رحمته كل شيء.
لكن في حال العافية، وفي حال القوة، وفي حال الصحة ينبغي أن يخاف، وألا يغتر، وأن يعمل الأعمال الصالحة، ويجتهد في طاعة مولاه فلا يضيع، ولا يفرط، ولا يهمل.
أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني، هذا عظيم في الرجاء، لو قال للإنسان أحد من الكبراء والعظماء: أنا معك حيثما كنت، حيثما ذهبت أنا معك، في كل ما تقوله، في كل ما تراه، أنا معك لَرَأى أن هذا من أقوى التأييد، ورأى أنه ينطلق من قاعدة قوية ثابتة.
الله يقول: "وأنا معه حيث يذكرني"، هذه المعية ماذا تفيد؟ تفيد النصرة والتثبيت والرعاية، والحفظ والكلاءة، اذكر ربك يكن الله معك أينما كنت في ليل أو نهار، وفي أي مكان في بر أو بحر، في خلاء أو مع الناس، إذا ذكرته فهو معك.
قال: واللهِ لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة...[6]. وذكرنا الكلام على هذا سابقًا، إنسان أذنب وأساء في حق الله وتعدى وظلم، ثم يقول: يا رب، أنا تبت إليك، وينيب ويندم، فالله يفرح بتوبته أعظم من فرح ذلك الإنسان الذي في فلاة من الأرض، وضاعت عليه راحلته، ثم استسلم للموت، ونام تحت شجرة، فوجدها عند رأسه، كيف يفرح؟، فقال: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح، هل هناك أحد من أهل الدنيا يفرح باعتذار المسيء له -اعتذار المخطئ- من الجناية في حقه، مثل هذا الفرح؟، أبدًا.
الجيد منا -أيها الأحبة- هو الذي يقبل الاعتذار، ويقول ربما على إغماض: عفوت عنك، وأنت في حل، لكن فرح شديد بالتوبة، فرح شديد بالإنابة، والاعتذار من الخطأ، والإساءة هذا لا يوجد عند أهل الدنيا، حتى الوالد مع ولده، إذا جاء الولد يعتذر من خطأ، أو نحو ذلك، لربما ما يقبل منه، ولربما يقبل على إغماض، ويشيح بوجهه لئلا يرى الولد تقاسيم وجهه، لربما يجد علامات من الرضا لا يريد أن يظهرها للولد، فيشيح عنه بوجهه.
الله أعظم فرحًا بتوبتنا -وهو الغنيّ الغِنى الكامل- من هذا الإنسان الذي في أشد الحالات اضطرارًا، حينما ضاعت راحلته، فوجدها بعد أن استسلم للموت، من شدة الفرح ما يدري ما يقول، يريد أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك، قال: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك.
فهذا كله مما يبعث على الرجاء أن الإنسان يتوب وينيب.
قال: ومن تقرّب إليّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا...[7] فالله أعظم إقبالاً على العبد المقبل على ربه، وقد تكلمنا على هذا المعنى، وشرحناه في حديث سابق.
قال: ومن تقرب إليّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وعرفنا الباع أنه امتداد ما بين اليدين، قال: وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة.
رأيتم سرعة إقبال الله على العبد، فإذا عرف العبد هذه الأمور، وتيقنها التذّ بالعبادة، يفرح بالركعتين يصليهما، يفرح بمناجاة الله ، يفرح بالصدقة، العبد يفرح، لماذا؟.
لأنها ستقابل بمثل هذه المقابلة من رب العالمين الغني الكريم، فيجد أنه كلما ازداد من العبادة كلما شعر أنه بحاجة إلى الإكثار؛ لأنك تتقرب فالله يقبل عليك أكثر، انظروا إلى الناس في تعاملاتهم الدنيوية لو أن الواحد كلما ساهم قليلاً أعطى ألفًا جاءه ربحًا ألفان، وإذا أعطى ألفين جاءه ثلاثة، وإذا دفع أربعة جاءه ثمانية تجد الإنسان يبدأ يبيع بيته ويقدم ويبيع سيارته، ويعطي ويتدين من أجل أن يساهم من أجل أن تأتيه هذه الأرباح، ويدفع كل ما وراءه وما دونه، هل يفعل هذا في الصدقة وهي إلى سبعمائة ضعف؟، ما يفعل، لماذا لا يفعل؟، لأننا لا نستشعر هذه المعاني، وليس عندنا فيها يقين كامل.
فأسأل الله أن يرزقنا وإياكم كمال اليقين، وأن يتقبل منا ومنكم، وأن يرزقنا وإياكم الإنابة والثبات، وأن يجعل ما أنزله علينا بركة ورحمة، وعن رضا، وأن يغفر لنا.
- أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها (1/112)، رقم: (527)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله -تعالى- أفضل الأعمال (1/90)، رقم: (85).
- أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب في المحافظة على وقت الصلوات (1/115)، رقم: (426).
- أخرجه النسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء (7/61)، رقم: (3939).
- أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28] (9/121)، رقم: (7405)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى (4/2061)، رقم: (2675).
- أخرجه أحمد (22/366)، رقم: (14481).
- أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب التوبة (8/68)، (6309)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها (4/2104)، رقم: (2747).
- أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28] (9/121)، رقم: (7405)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى (4/2061)، رقم: (2675).