الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب التعاون على البر و التقوى ذكر الإمام النووي -رحمه الله- حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ لقي ركباً بالروحاء، والروحاء: مكان قريب من المدينة، والركب: هم الجماعة من الناس الذين يركبون الدواب أو المراكب، فقال: مَن القومُ؟ قالوا: المسلمون[1]، وفي بعض الروايات أن النبي ﷺ سلم عليهم، وذلك معلوم؛ لأن السنة أن يبدأ المسلم بالسلام قبل السؤال، وقد صح النهي عن النبي ﷺ عن أن يجاب من بدأ بالسؤال قبل السلام
، قال ﷺ: فلا تجيبوه[2]، فالحاصل أنهم قالوا: المسلمون، ثم قالوا: من أنت؟ قال: رسول الله، وكأنهم لم يعرفوه ﷺ، إما لأن الوقت كان ليلا، أو أنه ناداهم وهو مع أصحابه ﷺ فلم يميزوه، أو أن القوم كانوا ممن أسلموا في أرضهم، ولم يهاجروا إلى المدينة، فلم يتشرفوا برؤيته قبل ذلك، الحاصل أنهم قالوا: من أنت؟ قال: رسول الله، فرفعت إليه امرأة صبياً، فقالت: ألهذا حجٌّ؟ وهذا هو الشاهد من إيراد الحديث في هذا الباب، قال: نعم، ولك أجر.
وجاء في بعض الروايات ما يدل على أن هذا الصبي لا زال صغيراً دون سن التمييز، وهذا يدل على صحة حج الصبي، سواء كان مميزاً، أو غير مميز، لكن ذلك لا يجزئه عن حجة الإسلام، ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر، لها أجر؛ لأنها تسببت في حج هذا الغلام أو هذا الصبي، فهي التي عقدت الإحرام عنه، وقامت بشئونه، ومنعته من محظورات الإحرام، وسافرت به، وطافت وسعت، فكل ذلك لا شك أنه تسبُّبٌ في حصول النسك.
وذكر حديثاً آخر وهو الحديث الأخير حديث أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ أنه قال: الخازنُ المسلم الأمين الذي يُنفذ ما أُمر به فيعطيه كاملاً موفَّراً طيبةً به نفسه، فيدفعه إلى الذي أُمر له به أحدُ المتصدقيْن[3]، وفي هذا الحديث ذكر النبي ﷺ شروطًا للخازن:
الأول: الإسلام، لأن الكافر لا يثاب ولا يؤجر وليس له حسنات عند الله .
الشرط الثاني: الأمانة، أما الخازن الخائن فلا يدخل في هذا الوعد.
الشرط الثالث: الذي يُنفذ ما أُمر به.
الشرط الرابع: أن يعطيه كاملاً موفراً، ويخرج من ذلك الذي يُنقصه، وهذا حال الكثير ممن يقومون على مثل هذه الأمور، كأنه يعطي الناس من ماله، فيُنقص من ذلك، ولربما يؤذيهم؛ ولهذا قال: طيبة به نفسه، وهو الشرط الرابع، فلا يلاقيهم بوجه عبوس، ولا يؤذيهم بالقول، وما أشبه ذلك.
فإذا تحققت فيه الشروط المذكورة في الحديث فهو أحد المتصدقين، فهذا الخازن لم يتصدق، ولكن لأمانته صار أحد المتصدقين، وهذا فضل عظيم جداً، وفي رواية: الذي يُعطِي ما أُمِر به[4] بضم الهمزة، أو أَمَرَ به أي: أَمَر المعطي، وكل ذلك ثابت في هذه الرواية، والمعنى واحد، وفي هذ الحديث عبرة عظيمة جداً، وهو أن فضل الله واسع، فالإنسان قد لا يكون متصدقاً، ولكن يجري له أجر المتصدق، وذلك أن الله يجري الخير على يده، فمثلا: الإنسان الذي يقوم على مستودع خيري، أو جمعية خيرية، فيأتي الناس بصدقاتهم وأموالهم، وما أشبه ذلك، ويضعونها عند هذ الخازن، ثم يقوم فيها بأمر الله، فهو أحد المتصدقين، وليس فقط يؤجر على جهده ووقته، والساعات التي يقضيها إذا استحضر النية، بل له كأجورهم، فهو أحد المتصدقين، وهذا في كل الصور التي يمكن أن تدخل تحت هذا، ولذا فالإنسان يحرص دائماً أن يكون عاملاً لدين الله -تبارك وتعالى، وأن يكون ممن يُنتفع به، وأبواب الخير كثيرة جداً، لا عذر لأحد أن يقول: ليس عندي مال، يمكن أن يجري المال على يده، يمكن أن يعمل في جمعية خيرية من هذه الجمعيات، وتكون نيته حسنة، ليس من أجل مال يُعطاه، أو نحو ذلك، بل من أجل أن يكون له كأجر هؤلاء المتصدقين جميعاً، وهذا أمر قد لا يتسنى للإنسان مهما كان ماله، فلا يستطيع أن يقدم ما يقدمه أهل البلد، لكن إذا كان خازناً أميناً فإن له كأجورهم، وهكذا من يقوم على مستودع كتب مثلاً، أو أشرطة، أو نحو ذلك مما ينتفع به الناس، فإنه إن دفع ذلك لمستحقه كما طُلب منه فإنه يكون كالمتصدق تماماً، ومن الناس من إذا جاءه طلبة العلم يريدون كتاباً فإنه يريهم ألوان العنت والعناء والذل والمهانة، وكأنه يعطيهم شيئاً من عنده -نسأل الله العافية، فمن الناس من نفسه لا تطيب بالعطاء، ولهذا قال الله : وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، وقد فسر جماعة من أهل العلم الشح بأنه أن يبخل الإنسان بما في يده، ويتطلع إلى ما في أيدي الآخرين، ولا يحب أن يراهم ينفقون
فسر جماعة من أهل العلم الشح بأنه أن يبخل الإنسان بما في يده، ويتطلع إلى ما في أيدي الآخرين، ولا يحب أن يراهم ينفقون
، ويضيق صدره إذا رأى أحد الناس يُعطَى أو ينتفع، أو يستفيد، أو يُحسَن إليه -نسأل الله العافية، قال الله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ[النساء:37].
أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعلنا وإياكم طُرقاً للخير، وأبواباً له، مفاتيح للمعروف مغاليق للشر، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب صحة حج الصبي وأجر من حج به، (2/ 94)، رقم (409).
- أخرجه ابن السني، كتاب عمل اليوم والليلة، باب: من بدأ بالكلام قبل السلام، ( 1/ 176)، رقم: (214)، وقال الألباني: "حديث حسن" في صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم: (6122).
- أخرجه البخاري، كتاب: الزكاة، باب أجر الخادم إذا تصدق بأمر صاحبه غير مفسد، (2/ 114)، رقم (1438)، ومسلم كتاب الزكاة، باب أجر الخازن الأمين، والمرأة إذا تصدقت من بيت زوجها غير مفسدة بإذنه الصريح أو العرفي، (2/ 710)، رقم (1023).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب: وكالة الأمين في الخزانة ونحوها، (3/ 103)، رقم (2319).