الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب حق الجار أورد المصنف -رحمه الله-:
حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه[1]. متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه[2].
وقول النبي ﷺ: والله لا يؤمن، نفيُ الإيمان هنا ليس معنى ذلك أنه يكون كافراً، وإنما إذا ورد مثل هذا النفي فإن كانت دلائل الكتاب والسنة تدل على أنه لا يخرج من الإسلام وينتفي عنه الإيمان إذا واقع هذا الفعل فإن ذلك يحمل على نفي الكمال الواجب، بمعنى أنه يكون قد نقص من إيمانه الواجب فيكون مستحقًّا للعقوبة؛ لأن كمال الإيمان منه ما هو مستحب، ومنه ما هو واجب، فالأصل أن النفي يتوجه للذات، فإن كانت موجودة فإنه يتوجه إلى الصحة، فإن دلت الأدلة على أن الصحة حاصلة فإنه يتوجه إلى الكمال الواجب، فإن دل الدليل على أن ذلك من الكمال المستحب قيل به، فهنا إذا نفى الإيمان في مثل هذا، وقال: لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه ، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين[3]، ونحو هذا فهذا يدل على أن ذلك من الكمال الواجب، وأن صاحبه إن قصر به فإنه يكون تحت المشيئة، إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له.
والله لا يؤمن قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه، والبوائق بمعنى: الغوائل والشرور، أي: أن جاره يتخوف أو يتوقع منه أن يوصل إليه شرًّا، فهو لا يأمن شره، ولا يأمن أن يخلفه في أهله أو في ماله، أو في ولده، أو نحو ذلك بسوء، يتوقع منه أن يكون سبباً لإيصال الأذى إليه، إما بنفسه، وإما بغيره، بمعنى أن هذا الجار قد يعتدي بنفسه هو فيسرق من دار جاره، أو يعتدي على عرضه أو نحو ذلك، وقد يدل الآخرين، كأن يخبرهم أن هذا الجار الآن مسافر، أو أنه قد خرج من داره، فيتوصلون إلى سرقة هذه الدار، أو انتهاك العرض أو نحو ذلك عن طريق هذا الجار.
فالجار يطلع على ما لا يطلع عليه غيره من الأمور المتصلة بهذا الجار، فالواجب عليه أن يحفظه في غيبته، وأن يستره، ولهذا في ذكر الذنوب العظام ذكر النبي ﷺ: أن تزاني حليلة جارك[4]، فهذا أعظم من الزنا بالمرأة الأجنبية؛ لأن هذا الجار له حق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنه قد يستطيع أن يتوصل إليها دون أن تحصل ريبة من الآخرين في بعض الحالات، مثل الذين يسكنون في الشقق مثلاً، يخرج من هذا الباب ويدخل في هذا الباب دون أن يشعر الناس، لكن حينما يأتي إنسان من الخارج، إنسان بعيد يوقف سيارته، وينزل ويمشي، والناس يستنكرون مجيئه ودخوله في هذا الشارع، ووقوفه هنا، وأي بيت دخل، أو حينما يخرج، فهذا أمر مستغرب، لكن الجار يدخل ويخرج والناس لا يستغربون وقوفه، ولا مشيه، ولا دخوله، ولا مخرجه، وقد تكون العلاقة وثيقة بين الجيران، فتخرج المرأة إلى بيت جيرانها، ولا يُستنكر هذا، تقول لزوجها وهو حاضر: أريد أن أذهب إلى الجيران، وقد لا تكون زوجته موجودة فتواعد هذا الرجل أو لا تواعده فيغدر بها، فيستطيع أن يتوصل إلى هذا بسهولة، ولهذا جاء التشديد في هذه القضية،من لا يأمن جاره بوائقه ، غوائل هذا الجار وشروره إذا كانت تصل إلى جاره، وقد أوصى به جبريل ﷺ، أوصى الشرع بالجار حتى ظن النبي ﷺ أنه سيورثه، فكيف أن يخلفه بسوء، ويوصل إليه الأذى، ويحصل منه الشر لهذا الجار؟.
فهذا أمر خلاف مقصود الشارع، فينبغي للإنسان أن يكون سبباً لكل خير إلى جاره، فإن لم يستطع هذا فيكف شره، ولا يصل إليه أذىً من طريقه، وكف الشر أحياناً يكون صدقة، كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب إثم من لا يأمن جاره بوايقه، (8/ 10)، رقم: (6016)، ومسلم بلفظ: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه، (1/ 68)، رقم: (46).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان إيذاء الجار، (1/ 68)، رقم: (46).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب حب الرسول ﷺ، (1/ 12)، رقم: (14)، ومسلم، باب محبة الرسول ﷺ (1/ 67)، رقم: (44).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب قوله تعالى: فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [البقرة:22]، (6/18)، رقم: (4477)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب، وبيان أعظمها بعده، (1/ 90)، رقم: (86).