الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا هو الحديث الأخير في باب من سن سنة حسنة أو سيئة، وهو حديث ابن مسعود ، أن النبي ﷺ قال: ليس من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من منها، أو كفل من دمها؛ لأنه كان أول من سن القتل[1]، متفق عليه.
فأول من وقع منه القتل هو ابن آدم كما قص الله في سورة المائدة: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ [المائدة:27]، فحمله الحسد على أقرب الناس إليه وهو أخوه وهو الإقدام على قتله، فكم يا ترى قد وقع من قتل بعد تلك الواقعة؟!!!، فكل من جاء بعده، فإنه يتحمل كوزره لأنه الذي فتح الباب، مع أنه ما ينقص من أوزارهم شيء، وبهذا يعلم الإنسان خطورة فتح أبواب الشر ودعوة الناس إلى البدع والمنكرات ومفاسد الأخلاق، وما إلى ذلك من الأمور.
النبي ﷺ يقول: الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها[2]، فالذي يفتح على الناس باب فتنة يدخل في هذا اللعن؛ لأنه أول ما فتح بابًا في الشر، وهكذا أيضًا كل من فعل فعلاً من السوء والباطل والمنكر فاقتدى به الناس، والباب الذي بعده هو باب في الدلالة على خير والدعاء إلى هدى أو ضلالة، وهو مرتبط غاية الارتباط بالباب الذي قبله.
ثم ذكر قوله تعالى: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ [الحج:67]، باب في الدلالة على خير، والدعاء إلى هدى أو ضلالة، وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ، يعني ادع إلى عبادته والتقرب إليه، أدع إليه كن داعيًا إلى سبيله وإلى صراطه المستقيم، التي رسمها لعباده من أجل أن يسلكوها، وقال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125]؛ لأن الإنسان الذي يدعو لا يدعو لنفسه لا يدعو من أجل أن يحصل حظًا عند هؤلاء الناس أو يحصل جاهًا أو نحو ذلك، إنما يدعو إلى سبيل الله ، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف:108].
وقوله هنا: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ يعني إلى صراطه وطريقه التي رسمها وأمر عباده بسلوكها، وهي الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، إذا كان الإنسان داعيًا إلى الله -تبارك وتعالى- فينبغي أن يتحلى بهذا، وهو أن يضع الأشياء في مواضعها، وأن يوقعها في مواقعها، ولا يمكن للإنسان أن يحصل الحكمة التي هي الإصابة في القول والعمل إلا بتحقق في باب العلم، إضافة إلى عقل راجح؛ لأن العلم وحده لا يكفي، والعقل وحده لا يكفي، فإذا اجتمع العقل والعلم صار ذلك كضوء الشمس مع نور العين، فالعين لا تبصر في الظلام، كما أن نور الشمس لا ينتفع به الأعمى، فإذا كان الإنسان قابلاً فإنه كما قال الحافظ بن القيم -رحمه الله-[3]: "يدعى بالحكمة، لا داعي لسلوك طرق صعبة في إيضاح الحق له وبيانه إليه، وإذا كان عنده شيء من التأخر لغلبة شهوة مثلاً فإنه يحتاج إلى وعظ، يحتاج إلى تخويف من الله -تبارك وتعالى-، وإلى ترغيب بما عند الله من الأجر من أجل أن يقوى قلبه على العمل، والطاعة والانقياد، وإذا كان عنده شبهة تحتاج إلى إزالة فهذا الذي يحتاج إلى مجادلة ولكنها بالتي هي أحسن؛ لأنه لا يمكن أن يستجيب من يجادل جدالاً عنيفًا فتتحرك نفسه من أجل أن تنتصر، ينتصر الإنسان لذاته، وإنما باللطف وبالتي هي أحسن لأن النفس يختلط عليها الأمر في كثير من الأحيان، كثير من النفوس فيها كبرياء وأنفة؛ فيختلط عليها دعوة الداعي وبيان الحق وبين القدح فيها والانتقاص منها، فكثيرون يردون الحق الذي وجه لهم؛ لأنهم يتوهمون أن ذلك يعني انتقاد ذواتهم، والحط من أقدراهم، وليس الأمر كذلك، ولهذا ينبغي للعاقل أن يسلك طريقًا يبتعد فيها تمامًا عن مثل هذا الذي يجرح فيها مشاعرهم أو يعنفهم فيه، وكما قال الإمام مالك -رحمه الله-: "وإن من الناس من يرفق به فيقبل ويستجيب"[4].
وقال الإمام أحمد: "ما أغضبت أحدًا فقبل منك"[5]، فلا يمكن أن يفعل كما ذكر عن بعض أهل العلم أنه إذا رد على غيره كأنما ينشقه الخردل ويصكه صك الجندل، ما يمكن لمثل هذا أن يقبل دعوتنا وما نقدمه إليه، وما أشبه ذلك، وكذلك ذكر قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، فدعاء الناس إلى الحق والخير والمعروف هو من التعاون على البر والتقوى، وقال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104]، ولتكن منكم أمة، منكم يحتمل معنيين:
المعنى الأول: أي ولتكونوا فتكون "من" بيانية، كما تقول: لأبنائك مثلاً أريد منكم أبناء بررة لا تقصد أن بعضهم يكونون بررة، تقصد الجميع، فتكون بيانية، ولتكن منكم أيتها الأمة جميعًا، نريد منكم أمة قائمة بأمر الله .
والمعنى الثاني: الذي تحتمله الآية، ولتكن منكم أي بعضًا منكم، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وهذا المعنى الثاني هو الأقرب، -والله تعالى أعلم-.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصبحه.
- أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم -عليه السلام- وذريته، برقم (3335)، ومسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب بيان إثم من سن القتل، برقم (1677).
- أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب (ص: 198)، وكشف الخفاء ت هنداوي (2/97)، وقال بنكارته العلامة الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (3258).
- انظر: الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (4/1276).
- لم أقف عليه.
- مجموع رسائل ابن رجب (4/45).