الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فعن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر جُندُب بن جُنادة عن النبي ﷺ فيما يروي عن ربه -تبارك وتعالى.
الإمام النووي -رحمه الله- ليس من عادته أنه يورد الإسناد في هذا الكتاب، وهنا لعله أورد ذلك؛ لأن هؤلاء الذي رووا هذا الحديث في سلسلة هذا الإسناد هم من الأئمة العلماء الذين عرفوا بالفقه والعبادة، فسعيد بن عبد العزيز هو: التنوخي عالم الشام ومفتيها، من تلاميذ مكحول الدمشقي، وكان إماماً في القراءة، وكان من أهل العبادة، والورع، والزهد، وهو كثير البكاء، لاسيما في الصلاة، إذا قام يصلي كان يبكي.
وسئل عن هذا فقال: إذا وقفت في الصلاة مُثلت لي جهنم، وهذا أحد الأسباب التي يمكن أن يستجلب الإنسان بها الخشوع، أن يتصور أنه واقف على الصراط، أو واقف بين يدي الله ، وكانت وفاته -رحمه الله- سنة ست وسبعين بعد المائة.
وربيعة بن يزيد هو الملقب بالقصير، وهو من أصحاب مكحول الدمشقي، وبعضهم يفضله عليه، وحسبك بمكحول -رحمه الله، فقد كان فقيهاً وعالماً من علماء الشام، استشهد بإفريقيا سنة مائة واثنى عشر للهجرة.
وهو يروي هذا الحديث عن أبي إدريس الخولاني، نسبة إلى قبيلة سكنت الشام يقال لها: خولان، وكان مولده -رحمه الله- عام حنين، في العام الذي غزا فيه النبي ﷺ الطائف، وكانت فيه وقعة حنين بعد فتح مكة، ومعلوم أن ذلك كان في السنة الثامنة من الهجرة، وهو من العلماء العباد، وكانت وفاته سنة ثمانين للهجرة.
هذا الحديث من الأحاديث العظيمة، وهو من أعظم الأحاديث الواردة عن النبي ﷺ، فالله يقول: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، المخلوق يمكن أن يأمر نفسه، وأن ينهى نفسه، والله قال: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53]، ويمكن للإنسان أن يلزم نفسه بشيء، أو أن يمتنع عن شيء، مع أن الإنسان داخل تحت أمر غيره وقهره، سواء كان ذلك بالنسبة للمخلوقين، يكون داخلاً تحت أمر غيره من المخلوقين، أو أن الجميع كلهم تحت ملك الله ، فإذا كان المخلوق يأمر نفسه ويُلزمها فالذي ليس فوقه أحد، وليس داخلاً تحت أمر أحد أولى بأن يأمر نفسه، وأن ينهى نفسه.
يعني: إذا كان الإنسان لا يملك التصرف المطلق، ومع ذلك يأمر نفسه وينهى نفسه فكيف بالذي له التصرف المطلق، كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله تعالى، فهذا أمر لا إشكال فيه، أن الله يحرم على نفسه بمحض مشيئته أشياء، ويوجب على نفسه بمحض مشيئته أشياء، ولا ملزم له ، فلا أحد يلزم الرب من خلقه.
يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وهذا يدل على امتناع وقوعه من الله -جل جلاله، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، حرمه على نفسه، وحرمه بإطلاق على الخلق، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وكل من وضع شيئاً في غير موضعه فقد ظلم، هذا أصل معناه في اللغة، ومنه قول الشاعر:
وقائلةٍ ظلمتُ لكم سقائي | وهل يخفى على العَكدِ الظليمُ |
يعني: أنها ضربت اللبن قبل أن يروب، وذلك يُضيع زبده، والأرض التي ليست معدة للحفر إذا حفر فيها يقال لها: المظلومة، فكل من وضع شيئاً في غير موضعه فقد ظلم، وأعظم من ذلك وضع العبادة لغير مَن خلق، فالله الذي خلق ورزق، وأعطى ومنع هو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، فإذا وُجه الشكر والعبادة لغيره فلا شك أن هذا من أعظم الظلم، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، ويدخل في ذلك ما يتفرع منه من ألوان المعاصي، ويدخل فيه مظالم الخلق بينهم، وظلم العبد لنفسه أيضاً.
قال: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، كلكم ضال، لولا أن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب لما اهتدى أحد، والله يقول لنبيه ﷺ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7].
قال بعضهم: أي ضالاً كما قال الله : مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا [الشورى:52]، يعني: قبل إنزال الوحي إليك ما كنت تدري ما الرسالة والوحي حتى أنزل الله عليك هذه الرسالة، وهذا الوحي، فهداك بذلك.
كلكم ضال يمكن أن يكون المراد بذلك أي: قبل بعث الرسل -عليهم الصلاة والسلام، وإنزال الكتب، ويمكن أن يكون المراد بهذا أنه لو تخلى الله –تعالى- عن العبد لضل وتاه، ولذلك العبد لو وُكل إلى نفسه طرفة عين لضاع، ولهذا يقول الله : هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الأحزاب: 43]، فهو ينقلهم من هداية إلى هداية.
يقول: فاستهدوني أهدكم، يعني: اطلبوا الهداية مني أهدكم، والله يحب من دعاه، ونحن دائماً نقول في الصلاة: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [الفاتحة:6]، ولذلك الإنسان لا يركن إلى نفسه، ولا يثق بعلمه، أو ذكائه ومعرفته، وتجاربه، وخبرته في الحياة.
فيقول: أنا جربت الأمور، أنا أعرف، أنا أستطيع أن أميز الحق من الباطل، وأستطيع أن أختار بمحض إرادتي، وباعتمادي على نفسي.
إنما يطلب ذلك من الله ويستعين به، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء.
يقول: يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم بمعنى: أن الخزائن كلها بيد الله ، والأرزاق عنده، وبيده مفاتح الخير والرحمة.
فلو أن الله ترك عبده لمات جوعاً، فالله هو الذي يرزقه، وقد ذم الله قارون حينما قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، فالرزق الذي يأتينا لا يأتينا من قدراتنا، ونشاطنا، وذكائنا، وجَلَدنا، وإنما الله هو الذي يسوق هذه الأرزاق، فهذه الأرزاق يسوقها الله للنمل، ويسوقها للحيتان في البحر، ويسوقها لصغار الدواب وكبارها مما نراه ونشاهده، ومما لا نراه ولا نشاهده، ونحن نشاهد الكثير من هذه المخلوقات من الطيور وغيرها، لسنا نحن الذين نتكفل برزقها، ولا نعطيها شيئاً، بل ندفعها ومع ذلك هي تعيش، وتأتيها أرزاقها، والنماذج العجيبة في هذا كثيرة جداً.
فالله هو الذي يزرق من يشاء من عباده، وتعرفون أن من الحيات ما خلقته تكون أصلاً من غير إبصار، ومع ذلك يخرج من جحره، ويفتح فمه، ثم بعد ذلك يأتي طائرٌ أو غير ذلك، ويكون طعامه بهذه الطريقة، كيف يحصل هذا؟ الله أعلم، هل هناك شيء في فمه يجذب هذه الطيور والمخلوقات؟، الله تعالى أعلم، لكن الله تكفل برزقه، إما بواسطة، وإما بغير واسطة، وبعض أهل العلم كان جالساً على سطح ومعه أصحابه يأكلون، فجاء إليهم قط، فأعطوه من الطعام، فذهب ورجع سريعاً في وقت لا يمكن أن يأكله فيه، ثم أعطوه ثانية، وثالثة، ورابعة، فتبعه رجل فوجده يدخل في مكان خرب إلى قط أعمى، فيضع الطعام بين يديه.
وتوبة بعض العبّاد -أظنه الفضيل بن عياض- سببها أنه كان نائماً تحت شجرة، وكان يقطع الطريق، وكان يرى طائراً ينتقل بانتظام بين نخلتين، فصعد إلى هذه النخلة من باب الفضول، فوجد حية عمياء، وهذا الطائر يأخذ أشياء ويلقيها في فمها.
نحن لم نتكفل، نحن لو تكفلنا بعشرة من المساكين أو خمسة أو أقل أو أكثر لربما تعبنا وضجرنا وساءت أخلاقنا وانقطعنا.
والله أرزاقه مدرارة، فهذا الذي يأتينا إنما هو من محض فضل الله ، وإنعامه وإحسانه.
وكم من إنسان غني افتقر حتى لا يجد لقمة العيش، وكم من إنسان فقير بقي مدداً طويلة يأكل وينعم بفضل الله ورحمته.
يقول: فاستطعموني أطعمكم، يعني: سلوا الطعام مني، أو اطلبوا الطعام مني أطعمكم.
يقول: يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، لعله ذكر الطعام والثياب؛ لأن أكثر حاجة الناس إليهما، ولهذا يقال في حاجاتهم الضرورية: الطعام والكساء، ولذلك الله ذكر في الكفارات إطعام المساكين وكسوتهم، كما في كفارة اليمين.
يقول: يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، تخطئون عن عمد، وبغير عمد، تارة بترك ما أمر الله به، وتارة بفعل ما حرمه عليكم، تارة نقصر في حقوق من استرعانا الله إياهم، ونضيع ذلك أو بعضه، وتارة يكون ذلك عن طريق الغفلة عن ذكره ، ويستولي الشيطان على قلب العبد، أو بغير ذلك.
إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، ومثل هذه الجملة مشعرة بأن هذه الأخطاء هي ما يؤاخذ عليه، وذلك ما كان بقصد وكان هذا الإنسان غير معذور، فهذا الذي يحتاج إلى استغفار، "فاستغفروني أغفر لكم"، فالإنسان يخطئ كما قال النبي ﷺ: كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون[1].
فلا يسلم من ذلك أحد مهما كانت تقواه، ومهما كانت عبادته وصلاحه وورعه، فإذا كان الأمر كذلك فيحتاج الإنسان إلى أن يكثر من الاستغفار، كما كان النبي ﷺ يفعل.
يقول: يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضُري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعونيبمعنى أن الخلق أضعف من ذلك، مهما وصلوا إليه من قوة واقتدار، أو علم، أو مال، أو عبادة، أو غير ذلك فإنهم لن يستطيعوا أن يصلوا إلى مستوى يوصلون به النفع قلّ أو كثر، فهم أصغر وأحقر من ذلك.
ولن يبلغوا أن يضروه ، والضرر غير الأذى، ففي الحديث: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار[2].
فالأذى يمكن أن يكون بالقول، أو بنسبة الصاحبة والولد لله ، أو بسب الدهر، لكن الضرر أبلغ من الأذى، ولهذا قال الله : لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى [آل عمران:111].
على أن الاستثناء منقطع، فالأذى ليس من الضرر، فالإنسان يمكن أن يؤذي ربه بالكلام الذي لا يليق ينسبه لله ، يسب الله ، وما أشبه ذلك، ولكنه لا يستطيع أن يوصل الضرر إلى الله، فالعبد أضعف من هذا.
يقول: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، بمعنى: أن الله هو الغنيُّ الغِنى الكامل المطلق، ليس بحاجة إلى صلاح الخلْق، ولا إلى عبادتهم، ولا إلى تدينهم، ولا إلى تراويحهم، ولا إلى صيامهم، ولا غير ذلك، إنما هم ينفعون أنفسهم بذلك، وقدِّموا لأنفسكم.
والله يقول: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:272]، فهذه الأعمال التي يعملها الإنسان ترجع إليه، وهو الذي يحتاج إلى ألطاف الله ورحمته وبره وإحسانه، وثوابه، وكثيراً ما ينسى الإنسان هذا المعنى، ويظن أنه ينفع ربه، وأن الله محتاج إليه، ويبدأ كأنه يقسّط العمل الصالح على ربه ، فهو يريد أنه إذا تزوج -إن شاء الله- تنصلح حاله فيتوب من الذنب الفلاني، وإذا جاءه أولاد وبلغ الأربعين يتوب من الذنب الفلاني، وإذا وصل إلى الستين يتوب من الذنب الفلاني، والله غني عنه، وغني عن عمله، وغني عن توبته، وإنما هو المسكين، يحمل هذا الإنسانُ على ظهره الأوزار، ويستكثر منها، ويبخل على نفسه بالتوبة والاستقامة، وصلاح الحال، وهو أحوج ما يكون إلى ذلك.
يقول: يا عبادي لو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً تصور أفجر رجل من هو؟ فرعون، لو كل الناس صاروا فراعنة، الأولون، والآخرون والجن والإنس، ما نقص ذلك من ملك الله شيئاً، فالإنسان ينبغي أن يتذكر دائماً هذا المعنى، ويكثر من العمل الطيب، ويرعوي ويكف عن الأعمال التي لا تليق.
يقول: يا عبادي لو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته...، يعني: في مكان واحد، في أرض واحدة، الأحياء والأموات، الأولون والآخرون، الصغار، والرجال والنساء، والجن والإنس، فأعطيت كل إنسان مسألته.
هذا يقول: أنا أريد مثل ملك فلان، وهذا يقول: أريد مثل أملاك الدنيا، وهذا يقول: أريد مثل مال قارون، وكلهم يُعطَون ما سألوا.
قال: ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يُنقص المِخْيطُ إذا أُدخل البحر الإبرة عندما تدخلها في قِدر أو في سَطْل ما الذي ستخرجه؟ لا شيء.
البحر لو أنك غرفت منه آلاف بل ملايين البراميل لا ينقص ولا يتأثر، فكيف بالإبرة إذا غرزتها في البحر، أو غمزتها في البحر؟، لا تُنقصه شيئاً إطلاقاً.
فهذا تمثيل لتقريب المعنى، وإلا فإن ملك الله وغناه أعظم من البحر، ولا مقارنة، لكن الله قرّب لنا هذا المعنى، أي لو تمنى على الله الأولون والآخرون فأعطى كل واحد ما تمناه ما نقص ذلك من ملكه شيئاًً.
والله ينزل بقدر ما يشاء لعلم وحكمة، وإلا فإن الله قال: كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6-7]، فهذا من عادة الإنسان إلا من رحم الله -عز وجل، إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج:19-22].
والله قال في آخر سورة الأنعام: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [الأنعام:165].
وقال: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف:32].
ويقول –تبارك وتعالى: وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].
فالله ينزل بقدر ما يشاء؛ لحكمة، فمن الناس من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقره لأفسده، ومن الناس من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغناه لأفسده، وهذا شيء مشاهد.
من الناس من تراه يظهر عليه التقشف والزهد والعبادة والصلاح، وإذا جاءه شيء من عرض الدنيا تغير تماماً صورة ومعنى، فتدرك أن ذلك الذي كان يظهر عليه لم يكن من باب الرغبة فعلاً في الخير، والزهد، وإنما كان ذلك للعجز.
ولهذا بعض أهل العلم قال: إن الغنيَّ الشاكر أفضل من الفقير الصابر؛ لأن الفقير ليس عنده شيء، أما الغني فالأبواب أمامه مشرعة، ومع ذلك إذا صبر على طاعة الله، وعن معصيته كان أفضل وأعظم، ولهذا ذكر النبي ﷺ في أولائك الثلاثة الذين لا يكلمهم الله: عائل مستكبر[3]، يتكبر على ماذا؟ -نسأل الله العافية، فهذا لو صار غنياً ماذا سيفعل؟.
فالمقصود أن مثل هذه الأشياء الله يوزعها يعطيها يقسمها بين الخلق، لعلمه، وحكمته، لو كان الناس كلهم في غاية الغنى أين ستجد من يعمل، ويخبز، ويطحن، ويخدم؟، ستتعطل مصالح الخلق.
يقول: يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
يقول الله: وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [آل عمران:182]، ويقول: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
ويقول: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8].
فتوضع الكتب، وتتطاير الكتب والصحف، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، ولا ينفع عند ذلك الندم، ولا يقبل من الإنسان لا توبة، ولا غير ذلك.
فالإنسان ينبغي أن يجد ويجتهد في تحصيل الأعمال الطيبة الصالحة، فالآخرة دار لا تصلح للمفاليس، فكما أن هذه الدنيا يتسارع الناس فيها بألوان التجارات من يَصلح لهذا، ومن لا يَصلح، من يُحسن ومن لا يحسن، حتى ابتُلي كثير منهم، يتدين من أجل أن يساهم، وأشياء وأمور يندى لها الجبين.
أقول: الآخرة تحتاج إلى عمل، وتحتاج إلى مسارعة، الأرزاق في الدنيا مضمونة، لكن الآخرة تحتاج إلى جد واجتهاد وتضحية وصبر ومصابرة، والشهوات عارمة، ورمضان فرصة عظيمة جداً لتهذيب النفوس، وتقويمها على طاعة ربها ومعبودها .
أسأل الله أن يفتح على قلوبنا، وأن يشرح صدورنا، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ (4/ 659)، رقم: (2499)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة (5/ 321)، رقم: (4251).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وما يهلكنا إلا الدهر (6/ 133)، رقم: (4826)، ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر (4/ 1762)، رقم: (2246).
- أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (4/ 362)، رقم: (4441)، والبيهقي في شعب الإيمان (7/ 288)، رقم: (5022)، والبزار (9/ 417)، رقم: (4023).