الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
هذا الحديث ذكره الإمام النووي -رحمه الله- في باب المجاهدة، وذلك لأنه من الأمور المعينة على تحقيقها، بحيث إن الإنسان في باب المجاهدة يحتاج إلى مدافعة أمور متجذرة في النفس.
النفس تميل إلى الراحة، والدعة، النفس تحب الإخلاد إلى السهولة دائماً، والقعود عن العمل، وإنما يرفع الإنسانَ عملُه إذا كان خالصاً لوجه الله ، والعمل صعود، والصعود دائماً يحتاج إلى بذل مزيد من الجهد، وكلما أراد أن يرتقي أكثر أراد أن يبذل أكثر.
كذلك أيضاً مدافعة الشهوات التي هي بمثابة الغرائز، بل هي غرائز في بعضها، هذا يحتاج إلى مجاهدة كبيرة، ما حبب إلى النفوس من الشهوات، والنساء، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، وألوان السيارات، والمراكب، وما إلى ذلك من ألوان البهجة والنعيم، هذه أمور حببت إلى النفس.
فالنفس تحتاج إلى مجاهدة كبيرة من أجل أن تتغلب عليها، فهناك أمور إذا تذكرها الإنسان قوي في باب المجاهدة، ومنها: هذا الحديث.
يتبع الميتَ ثلاثةٌ: أهله، وماله، وعمله أهله يأتون معه إلى المقبرة، أولاده وقراباته، وماله، يأتي مماليكه، يأتي خدمه، واليوم يأتي خدمه ويأتي أيضاً الذين يعملون عنده في مؤسسته، في شركته، أحياناً ترى أناساً كثيرين يحضرون هذه الجنازة، ويظهر عليهم سيما معينة أن هؤلاء يشتغلون في شركة أو نحو هذا، فإذا سألت قيل: هؤلاء كلهم من الموظفين عند هذا الإنسان، تأتي حافلات تنزلهم في المقبرة، فيرجع كل هؤلاء، وترجع تلك السيارات التي هي من تركته، ولا يبقى عنده إلا شيء واحد وهو العمل، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38].
أما الأهل فإنهم يسلون بعد ذلك، ويتناسونه وكأن شيئاً لم يكن، كما هو مشاهد، وهذه سنة الله في الخلق، ولو بقيت الأحزان يكابدها الناس لما بقي للناس لذة في مطعم، ولا مشرب، ولا منكح، ولا غير هذا، لكنهم ينسون تماماً، حتى لربما نسوا أن يذكروه، و لربما ينسون أن يدعوا له ، بل إذا جاء الجيل الذي بعدهم لربما نسي اسمه.
والآن لو جئت للجيل الثالث أو الرابع، ماذا تعرفون عن جدكم؟ ماذا تعرفون عن أعماله، وأوصافه وهيئته وكذا؟، لا يعرفون شيئاً، لربما ما يعرفون إلا الاسم.
وإذا ارتقيت إلى الجد الذي بعده، حتى اسمه ربما ما يعرفونه، وهكذا، ويبقى العمل، عمل الإنسان هو الذي يسعد به، أو يشقى، ولربما هذه الأشياء التي جمعها يحاسب عليها ويعذب؛ لأنه جمعها من حلال وحرام، وهؤلاء ينعمون بها، وتصل إليهم بطريق مباح وهو الميراث، وهو يشقى ويعذب بسبب ذلك، ولربما لا تأتيه دعوة من هؤلاء، أو كثير منهم.
وإذا تذكر الإنسان هذا لم يغتر بالدنيا، ومباهجها، وكان ذلك عوناً له على تحقيق المجاهدة.
الشراك: هو الجلد، جلد النعل الذي يكون في أحد الطرفين يقال له: شراك، بحيث لو انقطع لم يستقم له المشي بهذا النعل، فالجنة أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، وكذلك النار، أي أنها قريبة، وهذا ظاهر، وذلك أن الرجل قد يتكلم بالكلمة من سخط الله، كما في الحديث: إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق[2].
بكلمة واحدة يتحول كل شيء، يصير هذا الإنسان كافراً يستحق النار، وكذلك أيضاً بكلمة واحدة يتحول إلى مؤمن، والرجل الذي تبع النبيَّ ﷺ وأسلم، وبايعه على الإسلام، وقتل معه في المعركة، لا صام، ولا صلى، وأخبر النبيُّ ﷺ أنه دخل الجنة بهذا[3].
الشاب اليهودي دخل عليه النبي ﷺ وهو في مرض الموت، فعرض عليه الإسلام، فنظر إلى أبيه، فقال: أطع أبا القاسم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله[4].
فالحاصل أن الرجل مات ولم يعمل شيئاً من الحسنات، كذلك في أعمال البر قد تكون قليلة، المرأة البغي من بني إسرائيل لما رأت الكلب الذي قد بلغ به العطش مبلغه، فنزلت وملأت خفها، ثم سقت هذا الكلب، غفر الله لها بذلك[5]، وهو عمل بسيط.
المرأة التي جاءت تسأل عائشة -رضي الله عنها- ومعها ابنتان، فأعطتها ثلاث تمرات، فأعطت كل بنت تمرة، ورفعت الثالثة إلى فمها، فكل بنت التقمت تمرتها بسرعة، فلما أرادت أن تضع التمرة الثالثة في فمها كل واحدة من هؤلاء البنات مدت يدها تريد أن تعطيها، فهي بمحض الجبلة والشفقة الوالد يطوي على الجوع، يبيت على الجوع، ويبيت طاوياً من أجل أن يشبع الأولاد، فبمحض الجبلة أخذت التمرة ولم تأكلها وقسمتها نصفين، وأعطت هذه نصفاً، والأخرى النصف الآخر، فأخبر النبي ﷺ أنها قد دخلت الجنة بهذا العمل[6]، شيء بسيط، والرجل الذي مرَّ بغصن شجرة يؤذي المسلمين فقطعه، فغفر الله له[7].
فالمقصود من هذا أن الإنسان لا يحقر من المعروف شيئاً، ولو كان شيئاً يسيراً، ولهذا قال النبي ﷺ: لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق[8]، فالبر وإن قلّ قد يدخل به الإنسان الجنة، وقد يغفر له بسبب هذا العمل اليسير البسيط، وهكذا أيضاً لا يتقالّ الإنسان معصية الله ، لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، فلا يقول الإنسان: هذه المعصية قليلة صغيرة، فالصغائر إذا اجتمعت يمكن أن تحرق الإنسان، وتكون كبائر، الصغيرة إذا تكررت تكون كبيرة.
والنبي ﷺ شبه كثرة الصغائر بقوم نزلوا وجاء هذا بعود، وهذا بعود، فأوقدوا ناراً، وصنعوا طعامهم على هذه[9]، فكذلك الصغائر إذا اجتمعت، والإنسان لا ينظر بهذا المنظار ويقول: هذه صغيرة، أنت تعصي الله ، وقد تموت على هذا، وقد يطمس على قلب الإنسان بسبب تعمده، وتساهله في المعاصي، فهذا كله يحفز في الإنسان أن يُكثر ما استطاع من الخير، ولو كان ذلك قليلاً، ولو بشربة ماء، فقد يكون سبباً في دخوله الجنة، وأن يرعوي وينكف عن كل دنس، وعن كل ذنب ومعصية، ولو كانت قليلة، فقد يختم له بذلك، أو يختم على قلبه بسبب اجترائه على الله .
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يتقبل منا ومنكم، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك (8/ 102)، رقم: (6488).
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان (8/ 100)، رقم: (6477)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار (4/ 2290)، رقم: (2988).
- أخرجه أحمد (39/ 41)، رقم: (23634).
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام؟ (2/ 94)، رقم: (1356).
- أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار (4/ 173)، رقم: (3467)، ومسلم، كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها (4/ 1761)، رقم: (2245).
- أخرجه مسلم، باب فضل الإحسان إلى البنات (4/ 2027)، رقم: (2630).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم (4/ 2021)، رقم: (1914).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء (4/ 2026)، رقم: (2626).
- عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله ﷺ: إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كقوم نزلوا في بطن واد، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم، وإنّ محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه، أخرجه أحمد (37/ 467)، رقم: (22808).