- مقدمة باب المحافظة على الأعمال
- قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ...}
- قوله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ...}
- قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا}
- قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب جديد، وهو باب المحافظة على الأعمال، وتعقيب هذا الباب للباب السابق -الذي ذكر فيه الاقتصاد في الطاعة- في غاية المناسبة، وذلك أن الاقتصاد في الطاعة سبب ومظنة للاستمرار على العمل؛ لأنه كما ذكرنا أن الإنسان إذا زاد على القدر الذي يحتمله من ألوان التطوعات فإن ذلك يؤدي في النهاية إلى الانقطاع، والشارع يحب أن يستمر العبد على العمل الصالح، وأن يداوم عليه، وعرفنا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلّ، فلما ذكر الاقتصاد في الطاعة أعقبه بهذا الباب، باب المحافظة على الأعمال، وهذا كما صنع الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه حيث إنه ذكر باباً قال فيه: باب ما يكره من التشديد في الطاعة -أو في العمل، ثم ذكر بعده باباً آخر قال فيه: باب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقوم الليل.
ولعله فعل ذلك اقتداء بالإمام البخاري -رحمه الله- في تبويبه: باب في كراهة التشديد في العبادة، وهنا النووي رحمه الله- بوب: باب في الاقتصاد في الطاعة، والمعنى متقارب، والباب الذي يليه هنا: باب في المحافظة على الأعمال، وعند البخاري: باب في كراهة ترك قيام الليل لمن اعتاد قيام الليل، أو لمن كان يقوم الليل.
ثم ذكر جملة من الآيات في صدر هذا الباب، فمن ذلك قول الله -تبارك وتعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا، أي: ألم يحن؟، أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ أي: أن تلين، وترق، وتخضع لذكر الله، وهو القرآن، وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ وهم اليهود والنصارى فَطَالَ عَليْهِم الأمَدُ فقَسَتْ قُلوبُهُم، تطاول عليهم الزمان بعد أنبيائهم، وبعد نزول الكتب عليهم فقست قلوبهم، حتى صور الله تلك القسوة بقوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ [البقرة:74]، فقلوبهم صارت أشد غلظة وقساوة من الأحجار.
ثم ذكر آية ثانية، وهي قوله تعالى: ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا [الحديد:27]، أي: أن الله أتبع بعث موسى ﷺ ببعث عيسى لبني إسرائيل، وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً، الرأفة هي أرق الرحمة، رحمة رقيقة، كالشفقة مع الخوف، ثم قال: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا، أي: أنهم ابتدعوا رهبانية ما كتبها الله عليهم، كما قال: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27]، يعني: أنهم ابتدعوا هذه الرهبانية، وهي لون من التعبد الذي يحصل فيه الانقطاع عن كثير من مباهج الدنيا وملاذها ومباحاتها، فالرهبان لا يتزوجون، ولم يشرع الله ذلك لهم، ولم يأمرهم به، ولم يطالبهم بذلك، ولكنهم ابتدعوه وكان ذلك جائزاً في شريعتهم، فأقرهم الله على ذلك.
وأما هذه الشريعة فلا يجوز لأحد أن يأتي من عند نفسه بلون من التعبد لم يشرعه الله ، فالله لا يعبد إلا بما شرع، والله -تبارك وتعالى- يقول: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ [الشورى:21].
ويقول: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا [الكهف:110]، يعني: صواباً موافقاً للشرع، وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، أي: عملاً خالصاً لله تعالى، والنبي ﷺ يقول: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[1].
فلا يقبل الله من العمل إلا ما شرعه، فالمقصود أن هؤلاء ابتدعوا هذه الرهبانية، ينقطعون في معابد بعيدة عن مجتمعات الناس، وعن محال سكناهم، ينقطعون فيها للعبادة عشرات السنين، إلى أن يموت الإنسان، لا يتزوج، ولا يعافس شيئاً من لذات الدنيا وشهواتها.
لكن الله قال: فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27]، أي: أنهم فرطوا فيها، وضيعوا، وبدلوا، وغيروا، حتى صار كثير من تلك الأديرة التي يوجد فيها الرهبان والراهبات صار ذلك من المحال التي تُتعاطى فيها الفواحش، وذلك معلوم ومعروف في التاريخ إلى يومنا هذا، وصارت أقبية تلك المعابد والأديرة محالاً لإلقاء أولاد الفجور والزنا -أكرمكم الله- ومَن يَسمع، فيلقون الجنين حينما يولد في أقبيتهم حتى يموت، وقد وُقف على جملة من تلك الأقبية فوُجد فيها تلك الهياكل، وبقايا الجثث البشرية لهؤلاء الأجنة والأطفال الذين ولدوا حديثاً، فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا وصاروا يأخذون أموال الناس بالباطل باسم الدين وباسم الصلاح والتقوى، كما قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [التوبة:34].
وقال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [النحل:92]، المفسرون -رحمهم الله- يذكرون في هذه الآية أشياء، بعضهم يقول: نزلت في امرأة من قريش، وبعضهم يقول: نزلت في امرأة من تميم يقال لها: رَيْطة، وبعضهم يقول: نزلت في المرأة السوداء التي كانت تُغلب على نفسها، وكانت تُصرع، فطلبت من النبي ﷺ أن يدعو لها، قيل كان يقال لها: سُعيدة، وقيل: سُعيرة، وكانت تغزل الصوف، وكل ذلك لا يصح، لم يرد شيء منه بإسناد صحيح.
فالله ضرب هذا المثل سواء كان لامرأة كانت موجودة بين ظهرانيهم، أو كان ذلك صورة صوّر الله بها هذا المعنى فقط، وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [النحل:92]، هذا مثل يضرب للإنسان الذي يعمل عملاً ثم ينقضه، يعاهد عهداً ثم ينقضه، ينذر نذراً ثم بعد ذلك لا يفي به، يقوم بأعمال طيبة وأعمال صالحة ثم بعد ذلك يأتي بما يفسدها.
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ، صور الله ذلك بامرأة تغزل الصوف، فإذا استحكم وتم قامت بنقضه في آخر النهار، تتعب في غزله، وإحكامه وإتقانه، ثم بعد ذلك تشتغل بفتله، وهتكه، وإعادته على هيئته الأولى كما كان، حيث كان صوفاً لم يغزل، فهذا مثل ينبغي للإنسان أن يعتبر به في أحواله كلها، أنه إذا بدأ في عمل أتمه، وإذا ألزم نفسه بعمل قام به على الوجه المطلوب، ولا يهدم عمله ويخرب بيته بيده، وإنما يستمر على الأعمال من أجل أن يكون ذلك تاماً كاملاً، فيكون بعد ذلك له تحصيل، فيحصل له مبتغاه بعد ذلك، ويجد أجره كاملاً عند الله .
في هذا العام رأيت رجلاً في يوم عرفة يصيح بأعلى صوته، ويقسم الأيمان المغلظة أنه لا يريد أن يحج، وأنه سيرجع، ويطالب الآخرين أن يدبروا له طريقة يرجع فيها بعد أن غاضب أمه أمام الناس في صعيد عرفة.
في عرفة الذي هو ركن الحج الأعظم يفعل الإنسان مثل هذه الأفعال؟! وهكذا في أمور كثيرة، وكذلك الإنسان إذا عمل أعمالاً في حياته، ثم إذا شاخ وتقدم به العمر عمل أعمالاً سيئة، فقد يختم له بذلك.
وقال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، وهذا في المعنى نفسه، أي واستمر على طاعته حتى يأتيك اليقين، أي: الموت على ما قاله المحققون من المفسرين وغيرهم، بمعنى أن الإنسان يستمر على العمل الصالح، ولا ينقطع ولا يقول: قد عملت، قد عملت، وإنما يستمر على العمل الطيب الصالح حتى يلقى الموت، ولا يقول: الحمد لله، أنا عملت أشياء، وأنا صليت، وأنا أفضل من غيري.
ومن الطرائف أني رأيت رجلاً في الحج جالساً لا يذكر الله في عرفة، وهو كبير في السن، فقلت: يا فلان، لو ذكرت الله لو كبرت، وهللت، ولبيت، قال: نحن قلنا هذا في أول الصباح، حتى بحت حلوقنا ويكفي، فالآن نجلس ونتحدث، في وقت الوقوف بعد الزوال ليس له اشتغال بذكر، ولا تلبية، ولا بدعاء، ولا بتلاوة، ولا بغير ذلك.
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ استمر على العمل حتى تلقى الله ، وهو صبر قليل، ثم يتقضَّى ذلك جميعاً، كما تقضَّى رمضان، فصامه من وُفق، وترك صيامه من لم يوفق.
وكذلك انقضى الحج، وهكذا انقضت العشر من ذي الحجة، من الناس من اجتهد فيها بالعبادة، ومنهم من فرط، وهكذا انقضى العام، ونحن في آخر أيامه، وهكذا تنقضي السنون سنة بعد سنة، يصير الصبي شيخاً، وهكذا حال الدنيا.
فيحتاج إلى شيء من الصبر على طاعة الله حتى يلقاه على ذلك، ويختم له بالعمل الصالح الطيب.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (3/ 184)، رقم: (2697)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (3/ 1343)، رقم: (1718).