الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل، وتقديمهم على غيرهم، ورفع مجالسهم وإظهار مرتبتهم أورد المصنف -رحمه الله-:
يمسح مناكبهم؛ لأن تسوية الصفوف مطلوبة، بل إن من أهل العلم من قال: إنها واجبة لا تصح الصلاة إلا بها، وكان النبي ﷺ يسوي الصفوف كما يسوي القِداح، ويمسح مناكبهم بيده ﷺ، فكان يفعل ذلك بهذه الطريقة، وكان أيضاً يقول لهم ﷺ: لا تختلفوا، يقول: استووا ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم، وهذا يدل على أن الفاء هنا للتعليل، وهو يدل على أن الاختلاف في الظاهر يؤثر في الاختلاف في الباطن والقلوب، وهذا أمر معلوم، كما قال النبي ﷺ: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب[2]، فالقلب إذا حصل فيه الصلاح انقادت له سائر الجوارح، وكذلك أيضاً هذا القلب والباطن يتأثر بما يحصل للإنسان في الظاهر، ولذلك نهينا عن التشبه بالكفار، والتشبه بالحيوانات، والتشبه بالشيطان، كل ذلك لأن هذا ينعكس على باطن الإنسان فيتأثر، فإذا تشبه الإنسان مثلاً بأحد من الكافرين فإنه يجد في نفسه انجذاباً له، كما لا يخفى، فهنا النبي ﷺ يقول: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليَلِنِي منكم وهذا هو الشاهد أولو الأحلام والنهى.
الأحلام: جمع حِلم، والمقصود بهؤلاء أهل العقول الراجحة والرزانة والتؤدة، والنظر الصحيح في الأمور، فهم أولو الأحلام، ويقابلهم السفهاء وأهل الرعونات وأهل الجهالات والخفة.
قال: أولو الأحلام والنهى يعني: أصحاب العقول، والنهى: جمع نُهْية، وقيل له ذلك، قيل: لأنه ينهى صاحبه عما لا يليق، عن مقارفة ما لا يجمل ولا يحسن بالإنسان أن يفعله، وقيل: لأن صاحبه ينتهي إلى ما يأمره به عقله، فالعقل يأمر الإنسان فينتهي عنده، ويستجيب له، أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم يعني: الذين يلون الإمام ينبغي أن يكونوا من أهل هذه الصفة، من أجل أن الإمام إذا أخطأ في آية يردون عليه، وإذا نابه شيء في الصلاة فإنه يمكن لواحد منهم أن يتقدم ويصلي بالناس، أما إذا صلى خلف الإمام من لا يفقه ولا بصر له، وإذا أخطأ الإمام لا يستطيع أن يرد عليه، فإن هذا لا يحصل به المقصود، ولذلك نجد أحياناً تقع بعض الأشياء الغريبة، أنا شهدت موقفاً في أحد المساجد الإمام لما كبّر تذكر أنه لم يتوضأ، وقد صلى ركعة ثم قام من السجود للركعة الثانية، ثم تأخر وقدم شخصاً خلفه، هذا الرجل الذي قدمه لا أدري كيف صنع، يعني: الإمام هو رفع من السجود الآن، فإذا بالشخص الذي قُدم يسجد مرة أخرى مباشرة ويكبّر، والناس يسجدون معه، ومنهم من هو قائم، وسجد سجدة واحدة ثم قام، ولم يسجد الثانية.
فمن الناس من جلس، ومنهم من كان قائماً، ومنهم من لا يدري أصلاً لم يكن متابعاً، يعني: من الناس من يسهو فيرتبك في مثل هذه الحالات، فلما انقضت الصلاة وإذا بالتنازع من جميع أطراف المسجد، وبصعوبة يفهم الإنسان حقيقة ما يجري؛ لأن كل إنسان يقول كلاما آخر، فمن الناس من يجادل على أساس أن الإمام سجد سجدة واحدة.
ومنهم من يقول: لم يقرأ الفاتحة حينما قام أصلاً إنما سجد مباشرة، فالحاصل أنه حصلت عدة أمور، وجلس الناس في لغط.
وهذا يقول له: قم صل ركعة الآن، والآخر يقول: لا، نعيد الصلاة، وقامت طائفة وأقاموا، وبدءوا يصلون، وإمام المسجد لما رجع متوضئًا بقي في حيرة لا يدري ما الذي حصل من الإمام، وكل واحد من هؤلاء الناس يقول له بقول، فهذا نتيجة إذا صلى خلف الإمام من لا فقه له.
فالشاهد في هذا الحديث أن النبي ﷺ أمر أن الذي يليه يكون من هؤلاء من أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ولذلك فإن هؤلاء هم الذين يكونون خلف الإمام، والصبيان يكونون في الصف الذي يليهم، والنساء يكونون خلف هؤلاء جميعاً، قال: رواه مسلم.
يعني: قال ذلك ثلاثًا، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
وإياكم وهيشات الأسواق، والمقصود بهيشات الأسواق: ما يحصل فيها من اللغط والصخب ورفع الأصوات والجدال، ولربما يصل إلى عراك بين الناس، وملاسنة، وخصومات وخلاف بينهم على البيع والشراء؛ لأن الأسواق -كما هو معلوم- يغرز الشيطان بها رايته، والنبي ﷺ أخبر بأن أحب البقاع إلى الله مساجدها وأن أبغض البقاع إلى الله أسواقها[2]، فالسوق مجال للشيطان واسع جداً لإيقاع الشحناء بين الناس والمشاكل والمخاصمات، وتحضر فيه حظوظ النفس، والأموال، يعني: الله قال: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، فيحصل من كثير من الناس أمور غير لائقة في مثل هذه الأسواق، والمؤمن يرفع نفسه عن هذا، ومروءته تمنعه من أن يشاركهم في مثل هذه القضايا، وقد جاء في وصف النبي ﷺ في الكتب السابقة: أنه ليس بصخاب في الأسواق، والصخب هو رفع الصوت.
هذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول، والمسابقة إليها، وتقديم أولي الفضل، وتقريبهم من الإمام، (1/ 323)، برقم: (432).
- أخرجه البزار في مسنده البحر الزخار (8/ 353)، برقم: (3430) عن جبير بن مطعم بلفظ: أحب البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق.