الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب حق الجار أورد المصنف -رحمه الله-:
لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبةً، وضبطه بعضهم: أن يغرز خشبه في جداره، والمعنى يرجع إلى شيء واحد، أن يغرز خشبه هذا جمع، فهنا أن يغرز خشبةً في جداره إذ ضمير الهاء في جداره يحتمل أن يرجع إلى جدار نفسه، ما علاقة الجار بهذا؟ علاقة الجار بهذا أن هذا الخشب الذي يضعه الإنسان في جداره -في جدار بيته- قد يتسبب في أذية الجار، كأن يكون مثلاً يحجب عنه الشمس، يحجب عنه الضوء، يتسبب له بأي سبب، أن يغرز خشبةً أو خشبه في جداره.
والمعنى الثاني وهو الأقرب -والله تعالى أعلم، ونقول: الأقرب؛ لأنه لا يمتنع على الإنسان أصلاً ولا يستطيع جاره أن يمنعه من أن يتصرف في جداره، في جدار بيته، في جدار نفسه، يتصرف الإنسان في ملكه كما يريد، ولا يستطيع جاره أن يمنعه من ذلك.
المعنى الثاني وهو الأقرب في المراد بهذا الحديث أن يغرز خشبه أو خشبة في جداره أي: في جدار الجار، يعني: خشبة في ملك غيره، هذا الجدار ملك للجار، هذا الإنسان يحتاج أن يغرز خشبة لسقف، في السابق كانت الأسقف خشبًا، فيحتاج لربما جدار الجار لوضع الخشب عليه ليسقف سقيفة، ليضع شيئاً يعلق به، أو غير ذلك، فالنبي ﷺ نهاه أن يمنعه من هذا.
هذه المسألة ذكر العلماء قاعدة فقهية تتعلق بها، وهي: أن من الأشياء ما يُطلب فيه الإذن ويسقط بالامتناع، يُطلب فيه الإذن لماذا؟ تطييباً للقلوب، لإزالة أسباب الشحناء، ودفعًا لأسباب الخصومة بين الناس، لماذا تغرز على جداري خشبة دون أن تستأذن؟، فهذا يطلب فيه الإذن ويسقط بالامتناع، بمعنى لو أنه امتنع من هذا الجار، وقال: ما تضع خشبك على جداري، فإنه شرعاً يسقط إذنه؛ لأنه منهي عن هذا أصلاً، لا يمنعْ جار جاره.
وفي هذا مسألة وهي: أن ما لا يتضرر المكلف من بذله فعليه أن يبذله، والامتناع من ذلك يدل على ضيق النفس، وقلة المعروف؛ لأنه لا يخسر شيئاً، ولهذا قال الله : الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:6-7]، ومعنى يمنعون الماعون: أي: يمنعون بذل ما لا يتضررون ببذله، مثل: الفأس والملعقة والقدر، وما أشبه ذلك، أشياء لا يتضرر ببذلها، كذلك لو وُضعت الخشبة على جداره، هو لا يتضرر بهذا، فلماذا يمتنع؟!.
فالجار له حق، وينبغي أن يبذل له هذا الحق، وهذه من المباذل التي لا ضرر فيها على الجار، فإذا كان يمتنع من هذا فمما هو أعلى منه من باب أولى، لو قيل له: أعطِ جارك، وواسه من مالك، فهل سيوافق؟ إذا كان مجرد وضع الخشبة يمتنع منها!.
فالحاصل أن الجيران ينبغي أن يكون بينهم من المحبة والمواساة والمسامحة الشيء الكثير، يقول أبو هريرة : ما لي أراكم عنها معرضين، أي: لا تطبقون ذلك، ولا تعملون بمقتضاه، والله لأرمين بها بين أكتافكم، أي: بينكم، هو أراد أن يبكتهم بهذا كالذي يرمي غيره بالشيء ليؤدبه، ويعزره بذلك.
متفق عليه.
هذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره (3/ 132)، رقم: (2463).