الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفة والمساكين والمنكسرين" أورد المصنف -رحمه الله-:
من عال جاريتين معنى عال أي قام عليهما بالنفقة، والرعاية والتربية، وما إلى ذلك، والمراد بالجاريتين يعني البنتين، ومن أهل العلم من وسع معناه؛ وذلك أن الجارية تطلق على البنت وتطلق على الأمة إلى غير ذلك، فالمقصود أن من أهل العلم من لم يخص ذلك بالبنات عال جاريتين يعني له أو لغيره، بمعنى لو كانت هؤلاء الجواري من عماته أو خالاته أو أخواته أو نحو هذا.
قوله: من عال جاريتين حتى تبلغا والبلوغ بالنسبة للمرأة معروف، يكون بالاحتلام، أو نبات الشعر الخشن حول القبل، أو الحيض، فهذا ما يعرف به بلوغ الجارية، أو أن تكمل خمس عشرة سنة إذا لم يحصل شيء من ذلك، قال: حتى تبلغا، من أهل العلم من قال: ليس المراد هنا بقوله: حتى تبلغا أنها تصل إلى سن البلوغ، وذلك أنها لا تكون مستغنية عن الرعاية والتربية والتوجيه والإصلاح والنفقة وما إلى ذلك، بل هي بحاجة إلى هذا أكثر من حاجتها حينما كانت طفلة صغيرة، تحتاج نفقة تستغني بها؛ لئلا تبيع عرضها، تحتاج إلى رعاية؛ لئلا يطمع فيها الطامعون، بخلافها حينما كانت صغيرة، ليس لها من العمر إلا سنة أو نحو هذا، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن رعاية الجارية والقيام عليها يكون حتى تتزوج، فتكون مستغنية بالزواج، وأما قبله فلا؛ لأنها ليست كالرجل يذهب ويعمل ويكتسب ويستغني ونحو هذا.
يقول: جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين، بمعنى أنه يبلغ عند الله منزلةً بعملٍ تدعو إليه فطرته وجبلّته؛ لأن الإنسان قد جُبل وفطر على محبة الأولاد من الذكور والإناث، والشفقة عليهم والحُنو، فهو ينفق ماله، ولا يستكثر شيئاً مما ينفقه عليهم، فهذه جبلّة، ويكتسب -ولربما يحمل همًّا ويتغرب- من أجل هؤلاء الذين تحت يده، ومع ذلك جاء يوم القيامة بهذه المنزلة، لكن هذا لا يقتصر على مجرد النفقة، وإنما يبينه الحديث الآخر:
"دخلت عليّ امرأة ومها ابنتان لها تسأل"، يعني تطلب العطاء والصدقة، "فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة واحدة"، هذه أم المؤمنين أحب أزواج النبي ﷺ إليه، بنت الصديق الذي وُزن بالأمة من غير النبي ﷺ، ما في بيتها غير تمرة واحدة، بيت أشرف الخلق وأكرم الخلق، فلو كانت الدنيا حين تساق إلى الإنسان خيراً في كل الحالات لكان أولى الناس بهذا النبي ﷺ، تقول: فأعطيتها إياها، وفي هذا أن الإنسان لا يحقر من المعروف شيئاً ولو تمرة، اتقوا النار ولو بشق تمرة[3]، تقول: "فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها"، وهذا بداعي الشفقة، ما جُبل عليه الوالد من محبة الأولاد، وتقديم هؤلاء الأولاد على نفسه، ولذلك الشباب الذين لم يتزوجوا لم يجربوا هذا، لم يعرفوه، قد يحصل منهم بعض الاستطالة على الوالدين، وعدم القيام بما يقتضيه البر، ولكن هؤلاء إذا رزقوا بالأولاد عرف الواحد منهم أنه يتمنى أن الأوصاب والأوجاع والأمراض والآلام تقع فيه ولا تقع في ولده، إذا وقع للولد مكروه يتمنى أن يكون فيه هذا وليس في ولده، يتمنى أن يجوع ولا يجوع الولد، تقول: "ثم قامت فخرجت، فدخل النبي ﷺ علينا فأخبرته، فقال: من ابتُلي من هذه البنات، ابتُلي يعني اختُبر، منهذه البنات يمكن أن يكون النبي ﷺ عبّر بهذه العبارة بناءً على أن الناس إبان مبعث النبي ﷺ كانوا يستثقلون البنات، ويفرحون بالذكور، بالأبناء، فقال: من ابتُلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن إلى آخره، فالناس يحبون الولد الابن الذكر، ولربما يستثقلون هذا، ويمكن أن يقال: هذا باعتبار أن البنت أكثر مئونة من الولد، البنت يُحمل همها وهي صغيرة لأنها ضعيفة، ويُحمل همها وهي كبيرة، إن لم تتزوج فأبوها يؤرقه شأنها، هل ستبقى هذه البنت بعده، متى تتزوج؟ متى ترتفع؟ متى يرى عندها الأولاد؟ متى يراها مستقرة في حياتها؟ متى يراها سعيدة ودائماً يفكر في هؤلاء البنات، يفكر إذا مات ما الذي سيحصل لهن؟ وإذا تزوجت لربما يزداد العناء معها إذا لم توفق بمن يخاف الله فيها، فتجد والدها يحوطها ويرعاها حتى بعد الزواج، فإذا وقعت في يد من لا يخاف الله صارت همًّا غلّاباً يسيطر ويستحوذ على قلب هذا الوالد المسكين المنكسر، الذي ابتُلي بهذا الرجل الذي صار يهينها ويذلها ويصادر حقوقها، ولا ينفق عليها، وفي كل يوم يجد ابنته لا ترقأ لها دموع، وفي حال من الحزن والكآبة والحسرة بسبب هذا الزواج، أو هذا الزوج البائس، فتزداد هموم هذا الأب، هذا واقع، وإذا رزقت بالأولاد فإنهم بمنزلة أولاده، يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، وما إلى ذلك.
فالبنت لا شك أن الأب يحمل همها أعظم بكثير من حمل هم الأبناء الذكور، وهذا شيء لا ينكر، هي تحتاج من الرعاية ما لا يحتاجه الولد، هي عورة، فكل شيء يؤثر عليها، وقد تكون من أحسن الناس، ومن أفضل الناس، ومن أتقى الناس، ومع ذلك قد لا توفق بالزواج أصلاً، وتبلغ الأربعين والخمسين، ولم تتزوج لا لعيب فيها إلا أن الله لم يقدر لها ذلك، فتبقى همًّا لأبيها ولأمها وهكذا، فلذلك قال النبي ﷺ والله تعالى أعلم: من ابتُلى من هذه البنات بشيء، فأحسن إليهن كنّ له ستراً من النار[4]، ستر من النار: حاجز يحول بينه وبينها، وهذا تغيير لمفاهيم أهل الجاهلية الذين كانوا يئدون البنات، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ [النحل:58-59]، يختفي ما يريد أن يراه أحد؛ لأنه لحقه عار في نظره، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ [النحل:59]، يبقيها ذليلة يهينها، أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ؛ لأنه ما يدري هل يبقيها على هوان وإذلالٍ أو يئدها وهي حية ويستريح منها؟، كانوا هكذا ينظرون، يقول أحدهم:
إذا تذكرتُ بنتي وهي تندبني | فاضتْ لعبرة بنتي عبرتي بدمي[5] |
يقول: أنا أبكي الدموع عليها.
أحاذر الدهرَ يوماً أن يلمَّ بها | فيهتكَ الستر عن لحمٍ على وضمِ[6] |
أخشى عليها فظاظة عمٍّ أو جفاء أخٍ | وكنت أخشى عليها من أذى الكلمِ[7] |
يقول: الكلمة ما أريدها أن تقال عليها، وغدًا أموت ويكون أخوها فظًّا عليها، أو يجفوها عمها، ثم بعد ذلك تفتقروتحتاج إلى أن تبيع عرضها؛ لتسد حاجتها ورمقها.
وآخر كان عنده بنت يقال لها: مودة، يقول:
مودةُ تهوى عمْرَ شيخٍ يَسرُّه | لها الموتُ قبل الليل لو أنها تدري[8] |
لا لأنه لا يحبها، لكن يخشى الفضيحة، يخاف عليها من بعده.
وآخر عنده بنت اسمها الجرباء، خُطبت، فقال أبوها:
إني وإنْ سيق إليّ المهرُ | ألفٌ وعبدانٌ وذودٌ عشرُ[9] |
يعني من الإبل، عشر من الإبل.
أحبُّ أصهاري إليَّ القبرُ | ..........[10] |
هكذا كانت العقلية في الجاهلية، فجاء الإسلام فحطم هذا جميعاً وأزاله، وبيّن أن هؤلاء البنات يكنّ ستراً له من النار، لكن قال النبي ﷺ: فأحسنَ إليهن، الذي يأتي بألوان الطعام والشراب واللباس والأموال ويضعه بين يدي البنات لكنه يأتي بدش ويركبه عند البنات، هل يكون قد أحسن إليهن أو أفسد؟ أفسد، هذه تكون له حرزًا وسترًا من النار؟ الذي يتركها تلبس البنطال وتلبس القصير، وتذهب حيث شاءت، وتكلم من شاءت، وتتسكع في الأسواق من غير وليها، هذا يكون قد أحسن إليها؟ أبداً، الذي يتركها متهتكة تركب مع السائق حيث شاءت، وتلبس هذا النقاب الفاتن أو تكشف وجهها، وتتبرج وتلبس العباءة المخصرة والمزينة والمزركشة لتفتن بها الناس، هذا يكون قد أحسن إليها؟! هذا يكون قد أساء إليها غاية الإساءة، وهذا متوعَّد بالعقوبة، هي ما تكون له حرزًا وسترًا من النار، بل هذا داخل في عموم قول النبي ﷺ: ما من عبد يسترعيه الله رعية، فيموت وهو غاشٌّ لهم إلا لم يرح رائحة الجنة[11]، وهذا غشها، هذا الذي تركها تفعل ما تشاء، تتصرف، هي ناقصة عقل، وناقصة دين تُترك كما تشاء من باب الثقة كما يزعمون، أنا واثق فيها، أهلي يثقون بي، وتذهب وتفعل، ويلعب بها شياطين الإنس والجن، ويُتداول رقمها بين الشباب، وتحادث من شاءت، وعندها أكثر من شريحة، هذه تربية وهذه تكون له سترًا من النار؟ بل هذه قد تلقي به في النار، بسبب أنه ضيعها، فالنبي ﷺ يقول: كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته[12]، فالمسئولية تعني المؤاخذة، والكلمة هذه فيها وعيد، تقول: أنت مسئول عن هذا التصرف، معناه احذر ستوقف عنده، تحاسب عليه وهكذا.
فنسأل الله أن يوفقنا وإياكم إلى حسن الرعاية والتربية، وأن يصلح لنا ولكم الذرية، وأن يجعلهم قرة عين، ويجعلنا وإياكم وإياهم وسائر المسلمين هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد،وعلى آله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الإحسان إلى البنات، برقم (2631).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة، برقم (1418)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الإحسان إلى البنات، برقم (2629).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة، برقم (1417)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، برقم (1016).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة، برقم (1418)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الإحسان إلى البنات، برقم (2629).
- طبقات الشعراء، لابن المعتز (ص:281).
- انظر: التذكرة الحمدونية (8/ 121)، وزهر الآداب وثمر الألباب (2/ 529)، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي (1/ 101).
- شرح ديوان الحماسة للتبريزي (1/ 101).
- الحماسة البصرية (1/ 273).
- انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (41/ 32)، والعقد الفريد، لابن عبد ربه الأندلسي (2/ 64)، وديوان المعاني (2/ 251)، وزهر الآداب وثمر الألباب (2/ 529).
- انظر: ديوان المعاني (2/ 251)، وزهر الآداب وثمر الألباب (2/ 529)، والعقد الفريد (2/ 64).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، برقم (142).
- أخرجه البخاري، كتاب في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب العبد راع في مال سيده، ولا يعمل إلا بإذنه، برقم (2409)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم، برقم (1829).