الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فكنا قد ابتدأنا بحديث عبد الله بن الزبير -رضي الله تعالى عنهما- قال: لما وقف الزبير يوم الجمل..، والمقصود بيوم الجمل هي الوقعة الأولى التي وقعت بين أهل الإسلام، وذلك أن عثمان اجتمع عليه أولائك البغاة في المدينة، واستغلوا انشغال الناس بموسم الحج، فجاءوا إلى المدينة وحاصروه في داره، وطلبوا منه أن ينزل عن الخلافة، فأبى ليس طمعاً في الخلافة، وإنما لئلا يكون ذلك سنة لمن بعده، أن كل قوم لم يكن لهم رغبة بأمير يحاصرونه ثم يطالبونه بأن يخلع نفسه، فتكون من السنن السيئة التي يكون مبتدؤها من عثمان ، فأبى ذلك، وقال: لا أخلع قميصاً قد ألبسنيه الله ، وهؤلاء البغاة هم قوم من الجهلة ممن استهواهم صاحب الدسائس المشهورة، وهو اليهودي عبد الله بن سبأ، فكان يطوف بين الأمصار، ويكثر من قالة السوء والنجوى بالإثم والعدوان، فهو إذا جاء إلى أناس ألقى بينهم طرفاً من كلامه وحبائله، فإن وجد إصغاء زادهم حتى يستميلهم بعد ذلك، فكان يتكلم في مثالب عثمان، وأن عثمان يغدق الأموال على قرابته، وأنه لم يكن على سنة الشيخين، يعني أبا بكر وعمر، ومتى كان عبد الله بن سبأ اليهودي يريد سنة الشيخين وأعدى الناس إليه هم أبو بكر وعمر؟!، فكان يطوف بالأمصار، فمن الأمصار من رفضوه رفضاً تاماً، وطردوه، مثل أهل الشام، ومنهم من قبل منه بعض الشيء، ومنهم من استمالهم، فوافقه نفر من أهل مصر وغيرهم، فجاءوا إلى عثمان وليس فيهم صحابي واحد، وإنما هم قوم من الجهلة، قد دلس عليهم ذلك اليهودي، ولبس عليهم حتى استمالهم، فجاءوا واجتمعوا على عثمان وحاصروه ولما طولبوا أن يبينوا عما عابوه عليه ذكروا جملة من الأمور، فأجاب عنها عثمان جميعاً بإجابات شافية، وبين لهم أن المال الذي وصل إلى قرابته أنه من أمواله الخاصة، وكان عثمان قبل أن يلي الخلافة، كان من أغنياء المسلمين، ونعرف أنه جهز جيش العسرة، وقف ثلاث مرات حينما كان النبي ﷺ يدعو الناس إلى الصدقة، ويقول: من يجهز جيش العسرة؟ فقام عثمان وقال: عليّ مائة من الإبل بأحلاسها وأقتابها، ثم قال الثانية وقال ذلك، ثم الثالثة، فقال النبيﷺ: ما ضر عثمان ما صنع بعد اليوم[1]، وزوجه النبي ﷺ ابنتيه، وقال فيه ﷺ: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة[2]،وكان صواماً قواماً عابداً، ثبت بإسناد صحيح أنه صلى القرآن بركعة واحدة خلف المقام، في أيام خلافته، وقد قال فيه حسان بن ثابت :
ضحَّوْا بأشمطَ عُنوانُ السجودِ به | يُقطِّع الليلَ تسبيحاً وقرآنا |
هؤلاء النفر أجابهم عثمان عن مثل هذه الأمور، ورد عليهم رداً شافيًا، ثم بعد ذلك بعثهم إلى أمصارهم، فلما ساروا إذا بخطاب يُزوَّر على عثمان ويزوَّر عليه ختمه، يمشي به راكب يحاذيهم، حتى دخلهم منه ريبة، فلما أخذوه وجدوا معه كتاباً موجَّهًا إلى أمراء تلك الأمصار أن هؤلاء إذا وصلوا إليك فاضرب أعناقهم، ولم يكتبه عثمان ، وإنما زُوِّر عليه، فرجعوا إلى المدينة وحاصروه وطلبوا منه أن ينزل عن الخلافة، فأبى، ثم بعد ذلك تسوروا عليه داره، ثم ضربوه بالسيف ، وجاءت زوجته نائلة تدفع عنه فأصابوا كفها، وقالوا كلاماً في غاية القبح في حقها، فقتلوه وجرى دمه على المصحف الذي كان يقرأ فيه، وجاءه شباب الصحابة قبل ذلك كعبد الله بن عمر بن الخطاب ، وأمثال هؤلاء ممن كانوا في المدينة، وأرادوا أن يدفعوا عنه وأن يموتوا دونه، فحرّج عليهم وأبى ذلك، وقال: لا يراق دم امرئ مسلم بسببي، إن كان لي عليكم طاعة فارجعوا، فأبى أن يدافع عنه أحد ، وهذا يدل على كمال زهده، وكمال ورعه، وكمال بعده عن الدنيا ومحبتها ومظاهرها، وقد قال لهم: إنه قد طال عليهم مكثه؛ لأنه ولي الخلافة مدة طويلة، وعمّر ، وقد تجاوز الثمانين، فذكر أن المسألة ليست مجرد هذه الاتهامات التي تقوَّلوها، ولكنهم استطالوا واستثقلوا بقاءه بين أظهرهم، فالحاصل أن عثمان قُتل والناس في الحج، فبلغهم الخبر، وهذا هو الجواب عن سؤال يرد، وهو: أين الناس؟ أين الجيوش؟ أين هؤلاء الذين ذهبوا إلى العراق يطالبون بدم عثمان؟ ولماذا لم يدافعوا عنه؟
الجواب: هؤلاء كانوا في مكة، للحج، والذين كانوا في المدينة هم قلة من شباب الصحابة ، وأبى عثمان أن يدافعوا عنه، فبلغ الخبر الناس وهم في مكة، ثم بعد ذلك بويع لعلي ، وكان يتوارى من الناس، لا يريد البيعة لنفسه ، ولما بويع له بالخلافة سار إلى العراق، ثم جاء نفر إلى عائشة -رضي الله تعالى عنها، وأخبروها أن تذهب معهم إلى العراق للصلح بين الناس، والمطالبة بدم عثمان من أولائك الذين قتلوه؛ لأنهم انضموا إلى معسكر علي ، فذهبت عائشة -رضي الله تعالى عنها- على جمل كبير ضخم يقال له: عسكر، قد اشتراه يعلى بن أمية بنحو ألف دينار، فساروا إلى العراق، وجاءوا يطالبون بهؤلاء القتلة أن يسلَّموا، وكان مع الذين ساروا إلى العراق مع عائشة -رضي الله عنها- طلحة والزبير ، وكان معهم خلق كثير، فعليٌّ كان من سياسته أن يستمهل الناس، ثم إذا استتب له الأمر، وهدأت الفتنة أخذ هؤلاء الذين دخلوا في عسكره، ثم يقيم حكم الله عليهم، وكان هؤلاء يطالبون بتسليمهم، وكان ولي عثمان معاوية ، والله يقول: وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا [الإسراء:33]، فالحاصل أنهم كانوا يريدون تسليم هؤلاء الناس، ثم بعد ذلك تشاوروا وحصل بينهم اتفاق، فذهب كل فريق إلى عسكره، ولكن أصحاب الفتنة دخلوا في الفريقين ليلاً وتراشقوا، ثم بعد ذلك ثارت الحرب، وقعة الجمل، وكان ذلك الجمل يحيط به عسكر أهل الشام، ومن جاءوا مع عائشة -رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وكان النبي ﷺ قد قال لنسائه: أيَّتُكنّ تنبح عليها كلاب الحَوْأب[3]، ولما كانت عائشة -رضي الله عنها- في طريقها إذا هي تمر بماء وينبح عليها كلاب، فقالت: أي أرض هذه؟ قالوا: الحوأب، فبكت -رضي الله تعالى عنها، وتذكرت قول النبي ﷺ، هي ذهبت للصلح بين الناس، لم يذهبوا للقتال، ولكنها الفتن إذا وقعت، ولقد كان الزبير بن العوام وطلحة -رضي الله عنهما- ممن بايعوا عليًّا ولكنهم جاءوا يطالبون بدم عثمان، فقال علي للزبير -رضي الله عنهما: ألا تذكر قول النبي ﷺ: تقاتل عليًّا وأنت ظالم له[4]، فلما تذكر الزبير هذه الكلمة ذهب راجعاً إلى المدينة، حتى وصل إلى جنوب العراق، وذلك في منطقة قريبة من البصرة، يقال لها: وادي السباع، فجاءه ابن جرموز التميمي فقتله ، وأما طلحة فقد ضرب في ركبته فجعل ينزف حتى سار مسافة، ثم دخل مكاناً أو بيتاً خرباً أو نحو ذلك، ثم توفي ، وهم من كبار الصحابة، ومن العشرة المبشرين بالجنة، والحاصل أن الجمل الذي كانت عليه عائشة -رضي الله عنها- عُقر وسقط، وانهزم الجيش، وتفرقوا، وقُتل منهم مقتلة عظيمة جداً، وهو مصداق ما أخبر عنه النبي ﷺ في وقوع المقتلة بين طائفتين عظيمتين من المسلمين، وأخبر النبي ﷺ أن الصلح سيكون على يد الحسن، فقال: إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين[5]، وأخبر النبي ﷺ أن أولى الطائفتين بالحق هي الطائفة التي فيها عمار، قال ﷺ: ويح ابن سمية، تقتله الفئة الباغية[6]، وكان عمار في عسكر علي وكان من أكثر المتحمسين لنصرة علي ، حتى إنه كان يأتي إلى الكوفة والبصرة، ويخطب في الناس ويحرضهم على نصرة علي ، وينكر على الذين تباطئوا كأبي مسعود الأنصاري ، ويقول له أبو مسعود الأنصاري : "ما عبت عليك شيئاً يا عمار منذ أسلمت إلا إسراعك في هذا الأمر"، فيقول عمار: وما عبت عليك شيئاً منذ أسلمت إلا إبطاءك عن هذا الأمر، واعتزل نفر من الصحابة كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وسلمة بن الأكوع ، وبعضهم ذهب إلى البادية، كالربذة وغيرها، وبقي هناك حتى تنجلي الفتنة، وبعضهم لزم الأمصار، وكانوا لا يشاركون الناس في قليل ولا كثير، فالحاصل أن جيش الشام انهزم وقُتل من قتل، وأما عائشة -رضي الله عنها- فقد أكرمها علي غاية الإكرام، ثم عاتبها على مجيئها، وقالت: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا [مريم:23]، ووقف علي وقال: أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [سورة الحجر:47]، فهذه فتن وقعت بين الصحابة فهذا الزبير واقف في يوم الجمل خرج للصلح بين الناس، وخرج أبناء هؤلاء الصحابة مع آبائهم برًّا بهم، فالحاصل أن هؤلاء هم كبار الصحابة وعبّادهم مثل عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص الذي كان يقوم طول الليل ويصوم طول السنة، واشتكاه أبوه لمّا زوجه امرأة من أشراف قريش، وسألها بعد أسبوع، قالت: نعم الرجل، لم يطأ لنا فراشًا، ولم يكشف لنا سترًا، من يفعل هذا؟ يصوم النهار ويقوم الليل، قال فيه علي : إنما أخرجه بره بأبيه، وكذلك محمد بن طلحة السجاد الذي كان يحمل الراية، وإذا قابله أحد قال: ناشدتك "حم"، حتى جاءه رجل وقال:
يناشدني "حم" والرمحُ شاجرٌ | هلّا تلا "حم" قبلَ التقدُّمِ |
وطعنه بالرمح حتى قتله، فخر صريعاً ، الملقب بالسجاد، محمد بن طلحة العابد، ريحانة الزمان، هذه فتن حصلت يبن الصحابة ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيما جرى بينهم على سبيل النقيصة، والوقيعة والذم فيهم، أو ما يحرك النفوس، كما يفعل البعض حينما يتكلم على هذه الفتن وهو لا يحسن، ثم بعد ذلك يسمعها بعض العامة ويقولون: الصحابة يتقاتلون على الملك، هذا لا يجوز، ولابد من سلامة قلوب أهل السنة لأصحاب رسول الله ﷺ، هم في غاية النزاهة والعبادة والتقوى لله -تبارك وتعالى، وإرادة ما عند الله ، فالله ذكر المهاجرين فقال: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8 ]، وذكر الأنصار فقال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدروهم حاجة مما أوتيه المهاجرون دونهم من الفيء الذي كان في النضير مثلاً، حيث قسمه النبي ﷺ بين المهاجرين دون الأنصار، وقال: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10]، قال الإمام مالك -رحمه الله- وجماعة من السلف: إن من لم يكن كذلك فلا حظ له في الفيء، وكان ابن عمر وطائفة من السلف إذا سمعوا رجلاً يقع في أحد من أصحاب النبي ﷺ قالوا: نشهد أنك لست من الفقراء المهاجرين، ولست من الأنصار، ولم يبق منهم إلا الثالثة، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10]، فهؤلاء الطوائف الثلاث هم الذين يُعطَون من الفيء، وهم الذين أثنى الله عليهم، ومن وقع في أصحاب النبي ﷺ فلا حظ له في الفيء، ولا حظ له في شيء من هذا الثناء، ولا يدخل في هذه الطوائف الثلاث، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي، باب في مناقب عثمان بن عفان ، وله كنيتان، يقال: أبو عمرو، وأبو عبد الله، (5/ 625)، رقم: (3700)، وضعفه الألباني في المشكاة، برقم: (6072).
- أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل عثمان بن عفان (4/ 1866)، رقم: (2401).
- أخرجه أحمد، مسند الصديقة عائشة بنت الصديق، (4/ 29)، رقم: (24254)، وصححه الألباني في السلسلة، رقم: (474).
- أخرجه الحاكم، باب: ذكر مقتل الزبير بن العوام ، رقم: (5575)، وصححه الألباني في الصحيحة، رقم: (2659).
- أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب قول النبي ﷺ للحسن بن علي -رضي الله عنهما:إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين (3/ 186)، رقم: (2704).
- أخرجه ابن حبان، باب: ذِكْر الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، (553/15)، رقم: (7078)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان، رقم: (7037).