الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا هو الحديث الأخير في باب الرجاء، وهو:
قوله ﷺ: إذا أراد الله تعالى رحمة أمة قبض نبيها قبلها بمعنى: أن الأمم التي أهلكها الله تكون متقدمة على نبيها في الهلاك، كما أمر الله الأنبياء والمرسلين، أمر نوحًا ﷺ أن يركب في السفينة، ومن معه من أهل الإيمان، ثم بعد ذلك أغرق الله الباقين، وهكذا حينما أهلك الله تعالى قوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، فقد نجى هؤلاء الأنبياء، وأهلك الكفار، وبقي أنبياؤهم بعدهم، فإذا أراد الله رحمة أمة كان نبيها متقدمًا عليها، وليس المقصود بذلك أنه يكون متقدمًا على جميع الأفراد، وإنما المقصود: ألا تذهب الأمة برمتها قبله، هذا هو المراد، الأمة بكاملها، وأما الأفراد فإنه قد يموت بعضهم، كما هو حاصل، مات جماعة من الصحابة، كعثمان بن مظعون ، وغيره قبل النبي ﷺ.
قال: قبض نبيها قبلها فجعله لها فرَطًا يعني: متقدمًا، وأصل الفَرَط يقال في الذي يتقدم إلى الحياض، يعني: يتقدم الناس، ويتقدم المسافرين إلى حياض الماء، من أجل أن يصلح لهم الدلاء، ويصلح لهم الحياض، حتى إذا وصلوا إليها وجدوها مهيأة، فإذا سبقهم نبيهم يكون فرَطًا لهم بهذا الاعتبار.
قال: وسلفًا بين يديها، فيَرِدُون عليه ﷺ بعد ذلك الحوض، والنبي ﷺ قال للأنصار: إنكم ستلقون بعدي أثرة[2]، يعني: استئثارًا بالمال والدنيا، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، وأخبر ﷺ أن أمته تَرِدُ حوضه ﷺ، وأنه يعرفهم[3].
قال: وإذا أراد الله هلكة أمة عذبها ونبيها حي، فأهلكها وهو حي ينظر، فأقر عينَه بهلاكها، وهذا أبلغ ما يكون في قرة العين، والتشفي من الكافرين الظالمين المكذبين؛ ولهذا لما امتن الله على بني إسرائيل بعدما أنجاهم قال: فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة:50]، فالهلاك قد يحصل لهم وعدوهم بعيد عنهم لا يراهم، فلا يحصل له التشفي الكامل، قد يكون هلاكهم في مكان بعيد، لكن إذا هلكوا وهو يشاهد هلكتهم فإن ذلك يكون فيه قرة العين، وأبلغ من ذلك: إذا كان هلاك هذا العدو على أيديهم، يعني: لا بآفة سماوية مثلاً تنزل بهم؛ ولهذا قال الله -تبارك وتعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة:14].
على كل حال، ما الشاهد هنا في إيراد هذا الحديث في باب الرجاء؟ ما علاقة هذا الحديث بباب الرجاء؟ الأقرب أن العلاقة -والله تعالى أعلم، -وهي ظاهرة إن شاء الله: أن هذه الأمة لما كان نبيها ﷺ قد قبض وتوفي قبلها كانت أمة مرحومة بهذا الاعتبار، فهي أمة مرحومة، لم يُرِد الله هلكتها، وإلا لعذبها ونبيها حي، -أهلكها ونبيها حي، فلما قبض رسول الله ﷺ، وبقيت هذه الأمة، دل ذلك على أن الله أراد بهذه الأمة الرحمة، ومن أهل العلم من يقول غير هذا، ولكن هذا ظاهر من الحديث -والله تعالى أعلم- لأدنى نظر وتأمل، فهذه أمة مرحومة، وإذا كان كذلك، فهذا يبعث على الرجاء، فإن الرجاء إنما يكون برؤية دلائل الرحمة، وبدنوها وقربها من العباد، فنسأل الله أن يرحمنا جميعًا، وأن يتولانا بعفوه، وأن يعاملنا بإحسانه، وألطافه، وألا يؤاخذنا بذنوبنا، وما فعل السفهاء منا، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب إذا أراد الله تعالى رحمة أمة قبض نبيها قبلها، رقم: (2288).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، رقم: (4330)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه، رقم: (1061).
- أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، رقم: (247).