الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
حديث "إن الله عز وجل تابع الوحي.." ، «يبعث كل عبد على ما مات عليه»
تاريخ النشر: ٢٠ / رمضان / ١٤٢٦
التحميل: 973
مرات الإستماع: 1836

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي الحث على الازدياد من الخير في أواخر العمر أورد المصنف -رحمه الله- حديث أنس قال: "إن الله تابع الوحي على رسول الله ﷺ قبل وفاته حتى توفي أكثر ما كان الوحي"[1]، متفق عليه.

إن الله تابع الوحي على رسول الله ﷺ قبل وفاته حتى توفي أكثر ما كان الوحي بمعنى: أن النبي ﷺ في سيره في دعوته إلى الله منذ أن نبئ بـ"اقرأ" وهو ﷺ لم يتوان في البلاغ والجد والعمل في دعوة الناس إلى دين الله -تبارك وتعالى- وتوحيده وعبادته، ولم يكن له ﷺ في ذلك كله إجازة ولا توقف، لا في أول هذه الدعوة، ولا في وسطها، وفي آخرها فكان ﷺ في غاية الجد إلى أن فارق الحياة حتى إن جبريل كان ينزل عليه يعارضه في رمضان في كل عام مرة يعارضه القرآن وفي العام الذي قبض فيه عرضه عليه مرتين[2]، كان يعرض عليه القرآن مرة واحدة في رمضان في كل سنة، وفي السنة التي قبض فيها كان ذلك مرتين.

وقوله: "توفي أكثر ما كان الوحي"، يعني أكثر المراحل التي نزل فيها قرآن على النبي ﷺ هي هذه المرحلة الأخيرة من حياته ونزول القرآن -عليه الصلاة والسلام- يعني نزول تشريعات جديدة وأعمال وتكاليف ومتطلبات للبلاغ، فهذه الأمور حينما تتابع وتكثر في آخر أيامه -عليه الصلاة والسلام- فإن هذا يعني ما سبق وذلك أن الخيل إذا قاربت المضمار نهاية السباق جاءت بأقصى ما بوسعها وبإمكانها من الإسراع، فالحياة ليس فيها توقف عن العمل بطاعة الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح، والدعوة من أولها إلى آخرها فهي مزدرع للآخرة، وإذا كان الإنسان يستشعر قرب الرحيل فإن ذلك يقتضي منه المزيد من الجد والاجتهاد من أجل أن يحصل أكثر، انظر إلى أحوالنا في الأمور المادية تجد التلاميذ مثلاً يقرءون ويراجعون لكن آخر نصف ساعة قبل الاختبار تجد أن الجهد فيها مضاعف لا يضيعون ثانية، هذا في عمل دنيوي فما بال الإنسان إذا كان يعمل لآخرته يحصل منه الفتور، وإذا كان يشتغل بالدعوة إلى الله يشتغل في مقتبل العمر، ثم بعد ذلك لربما يشعر أنه قد كبر على الدعوة، وأن الدعوة تصلح للشباب وللفتيان ولمن هم في مقتبل العمر، أما هو فيأخذ إجازة ولذلك تجد الكثيرين لربما كان شعلة من النشاط في أيام شبابه، ثم بعد ذلك لما خبطه الشيب تنحى وبقي على حافة الطريق، وصار تلاميذ تلاميذ تلامذته يتجاوزونه ويسبقونه سبقًا بعيدًا وهذا أمر لا يليق لمن عرف أحوال النبي ﷺ، ولمن عرف ما يطلب، ولمن عرف حقيقة الدنيا والآخرة.

فاللائق أن يزداد وليس يتوقف ويتنحى عن دعوته فهذه مهمة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، فالنبي ﷺ لم يتوقف في آخر حياته أو يقول: قد أديت وبذلت في مشوار طويل وإنما كان إلى مماته ﷺ وهو في غاية الجد.

ثم ذكر حديث جابر قال: قال رسول الله ﷺ: يبعث كل عبد على ما مات عليه[3]، رواه مسلم.

ذكر بعض أهل العلم أن الذي يموت وفي يده مزمار أنه يبعث يوم القيامة وفي يده مزمار، لربما كانت هذه الصورة نادرة في السابق كان الذين عندهم مزامير أو يشتغلون بها في زمن قديم مضى لربما نادرة أو قليلة، لكن اليوم هذا كثير، وذلك أنه بكل بساطة أكثر ما يموت الناس بسببه هو الحوادث، وتجد الكثيرين في ذهابهم ومجيئهم هذه المعازف هي التي يفتتحون بها يومهم ويختتمونه، فهذا بكل بساطة لو أنه خرج وحصله حادث ومات وهو يسمع هذه المعازف فقد مات وختم له بخاتمة سيئة، قد يقع له هذا الحادث في وسط البلد، وقد يقع في أطرافه، وقد يقع في سفر من الأسفار فيبعث على هذا.

فينبغي على الإنسان أن يحاذر ويخاف وقل مثل ذلك في الأعمال السيئة التي صارت سهلة وهينة عند الناس اليوم، يعني في السابق ما هي الأعمال السيئة التي يمكن أن يعملها؟ لا يوجد أجهزة تسجيل صوتيات، لا يوجد نت، الآن يسمع المعازف وهو في بيته من القنوات الفضائية، يجلس على رقص وغناء، يجلس على مسلسلات محرمة، هذا الإنسان قد يجلس على مواقع سيئة في الإنترنت، ثم يموت فيبعث على هذا يبعث على هذا، والأعمال بالخواتيم، وفي المقابل قد يبعث الإنسان على عمل صالح، مات وهو يصلي، مات وهو ساجد.

فهذا الحديث: "يبعث كل عبد على ما مات عليه" يبين لنا أهمية الخاتمة وعظيم شأنها، وبعض الناس للأسف يتحدث عن هذه القضايا بطريقة أخرى تمامًا فهو ينتقد من يدعو ربه أن يموت وهو ساجد مثلاً، أن يقبض روحه وهو ساجد أو وهو محرم فهذا الإنسان الذي قبض الله روحه وهو ساجد أو وهو محرم هو يبعث يوم القيامة على هذا، فالمحرم يبعث ملبيًا، وقد جاء ما يدل على أنه تكتب له عمرة إلى يوم القيامة، فمثل هذا الذي مات هذه خاتمة يتمناها المؤمن؛ فبعض الذين يتحدثون بطريقة أخرى يقولون: هذه مفاهيم قاصرة، وهذه تصورات ضيقة، فالعمل والجد في عمارة الدنيا، وفي الأعمال الجادة في وظيفته، وفي مكتبه، فإذا مات فهو في عمل في طاعة الله فلماذا تقول تقصر النظرة على موت الإنسان وهو ساجد أو موت الإنسان وهو محرم، نقول: بل ما ذكره هو النظر القاصر أين هذا الذي يموت وهو ساجد أو يموت وهو محرم من ذاك الذي يموت وهو يشتغل في دنيا! فرق كما بين السماء والأرض وحتى لو كان يريد بذلك ما عند الله ، حتى لو كان يريد إعزاز الدين بعمله ذاك الدنيوي ليس كالذي يموت وهو ساجد، أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد[4]، المحرم يبعث يوم القيامة ملبيا[5]، وهذا يريد أن يبعث يوم القيامة وهو جالس على مكتبه.

فأقول: للأسف تغيرت تصورات ومفاهيم الكثيرين فنسأل الله العافية.

قد مضت الأحاديث في هذا والآيات، يعني يكفينا  أن الله قال لنبيه ﷺ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ۝ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ۝ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1-3] الآن الله -تبارك وتعالى- يعطي النبي ﷺ معلما يدل على قرب انتقاله ورحيله من هذه الحياة الدنيا، إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ۝ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:1-2] فمعنى ذلك أن المهمة قد اكتملت، وأن الرسالة قد أديت، وأنه ما بقي عليك إلا الاستعداد للرحيل فأوصاه بقوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3] لا يوجد استرخاء فالمؤمن حياته جد من أولها إلى آخرها في عبادته ودعوته وإصلاحه، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وما إلى ذلك لا يتوقف، فإذا قارب النهاية فالجد الجد فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا مشوار طويل في الدعوة، والقيام بوظائف الرسالة ومع ذلك في الأخير سبح: نزه الله سبح متلبسا بحمده فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، وأيضًا وَاسْتَغْفِرْهُ الاستغفار يواجه بهذا الخطاب النبي ﷺ يوجه إليه فكيف بمن حياته عامرة بالذنوب، ولهذا قال أهل العلم بأن الإنسان إذا قارب إما لكبر سن، أو لمرض عضال، يعني يكون هو غالبًا سبب الوفاة فينبغي أن يكثر من التسبيح بحمد ربه، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي؛ ولهذا كان النبي ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- لما نزلت عليه الآية: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي[6].

حياة مليئة عامرة بالجد والاجتهاد والعمل وتختم بهذا فكيف بحياة مليئة بالتفريط والتضييع والغفلة فهذا أولى أن يكون مثل ذلك إذا تقدمت به السن، أو وقع له مرض يظن أنه يقربه إلى أجله بإذن الله ، ولذلك من المحزن أن الإنسان يكون في حال رجله في القبر ومع ذلك هو في غاية الغفلة، ولربما في غاية الفساد، ولربما في غاية الإفساد، هذه ثلاثة مراتب، إما أن يكون غافلاً، أو يكون فاسدًا مقيمًا على أمور يسخطها الله ، أو يكون مفسدًا الرجل في القبر ومع ذلك لا ترى أي أثر لأوبة لرجوع لتوبة لاستغفار إلى آخر لحظة على نفس المهيع،  على نفس الطريق، على نفس العمل، وقد رأيت في مستشفى إنسان لا يتحرك منه إلا الرأس مبتلى -نسأل الله العافية للجميع- به شلل رباعي بسبب حادث، أو غير ذلك وتجد قنوات أحيانًا فوق رؤوسهم بكل غرفة قنوات غير جيدة، تتحدث مع الإدارة يا جماعة اتقوا الله في هؤلاء صور النساء والغناء، والخ، فوق رؤوسهم لا يجوز وهؤلاء لا يتحركون يقولون: هؤلاء يتكلمون ويطالبون ويغضبون حينما نحجب عنهم هذه القنوات، يقولون: جربنا حجبناها جاءتنا ملاحظات انتقادات فحجبنا هذه القنوات، فثارت ثائرتهم وقامت قيامتهم، -نسأل الله العافية-، هذا لا يتحرك إلا رأسه المفروض أنه يعتبر كان ممتلئ قوة ونشاطًا، وبعض هؤلاء لربما كان لاعبًا يهز الأرض إذا جاء يطارد خلف هذه الكرة، الأرض تهتز وبعد ذلك لا يستطيع أن يحرك أصبعه، -نسأل الله العافية للجميع-.

فإذا كان الإنسان بهذه المثابة لا يتعظ لحظة حادث انقلبت الحال فالمفروض أن يكون الإنسان في مثل هذه الحال أن يكون ليس له شغل إلا يقول: الحمد لله الذي سلم لي قلبي ولساني أذكر الله إلى الممات فهو يلهج ليس عنده وقت يسبح لكن الغفلة، الغافل غافل مهما كان، ومهما وقع له فقد رأيت أحد الصالحين ممن نحسبه كذلك رجل كبير في السن أظنه جاوز المئة رأيته يجلس في المسجد من بعد الظهر إلى بعد العشاء يؤذن، ويجلس في المسجد حافظ ستة أجزاء يرددها ويضطجع كأنه فرخ ضعيف، فإذا أتيت إليه وسلمت عليه كيف الحال الحمد لله طيب سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ما عنده وقت ينتظر، فإذا سألك كيف فلان سبحان الله والحمد لله حتى ترد عليه بينهما يسبح ما ينتظر ما يسكت بين الكلام في المحاورة فإذا سمع منك وسألك عن فلان وفلان وفلان ممن يعرفهم ابتسم بارك الله فيك، ثم اضطجع وتركك وجلس يقرأ؛ لأنه الآن يشعر أن الأنفاس قاربت فما عنده وقت للحديث والانبساط مع الناس وتضييع الأوقات.

ورأيت بعض من هم في شبه غيبوبة بل في غيبوبة وأصبعه يحركها وتتحرك شفتاه، وأتيت أحد المستشفيات مرة ورأيت أناسًا من هذا القبيل فذكر لي في ذلك المستشفى من يؤذن في أوقات الأذان كان مؤذنًا منذ عقود وهو في غيبوبة يؤذن، وآخر صاحب إبل، وصاحب طرب كان يغني وهو فاقد للوعي.

هذا يوجد، فالإنسان يجتهد، ويجتهد، ويجتهد ولا يفكر في إجازة إلا الراحة في الجنة، ليس هناك مستراح إلا في الجنة، ولهذا لما سئل بعض الأئمة كالإمام أحمد متى يجد المؤمن طعم الراحة؟

قال: "إذا وضع أول قدم في الجنة"[7].

فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة ووالدينا وإخواننا المسلمين، وأن يغفر لنا ويرحمنا، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

  1. أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول ما نزل، برقم (4982)، ومسلم، أوائل كتاب التفسير، برقم (3016).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب من ناجى بين يدي الناس، ومن لم يخبر بسر صاحبه، فإذا مات أخبر به، برقم (6285)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله عنهم-، باب فضائل فاطمة بنت النبي -عليها الصلاة والسلام-، برقم (2450).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله -تعالى- عند الموت، برقم (2878).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (482).
  5. أخرجه البخاري في مواضع منها: في كتاب الجنائز، باب كيف يكفن المحرم؟، برقم (1267)، ومسلم، كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات، برقم (1206).
  6. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:8]، برقم (4968)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (484).
  7. طبقات الحنابلة (1/293).

مواد ذات صلة