- مقدمة باب فضل ضعفة المسلمين
- قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم...}
- ألا أخبركم بأهل الجنة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب جديد من الأبواب التي عقدها المصنف -رحمه الله- في هذا الكتاب وهو باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين، وضعفة المسلمين يعني ممن لا شأن لهم، ولا عبرة بهم لدى الأقوياء والأغنياء، فهؤلاء الضعفة سواء كان ذلك لضعف بنيتهم وقوتهم، أو كان ذلك لضعف آخر كما ذكر المصنف -رحمه الله- بعده، قال: والفقراء والخاملين، أي ممن لا ذكر له، يعني: أنه ليس له صيت ذائع، وليس له اسم في المجتمع -مثلاً- ومكانة ومنزلة.
قال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28].
الله يقول لنبيه ﷺ معلماً له ما ينبغي له في قضية الصحبة: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ،أي: احبس نفسك، مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وهم فقراء الصحابة من أهل الصُّفة، ومن غيرهم، الذين لم يكن لهم تجارة، ولم يكن لهم عمل، ولم يكن لهم اشتغال كما كان لأهل الأسواق، وإنما كانوا ينقطعون لذكر الله -تبارك وتعالى، كما وصفهم الله بقوله: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة: 273].
يعني: أنهم كأنهم أغنياء؛ لأنهم لا يبدون الحاجة، تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ، لمَا يظهر عليهم من الشحوب، وآثار الضعف ورثاثة الثياب، وما أشبه هذا مما يعرفه المتفرس، إذا نظر في وجوههم عرف الحاجة في وجوههم، لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا، فهؤلاء من الفقراء الله أمر نبيه ﷺ بمجالستهم وألا يوجه وجهه إلى الأغنياء والكبراء، كما كان يدعوه كبراء قريش وأغنياء هؤلاء المشركين أن يطرد هؤلاء الذين كانوا يسمونهم بالنَّتْنى، يقولون: اطرد عنا هؤلاء النَّتْنى، لا يجالسونا في مجالسنا من أجل أن نأتي إليك وأن نسمع منك ما تقول، وأن نحضر مجلسك، وهكذا قالت الأقوام الكافرة قبل نبينا محمد ﷺ كما طلب قوم نوح من نوح أن يطرد هؤلاء الضعفاء الفقراء من مجلسه، من أجل أن يحضر الكبراء والأغنياء، ولهذا رد عليهم ، وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:114].
وكانوا يقولون له: إنما يحضرون في مجلسك من أجل شيء يأكلونه، أو يحصلونه عندك، ولهذا قال: وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الشعراء:112]، يعني: لست مسئولاً عنهم، وعن عملهم الذي يخفونه، إنما هؤلاء جاءوا في ظاهر الأمر من أجل سماع ذكر الله والانتفاع بما يسمعونه من نبيهم -عليه الصلاة والسلام.
يقول: وَاصْبِر نَفْسكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف: 28]، لا تلتفت إلى غيرهم من أهل الدنيا ممن يدعونك إلى مجالستهم.
كل ضعيف، أي: نفسه ضعيفة؛ لتواضعه، وضعف حاله في الدنيا، مُتَضَعَّفٍ هكذا ضبطه أكثرهم بالفتح، متضَعَّف، يعني: أن الناس يستضعفونه، يرونه ضعيفاً، وضبطه بعضهم: مُتَضَعِّفٍ، أي: أنه يظهر الضعف والتواضع للناس، لو أقسم على الله لأبره، يعني: لو أنه حلف على شيء من الأشياء يميناً طمعاً في كرم الله بإبراره لأبره الله ، كما قال أنس بن النضر لما كَسرت الرُّبَيِّعُ -وهي أخته- سنَّ تلك المرأة، فأرادوا القصاص، فقال النبي ﷺ: كتاب الله القصاص، فقال أنس بن النضر : والله لا تُكسر ثنية الرُّبَيِّع، فرضي أولئك بأرش الجناية، بالمال، فقال النبي ﷺ: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره[2].
بمعنى: أنه يقسم: والله لا يكون كذا، والله لا يقع كذا، والله لا يحصل كذا، والله لا ينتصر الكفار على المسلمين في هذه المعركة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في وقعة التتر المعروفة، كان يقول: والله إنكم منصورون، فكانوا يقولون: قل: إن شاء الله، فكان يقول: أقولها تحقيقاً لا تعليقا، يعني: هو واثق جدًّا من النصر ويقسم عليه.
وهذا يدل على أن العبرة ليست بالهيئة -أيها الأحبة، ليست بما يلبسه الإنسان، ليست العبرة بما يملكه الإنسان من الأموال، إنما العبرة بما في قلبه من الإيمان، ومحبة الله ، ومراقبته، وملاحظة حدوده، وما أشبه ذلك، العبرة بهذا، وليست العبرة بمظاهر الناس، وأشكالهم وصورهم وألوانهم، والله لا ينظر إلى الأشكال والصور، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال.
وكثير من الناس يزنون الإنسان بما يرون عليه من ساعة إذا كانت ثمينة، يلبس ساعة بسبعين ألفًا، بمائة ألف، يقدرونه غاية التقدير، يزنونه بما يرون من سيارة جاء بها، أو من لباس يلبسه، وهذا خطأ، غير صحيح، ولكن هذا لضعف النظر عند كثير من الناس، وقصور التصور، كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله:
والناسُ أكثرُهم فأهل ظواهرٍ | تبدو لهم ليسوا بأهل معانِ |
فهم القشورُ وبالقشورِ قوامُهُمْ | واللبُّ حظُّ خلاصةِ الإنسانِ[3] |
فينظرون إلى الظاهر، ويحكمون على الإنسان باعتبار ظاهره، وقد قال النبي ﷺ: البذاذة من الإيمان[4]، والمقصود بالبذاذة الهيئة المتواضعة، ما يلبس رفيع الثياب، وقد صح عنه ﷺ أن من ترك رفيع الثياب وهو يقدر عليه كساه الله من حلل الجنة.
فليس معنى ذلك أن الإنسان يلبس ثياباً رثة، فإن الله جميل يحب الجمال[5]، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده[6].
وليس معنى ذلك أن الإنسان يلبس ثياباً متسخة، فهذا لا يصح إطلاقاً، وإنما يلبس ثياباً نظيفة، وتكون من أوساط الثياب، هذا هو الأفضل بالنسبة للإنسان في الزي.
يقول: ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعَّف، لو أقسم على الله لأبره، يعني: هذا في الغالب، وإلا فيوجد من الضعفاء مَن هم من أهل النار؛ ولهذا قيل: إن شرار الناس فقراء اليهود، لا مال جمعوا، ولا دين أبقوا، والكفار فيهم أناس يتشحطون في الفقر، وينامون على الأرصفة، وليس عندهم من عرض الدنيا شيء.
يقول: ألا أخبركم بأهل النار؟، يعني: غالباً، هذه غالب صفتهم كل عُتلٍّ، والعتل: هو الغليظ الجافي، وبعضهم يقول: العتل هو ضخم البدن، كبير البطن، عظيم الرقبة أو العنق، والمشهور في معناه: أن العتل هو الغليظ الجافي.
جَوَّاظٍ، وهو الجَموع المَنوع، يجمع المال ويمنعه، فلا يُخرج حق الله منه، وبعضهم يقول: إن الجواظ هو الأكول الشروب، عظيم البطن، وبعضهم يقول: القصير العريض ضخم البطن، والمشهور أنه ما ذكرت: الجموع المنوع، وقيل: الضخم المختال في مشيته، وقيل: القصير البطين، والله تعالى أعلم.
وهذه الصفة هي الغالبة، وإلا فيوجد في المسلمين من هو ضخم البدن، وهو من أولياء الله ومن عباده المتقين، وفي صفة بعض الصحابة أوصاف تشبه هذا من جهة البدانة، علي كان يلقب بالبطين، أو لربما قيل له ذلك لضخامة في بطنه، وبعض أئمة السنة ورواة الحديث لقبه البطين؛ لضخامة بطنه، وليس هذا شيئًا يذم به الإنسان، فهذه خلقة الله -تبارك وتعالى، ولكن هو الجَموع المَنوع، يجمع المال، ويمنع حق الله فيه، هذا هو المشهور في معناه.
والغلظة، والقسوة، والجفاء ليست من صفات عباد الله المتقين، وإنما هي من صفات أهل النار، ولذلك يبتعد الإنسان أن يكون جلفاً، جافًّا، غليظاً، عنيفاً، وإنما يلطف بالناس قدر المستطاع، وما وُضع الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه[7].
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الكبر (8/ 20)، رقم: (6071)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (4/ 2190)، رقم: (2853).
- أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب الصلح في الدية (3/ 186)، رقم: (2703).
- نونية ابن القيم = الكافية الشافية ص: (15).
- أخرجه أبو داود، كتاب الترجل (4/ 75)، رقم: (4161)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب من لا يؤبه له (2/ 1379)، رقم: (4118).
- أخرجه مسلم، كِتَابُ الْإِيمَانَ، بَابُ تَحْرِيمِ الْكِبْرِ وَبَيَانِهِ (1/ 93)، رقم: (91).
- أخرجه الترمذي، أَبْوَابُ الْأَدَبِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، بَابُ مَا جَاءَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ (5/ 123)، رقم: (2819).
- أخرجه مسلم، كتاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ، بَابُ فَضْلِ الرِّفْقِ (4/ 2004)، رقم: (2594).