الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب حق الجار والوصية به أورد المصنف -رحمه الله-:
حديث أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: يا أبا ذر، إذا طبختَ مرقةً فأكثِر ماءها أي: إذا طبخت لحماً فأكثر ماءه، وتعاهد جيرانك[1]. رواه مسلم.
وفي رواية له عن أبي ذر قال: إن خليلي ﷺ أوصاني: إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر أهل بيتٍ من جيرانك فأصبهم منها بمعروف[2].
هذا الحديث فيه حث على ملاحظة الجار، والعناية به، وأن يتذكر الجار جاره مما يصنعه لنفسه أو لأهله. قديماً وإلى عهد قريب ولا زال هذا في كثير من بلاد المسلمين الناس لا يجدون شيئاً يأكلونه، ويبيت الواحد منهم طاوياً، ولربما لم يصنعوا طعامهم إلا بشيء من المعاناة والمشقة، ثم بعد ذلك يجد جيرانهم رائحة هذا الطعام، قد يكون فيهم الأرامل والأيتام والفقراء، فلا شك أن قلوبهم تتأثر بمثل هذا الذي يحصل لجيرانهم وما يتمتعون به، وهم بمنأى عن ذلك كله، فالشرع جاء بمراعاة قلوب الناس وجبرها، والإحسان إليهم ولو بالشيء اليسير، فإذا بعث إليهم شيئاً من هذا الطعام أو من هذا الماء الذي لا يخسر من جرائه شيئاً فإن ذلك له أبلغ الأثر في نفوس هؤلاء، ولربما في سد جوعتهم، وقطع تعلق أنظارهم بهذا الصنيع، أو هذا الطعام الذي صنعه.
والناس إلى عهد قريب كانوا لا يجدون شيئاً يأكلونه، كانوا يدخرون العظم منذ عيد الأضحى إلى عيد الأضحى، يضعونه في الطعام من أجل رائحة اللحم، فنحن الآن قد لا ندرك هذه المعاني، أن الإنسان إذا طبخ يُكثر من المرق، وكثير من الناس قد يقول: إنهم ليسوا بحاجة، نقول: حتى ولو كانوا بغير حاجة، انظر إلى حالك أنت حينما يهديك أحد الجيران ولو شيئاً يسيراً من طعام فإنك تقدر ذلك له، ويقوم في نفسك معنىً وهو أن هذا الجار يذكرك، وأنت منه على بال، وأنه معنيٌّ بجاره، ولهذا قال النبي ﷺ: وتعاهد جيرانك، وتعاهُد الجيران لا يكون بمرة واحدة أن تعطيهم وانتهى، قبل سنة أو سنتين أو نحو ذلك، إنما تعاهُد الجيران بأن يلاحظهم مرة بعد مرة، لا يكاد يمر به أسبوع أو ثلاثة أيام إلا ويعطي أحد الجيران، ولو كانوا أغنياء، فإن ذلك يقوي الروابط والوشائج والصلات، أما إذا كانوا فقراء فلا شك أن هذا آكد كما سيأتي في الحديث الذي بعده نفي الإيمان عمن بات شبعان وجاره جائع، فأقول: هذه مشاعر، وهذه أخلاق، وهذه أحاسيس يربيها الإسلام في نفوس الناس؛ ليحصل الترابط في المجتمع والمحبة وما أشبه ذلك، ومن الناس من يهمس همساً، إذا كانت البيوت متجاورة متقاربة، لاسيما قديماً مع صغر البنيان، يهمس إذا أراد أن يذبح ذبيحة؛ لئلا يسمع الجيران، ويهمس إذا أراد أن يحضر طعاماً أو نحو ذلك؛ لئلا يسمع بذلك الجيران، وما يضره أن يعطيهم؟، وإذا دخل وأبناء هؤلاء الجيران في الشارع يعطيهم مما اشترى من حلوى ومن فاكهة ونحو ذلك، فهؤلاء مهما كان سيفرحون بهذا، والناس لطالما استشعروا هذا العطاء وقدروه، ووقع في نفوسهم موقعاً، ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يحقر مثل هذه المعاني، ويقول: الناس في غنىً عن هذا القليل.
والنبي ﷺ يقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة[3] ويقول : لا تحقرنّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق[4]، أي: بوجه متبسم، طلاقة الوجه، وإهداء الطعام والثياب، وإهداء الكلمة الطيبة، المقصود: أن الإنسان يصدر منه ما ينفع به الآخرين، أما أن يبقى الإنسان سلبيًّا يدخل ويخرج، جيرانه لا يعرفونه، لا يصل منه إليهم شيء، ولا يدري عن حالهم ولو كانوا يموتون من الجوع والعري، وقد وُجد في بعض من لم يذهب أولادهم إلى المدرسة في الأسبوع الأول من الدراسة أنهم لم يذهبوا؛ لأنه ليس عندهم ملابس تصلح، ووُجد من جلس في بيته ولم يخرج ولم يُرَ في العيد، وبعد التتبع والنظر والتحري تبيّن أنهم لا يجدون ثياباً يستطيعون الخروج بها مع الآخرين، ثيابًا حسنة جديدة أو نظيفة على الأقل في يوم العيد، تستغربون هذا؟ هذا لا يستغرب، هذا موجود، ونحن نعرف هذا من حال الناس جيدًا، ونعرف أكثر من هذا، الناس لهم أحوال لا يعلمها إلا الله ، منهم من كسرتهم الديون وأرهقتهم، وتقع بسبب ذلك كثير من المشاكل ويقع الطلاق، من الناس من يستفتي ويسأل عن تطليق امرأته بسبب أنه لا يجد شيئاً، فيقول: أنا الآن أمام حال لا أجد إلا أن أتدين أو أدخل في أمور من الحرام، ولا أريد أن أمد يدي للناس، يوجد من الناس من يحلف ويسأل في مسألة تتعلق بالكفارة، هل يجوز لي الصيام أو لا يجوز لي؟، وهل الصيام بالتتابع أو ليس بالتتابع؟، نقول له: لا، ألا تستطيع أن تطعم عشرة مساكين؟ يقول: ليس عندي شيء، نقول: بعد أسبوع، بعد شهر، يقول: لا أجد شيئاً، كفارة يمين، وأما أيام عيد الأضحى فلا تسل عن حال الناس، لا أحصي عدد الذين يسألون عن الاشتراك في الأضحية، ثلاثة، أربعة، خمسة يريدون أن يشتركوا في أضحية، ولا يستطيع أحدهم أن ينفرد بأضحية عن نفسه، وكذلك كثير من الناس يسأل عن الاقتراض من أجل الأضحية، وبعضهم يسأل يقول: إذا وهبني إنسان أضحية هل تجزئ عني أو لا تجزئ؟ وأنت لماذا لا تشتري؟ يقول: ليس عندي شيء، فمن الناس من هم فقراء لا يعلم بحالهم إلا الله -تبارك وتعالى، فلو كل إنسان تعاهد جيرانه وتعرف على أحوالهم لما وجد هذا الإنسان الذي يعيش في حال لربما بقي أياماً، بل أسابيع أحياناً وهو لا يجد حتى ما يدفع به فاتورة الكهرباء، يُقطع عليه، ومنهم من لا يجد أجرة يدفعها لصاحب الدار التي يستأجرها، ما عنده، ويخرج ولا يدري أين يذهب، أحوال لا يعلمها إلا الله -تبارك وتعالى، لكن الغني يظن أن الناس كلهم مثله، ويظن أنه لا يوجد أحد فقير، أو محتاج، وكل الناس أغنياء، وما عليه إلا أن يخرج البطاقة ويذهب إلى أكبر سوق ويشتري ما يريد، هو يظن أن الناس مثله، ولذلك كثير من الناس لا يصدق هذا الكلام، يقول: هذا عندنا؟، هذا غير معقول، لا يكاد يصدق أن هذا الأمر موجود، أما في البلاد الأخرى التي تجاورنا فحدث ولا حرج، يبيعون كل شيء في بيوتهم، يبيعون الثلاجة والغسالة والنوافذ والأبواب، ثم بعد ذلك تضطر المرأة أن تبيع عرضها، هذا موجود في العراق، وموجود في بعض البلاد، هذا أيام الحصار قبل الحرب، حصار أكثر من عشر سنين، دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض[5]، أمة كاملة تحبس أكثر من عشر سنين، لا يصل إليهم شيء، يموت ملايين الأطفال، فهذه المرأة ترى ولدها درجة حرارته مرتفعة وما عندها شيء، فتبيع أثاث البيت، هذا موجود، وحصل، ثم بعد ذلك تضطر إلى بيع عرضها، وما يكتشف أمرها إلا بعد الإنكار عليها، أنت من أسرة، أنت من ناس، أنت من قبيلة، كيف تفعلين هذا؟، يوجد في كثير من البلاد الناس يشترون البيض بالبيضة الواحدة، البيضة يصل سعرها إلى أكثر من خمسة ريالات في بعض البلاد، يشترون بالبيضة الواحدة.
فنحمد الله على هذه النعم التي أفاضها علينا، فيجب على الإنسان أن يتلمس حاجات الناس، وأن ينظر فيها، ولا يكون همه نفسه فقط، والله يقلب الأمور، يقلب الأحوال، قادر على أن يجعل هذا الإنسان الغني يتحول إلى فقير، أن يتحول أولاده من بعده فقراء، لا يجدون شيئاً، كما قال الله : وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا [النساء:9]، والعالم قديماً وحديثاً فيه كثير من هذه العبر في تقلب أحوال الناس، وتحولهم من غنىً إلى فقر، كم من أناس كانوا من التجار ومن الأغنياء، ثم بعد ذلك حصلت لهم ورطات في تجاراتهم، ثم بعد ذلك تحولوا إلى فقراء، وديون، وهمٌّ بالليل، وهمٌّ في النهار، ومآسٍ لا يعلمها إلى الله .
نسأل الله أن يلطف بنا وبإخواننا المسلمين، وأن يقضي دين المدينين، وأن يغني فقراء المسلمين، وأن يعيننا على أنفسنا، ويقينا وإياكم الشح والبخل، وأن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة، باب الوصية بالجار، (4/ 2025)، رقم: (2625).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة، باب الوصية بالجار والإحسان إليه، (4/ 2025)، رقم: (2625).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة (2/ 110)، رقم: (1417)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، (2/ 704)، رقم: (1016).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، (4/ 2026)، رقم: (2626).
- أخرجه البخاري، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (4/ 130)، رقم: (3318)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، (4/ 2110)، رقم: (2619).