الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب تعظيم حرمات المسلمين أورد المصنف -رحمه الله-:
هذه هي الأخوّة والرابطة الإيمانية التي أقرها الله -تبارك وتعالى، وأثبتها، فقال سبحانه: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:9-10]، وقال ﷺ: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه[2]، وهذه الأخوة مقدمة على أخوة النسب، لأن الله قال: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ إلى آخر ما ذكر [المجادلة:22]، وضرب الأسوة بإبراهيم ﷺ حينما تبرأ من أبيه وقومه وهم أقرب الناس إليه، فرابطة الإيمان والأخوة الإيمانية هي أوثق رابطة يمكن أن يجتمع عليها الناس، لأن الناس لا يمكن أن نجمعهم على شعار من الشعارات الجاهلية، أو أن نجمعهم على أمر من أمور الدنيا، لا المال ولا غير المال، ولهذا قال الله : وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63]، فيُجمَعون على الحق، على الدين الصحيح، لا يمكن أن يجتمع الناس على غير هذا، ولو أنفقت أموال الدنيا، لأن القاعدة أن من خالف عقدُه عقدَك خالف قلبُه قلبَك، الذي يحمل اعتقاداً آخر يخالف العقيدة التي تحملها لو أغرقته بالأموال لتكسبه يمكن أن يكف شره مؤقتاً، ويسكت، ولكنه إن تمكن فسترى ما يصنع، والعالم من حولنا شاهد كبير يدل على هذا المعنى الذي ذكرته، من خالف عقدُه عقدَك خالف قلبُه قلبَك.
المسلم أخو المسلم، لا يظلمه فالظلم حرام مطلقاً، والله حرم علينا ظلم الكافر حتى ولو كان حربياً، فما بالك بغيره؟!، قال تعالى: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، لا يجوز العدوان، ولا الظلم لا للقريب، ولا للبعيد، الله يقول: إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا[3] ، فالظلم لا يجوز بحال من الأحوال، وإذا كان الظلم واقعاً على أحد من المسلمين فلا شك أن هذا أشد، والظلم أنواع، أحياناً يكون بغمطه حقه، والله يقول: وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ [الشعراء:183]، الحق الحسي كأن يصادر حقًّا له، يأخذ ماله، أو سيارته، أو أرضه، أو كتابه، أو أي شيء من ممتلكاته، يستأجر أجيرًا لا يوفيه أجره، فيقول له: تعال غداً، بعد غد، الأسبوع القادم، السنة القادمة حتى يمل ويترك، وهذا آخر عنده سائق ما يعطيه الراتب، وهو فقير باع البقرات وجاء من وراء البحار، ووراءه أسر فقيرة تعيش على هذه الأربعمائة من الريالات، وفي الأخير لا يعطيها كل شهر، هذا لا يجوز، ضع نفسك مكانه، ستعد الأيام والساعات متى تأخذ هذه الريالات لترسلها إلى من يتضاغون جوعاً وراءك.
فأقول: لا يظلمه بهذا، ولا يظلمه ببخسه حقه المعنوي، نحن في الأسف في كثير من الأحيان إذا أحببنا بالغنا في الشخص الذي نحبه، نعطيه أكثر مما يستحق، فلان نعطيه من الأوصاف ما لا يستحقه من الكرم والمروءة، أو العلم، فلان علّامة، وهو طالب علم، وليس علّامة، ولا يدّعي هو أنه علّامة، وإذا أبغضناه جعلناه لا يساوي شيئًا -نسأل الله العافية، هذا لا يجوز لأنه ظلم، حتى وإن كنت تكرهه، تقول: فلان لا أعلم منه إلا خيرًا، فلان أمين، إذا سئلت عنه، فلان رجل محافظ على الصلاة، فلان حافظ لحدود الله، وإن اختلفت معه، لطالما اختلف الناس.
الناس أيها الإخوة ليس من الشرط أنهم يتفقون صَبَّة واحدة مائة بالمائة على كل شيء، الله خلقهم خلقاً متفاوتاً، لابد أن يقع اختلاف في وجهات النظر، والأذواق والأمزجة، لكن يكون هذا الخلاف في إطار محدد، ويكون كل واحد من هؤلاء يطلب الحق ويقصده، ليس متبعاً للهوى، فلا يظلمه ببخسه حقه المعنوي بأن يقول: فلان جاهل، فلان مهندس ولكنه لا يحسن الهندسة، ولا يعرف منها شيئًا، أخذ الشهادة الله أعلم من أين أتى بها، أو يقول عن زميله الذي هو متفوق عليه في دراسته: إن له علاقات بالأساتذة لذا يتفوق في دراسته، فلا شك أنه يحسد أخاه ولا يريد له الخير، وهذا لا ينبغي أن يفعله المؤمن، وإنما يكون على مبدأ انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا[4]، إن كان مظلوماً نصره بالوقوف معه، ومؤازرته، وإن كان ظالماً أخذ على يده، ومنعه من الظلم.
وللأسف الأمة اليوم حمًى مستباح، يجرؤ عليهم كل أحد، انظروا في فلسطين، حفنة من اليهود، لو بصق عليهم كل واحد من هذه الأمة التي هي أكثر من مليار ونصف لغرقوا، أجبن الناس، لا نعرف أناساً أجبن من اليهود ولا أحرص على الدنيا والحياة من اليهود، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ [البقرة:96]، حرص شديد على الحياة، شيء عجيب إذا كنتم تتابعون الإعلام، حينما يُقتل أو يجرح واحد من هؤلاء الفئران، أقول: فئران لأني ما رأيت أشبه بالفأرة منهم، حينما يجرح واحد انظر إلى الجنود كيف يبكون وفي حال من الفزع والهلع، جنود، أهل بسالة، كيف يبكون كما تبكي النساء؟!، منتهى الجبن، والهلع والحرص على الدنيا، ومع ذلك يلعبون بأكثر من مليار ونصف، أمة بحر متلاطم وهم نشاز فيها، جسم غريب، وهم يستعرضون بأنواع الأسلحة على هؤلاء الضعفة المساكين في فلسطين، يحاصرونهم ويجوعونهم ويفعلون بهم ما شاءوا، هل سمعتم بدولة يأسر منها سبعة وزراء في ليلة؟، هل سمعتم بهذا؟، أين يوجد هذا؟، في أي أعراف وبأي قوانين؟، منتهى الاستهتار، شارون حينما كان رئيساً للوزراء، أو وزيراً للخارجية في فترة من الفترات وما زلت أذكر يوم أعلن فقال: نفوذ دولة إسرائيل من المحيط غرباً إلى باكستان شرقاً، يهودي واحد يقول هذا الكلام، ويتحدى أمة أكثر من مليار ونصف!!
فهؤلاء لو يعرفون أن المسلمين يقفون مع إخوانهم ولا يسمحون لأحد أن يعتدي عليهم لما كانوا يجرءون على فعلهم هذا، انظروا ماذا يجري لإخواننا في العراق على يد اليهود والنصارى والمجوس، يذبحون ذبح النعاج، وبطرق بشعة ما سمع بها العالم، ومع هذا لا تسمع استنكاراً من العالم، على الأقل قولوا لهم: هذا الذي يذبح الناس بالدريل ويخرق رءوسهم به إرهابي، ورموز الأمة كم تساقط من الرموز في فلسطين، وفي الشيشان، كلأ مباح.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب: لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه (3/ 128)، برقم: (2442).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (1/ 14)، رقم: (13)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير (1/ 67)، رقم: (45).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (4/ 1994)، برقم (2577).
- أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما (3/ 128)، رقم (2444)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما، (4/ 1998)، رقم (2584).