الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
(1) شرح مقدمة الباب وحديث أنس رضي الله عنه كان أبوطلحة رضي الله عنه أكثر الأنصار بالمدينة مالا
تاريخ النشر: ٢١ / محرّم / ١٤٢٨
التحميل: 476
مرات الإستماع: 1962

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فهذا باب جديد، وهو:

باب: الإنفاق مما يحب ومن الجيد.

لما ذكر المصنف -رحمه الله- أبوابًا تتعلق بالنفقة على العيال، وما إلى ذلك ذكر هنا هذا الباب؛ ليبيّن الشيء الذي ينفق منه، فقال: "باب الإنفاق مما يحب ومن الجيد".

قال الله تعالى: لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [ آل عمران:92] لَن تَنَالُوا الْبِرَّ يعني: لن تنالوا البر حقيقة، أو لن تنالوا حقيقة البر، أو لن تنالوا كمال البر حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ويحتمل: أن يكون المراد: لن تنالوا الدرجات العالية عند الله والجنة، حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وذلك أن المال محبوب لدى الإنسان، كما قال الله : وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ [ العاديات:8] يعني: المال لَشَدِيدٌ وقال: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20] فجبل الإنسان على محبة المال، فإذا بذله وأنفقه في سبيل الله، وجادت نفسه به، فهذا يدل على صدق إيمانه، وعلى علو مرتبته، وعظيم مجاهدته؛ ولهذا قال النبي ﷺ: والصدقة برهان[1]، فهي برهان على صدق دعوى الإيمان التي ادعاها هذا الإنسان.

وقال تعالى: أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267]، الجملة الأولى: أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ أي: ليس من الرديء، ثم بيّن ذلك بيانًا جليًا فقال: وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ أي: لا تقصدوا الخبيث، وهو الرديء مما عندكم من المال تنفقونه، وقال: وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ يعني: لو دفع إليكم، إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ بمعنى: أنكم تأخذونه على إغماض، على شيء من الاستحياء والمجاملة، ثم يأخذه الإنسان بهذه اليد، ثم يخرجه من الناحية الأخرى، يتخلص منه.

وكذلك أيضًا إذا أراد الإنسان أن يتصدق، فإنه لا يقصد الرديء من الطعام واللباس، وما إلى ذلك، فيخرج ذلك، ويكون هذا هو نفقته، والنبي ﷺ حينما رأى رجلاً، أو حينما رأى عذقًا من شيص قد علق في المسجد، قال: إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة[2]، والإنسان تحت ظل صدقته في الآخرة.

ثم ذكر حديث:

"أنس قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد، وكان رَسُول اللَّهِ ﷺ يدخلها، ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [ آل عمران:92] قام أبو طلحة إلى رَسُول اللَّهِ ﷺ فقال: يا رَسُول اللَّهِ إن اللَّه تعالى أنزل عليك: لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإن أحب مالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله تعالى، أرجو برها وذخرها عند اللَّه تعالى، فضعها يا رَسُول اللَّهِ حيث أراك اللَّه، فقال رَسُول اللَّهِ ﷺ: بخ! ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة: أفعل يا رَسُول اللَّهِ، فقسمها أبو طلحة في أقاربه، وبني عمه" متفق عليه[3].

"بيرحاء" هذه تقرأ بوجوه مختلفة، بفتح الباب، وبكسرها، وبفتح الراء، وبضمها، وبالمد وبالقصر، يعني: في آخرها الألف. قال: "وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، هي مقابلة للمسجد، المعروف أنها من الناحية الشمالية، يعني: عكس القبلة، على يسار الداخل من المبنى القديم، وهي الآن داخلة في التوسعة الجديدة.

يقول: "وكان رسول الله ﷺ يدخلها، ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] جاء أبو طلحة إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إن الله تعالى أنزل عليك: لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإن أحب مالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله تعالى، أرجوا برها، أي خيرها، وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله ﷺ: بخٍ، ذلك مال رابح".

بخ: هذه كلمة يقولها الإنسان للتفخيم، وإبداء الإعجاب بالشيء بخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين يعني: في قرابتك.

وهذا مطابق لما ذكرناه في الأحاديث السابقة من أن أفضل الصدقة ما أنفقه الإنسان على عياله، ثم بعد ذلك على القرابة؛ لأنها تكون صلة وصدقة في آن واحد.

"فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه، وبني عمه" متفق عليه.

طبعًا جاء في بعض الروايات: أنه أعطى كعب بن مالك، وأعطى حسان بن ثابت ، وهؤلاء يلتقون معه في الجد السابع، مما يدل على أن القرابة يشمل هؤلاء جميعًا.

فعلى كل حال في بعض الروايات: أن النبي ﷺ قال له: ذلك مال رايح يعني: رايح عليك نفعه، ويرجع إليك نفعه.

فهذا الحديث يدل على استجابة الصحابة لمثل هذه الآيات لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] مباشرة، حيث ذهب وبحث عن أفضل ماله، ثم تصدق به.

وعمر قال: "أحب مالي إلي سهمي في خيبر"[4]، وجاء وتصدق به.

وكانت له أيضًا جارية اشتراها من سبي جلولاء، فتصدق بها[5].

وجاء ابن عمر لجارية كانت أحب شيء إليه، وتصدق بها؛ لما سمع هذه الآية[6].

وكذلك أيضًا زيد بن حارثة كان أحب ماله إليه فرس، يقال له: شبلة، فتصدق به، وجعله في سبيل الله[7].

فهكذا الإنسان ينبغي عليه إذا أراد أن يتصدق أن يبحث عن أفضل المال، ويتصدق به، لا أنه يبحث عن الأشياء التالفة، والأشياء التي لا يمكن أن يستفاد منها، والملابس الرديئة، والأطعمة التي قد أوشكت على الذبول والفساد، فيتصدق بها، وإنما يتصدق من أفضل ما يجد، فإنه سيجد ذلك عند الله -تبارك وتعالى-، وإلا فكما قال النبي ﷺ: إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة[8].

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء برقم (223).
  2. أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة برقم (1608) وحسنه الألباني.
  3. أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب برقم (1461) ومسلم في الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد... برقم (998).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف برقم (2737) ومسلم في الوصية، باب الوقف... برقم (1632).
  5. حياة الصحابة (2/405).
  6. حياة الصحابة (2/405).
  7. حياة الصحابة (2/408).
  8. أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة برقم (1608) وحسنه الألباني.

مواد ذات صلة