الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلا زلنا نتحدث عن حديث أبي هريرة الذي أورده المصنف -رحمه الله- في باب تعظيم حرمات المسلمين، وهو قوله ﷺ: لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا...، تكلمنا عن هذه الجمل الثلاث، وبينا أن النهي عن التباغض هو نهي عن أسبابه، ثم قال ﷺ: ولا تدابروا، فهذا التدابر هو نتيجة للتباغض، فإن الناس إن وقعت بينهم الشحناء والبغضاء حصلت القطيعة، فصار الرجل إذا لقي الرجل أعرض عنه، وأدار ظهره.
وهذا أمر محرم؛ لأنه على خلاف مقصود الشارع من الاجتماع والألفة والمحبة بين المؤمنين، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103]، ولذلك فإن النبي ﷺ قال: لا يحل للمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام[1].
وهذه الثلاث التي ذكرها النبي ﷺ هي من لطف الشارع، ورحمته بالمكلفين، ومراعاته لأحوالهم وضعفهم وعجزهم وما جبلت عليهم نفوسهم، وذلك أن النفوس قد تكون محتدمة ولا يقوى الإنسان على نفسه، ولا يستطيع التغلب على مشاعره، فرخص له في أن يهجر هذه المدة، ولكن من طبيعة النفوس التي جبلها الله عليها أن هذا الأثر في النفوس يخف ويضعف ويتضاءل إذا مضى عليه ثلاثة أيام، فإن النفوس تبقى مشحونة في أول الصدمة، ثم ما يلبث هذا الأمر أن يخف ويخفت حتى يتلاشى، فلا عذر له بعد الثلاث، لأنه يستطيع أن يسيطر على مشاعره، ويكون الغضب قد زال، ومن هنا أخذ بعض الفقهاء -رحمهم الله- أن العزاء ثلاثة أيام، مع أن هذا ليس له أصل في الشرع، لم يرد التحديد لا في الكتاب ولا في السنة أن العزاء ثلاثة أيام مثلاً، إنما استنبطه بعض الفقهاء من مثل هذا.
وذلك أن الإنسان يغلبه الحزن في هذه الأيام الثلاث، تبقى المصيبة حية في نفسه، ثم بعد ذلك ما يلبث أن يسلو، فلا يحسن أن يُذكَّر بعد ذلك بمصيبته وتُفتق جراحه من هذا الباب.
وتجوز القطيعة والهجر إذا كان ذلك لمعنى شرعي، كهجر المبتدع، وصاحب المعصية إذا كان الهجر يردعه وينفعه، فالهجر دواء يوضع حيث نفع، تارة يكون من أجل المهجور لاستصلاحه، وتارة يكون لمصلحة الهاجر، وذلك إذا كان الإنسان لا يسلم من شر إنسان إلا بهجره، فإنه يجوز له أن يهجره، ليكف شره عنه، أو كان لمصلحة المهجور، كأن يكون هذا الإنسان يجد وحشة إذا هُجر، ويتأدب ويرعوي، فإنه يهجر، أما إذا كان الذي وقع منه الذنب والمعصية إذا هُجر لا يزيده ذلك إلا شروداً ونفوراً وعتوًّا واستكباراً، فهنا لا مصلحة من الهجر إطلاقاً، أو كان مثلاً الذين يزاولون عمله هم الأكثرية، وأراد الإنسان أن يهجر كل من يقع منه هذا العمل، فإن النتيجة أنه يكون هو المهجور، وليس هذا هو مقصود الشارع من الهجر.
ولهذا فإن السلف حينما تكلموا في هجر أهل البدع الغلاظ قالوا: إن أهل القدر في البصرة لا يُهجرون؛ لأنه في ذلك الوقت أكثر أهل البصرة ابتلوا بالقول في القدر، يعني: انحرفوا في هذا الباب، وصاروا أصحاب بدعة.
وكذلك قالوا في تشيع أهل الكوفة: لا يُهجر من تشيع منهم؛ لأنه كان الغالب في ذلك الوقت في الكوفة التشيع.
فقوله ﷺ: ولا تدابروا يستثنى منه ما ذكر.
ثم قال: ولا يبع بعضكم على بيع بعض، لأن هذا من أسباب التباغض، فالتباغض يكون أحياناً بسبب هذه التصرفات.
وذلك أن الإنسان لو باع سيارة بمائة ألف، فجاء إنسان آخر صاحب معرض في مدة الخيار، يعني لا زال المجلس -مجلس البيع، لأن النبي ﷺ قال: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا[2]، أو كان بينهما مدة، كأن يقول: لي خيار ثلاثة أيام أو أسبوع، فيقول له: أنا أبيعها لك بخمسة وتسعين ألفًا، فلا تشترِها منه ما دام لديك خيار في بيعك.
وقد وقفت على حالة من الحالات التي وقعت لبعض الباعة، فهذا جزار يتنافس معه آخر، وإذا جاءه إنسان قال: تعال أنا أبيع لك كيلو اللحم بسبعة عشر ريالا، بدلا من ثمانية عشر.
وكذلك أيضاً: لا يسوم على سومه، يأتي إنسان مثلاً ويقول: أنا أشتري منك هذه السيارة بعشرة آلاف، فيأتي إنسان آخر ويقول: لا، أنا أشتريها منك بأحد عشر ألفًا، فمثل هذا يوغر الصدور، ويورث الحقد والحسد والبغضاء.
وكذلك لا يشتري على شرائه، فلو أنه اشترى السلعة بمائة ألف، وما زال في مدة الخيار، فجاء إنسان آخر وقال له: استرجعها منه وأنا سأشتريها منك بمائة وعشرين، فهذا لا يكون بين المسلمين.
وكذلك لا يخطب على خطبته إذا كانوا قد أبدوا له الموافقة وقالوا له: نعم، أما إذا كانوا لا زالوا يبحثون ويسألون وينظرون ولم يبدوا له الموافقة فللإنسان الآخر أن يخطب.
وقوله ﷺ: وكونوا عباد الله إخوانًا، هذه تكلمنا عليها في الحديث الآخر الذي قبله، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه[3]، وهذه المعاني كلها تكلمنا عليها.
- أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب إذا بيَّن البيِّعان ولم يكتما ونصحا، (3/ 58)، برقم: (2079).
- أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب إذا بيَّن البيِّعان ولم يكتما ونصحا، (3/ 58)، برقم: (2079).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، برقم: (2564).