الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
مقدمة باب المراقبة
تاريخ النشر: ٠٧ / ربيع الأوّل / ١٤٢٦
التحميل: 2629
مرات الإستماع: 3190

مقدمة باب المراقبة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب المراقبة، والمراقبة يراد بها مراقبة الله بملاحظة الخطرات، والحركات، والسكنات، بحيث إن الإنسان يستحضر هذا المعنى الكبير، وهو أن الله يراه ويطلع على سره وعلانيته، وعلى كل أحواله، يعلم الخفيات، يعلم السر وأخفى.

فإن لم يتوصل إلى تلك المرتبة المذكورة: أن تعبد الله كأنك تراه -فهذا هو الإحسان، وهو رأس المراقبة- فإنه ينتقل إلى ما بعدها وهي: فإن لم تكن تراه فإنه يراك، يعني: فلا أقل من أن تستحضر أن الله يراك، إن لم تستطع أن تتقرب إلى الله، وأن تتعامل معه كأنك تشاهده، فتنتقل بعد ذلك إلى المرتبة التي دونها على قول من فسره بهذا، وهي أن تستحضر أن الله يراك، ويطلع على جميع أحوالك، وهذه مرتبة عالية في الإيمان، وذلك أن الإسلام يليه الإيمان، ثم فوق ذلك جميعاً هذه المرتبة التي هي مرتبة الإحسان، ولا يمكن أن تحصل للعبد إلا بتحقيق المراقبة.

وهذا المعنى نحن أحوج ما نكون إليه في هذا الزمان؛ لأن الأمور لم تعد كما كانت في السابق، كان الإنسان في سابق عهده ليست ثمّة ما يقلقه ويشغله من الأمور الفاتنة، لربما له شغل سوى المسجد مع بيته، مع عمله، ولربما اجتمع مع بعض الأصحاب، فإن ارتقوا مرتبة أو تقدموا خطوة فإنهم لربما يلعبون بعض الألعاب التي يقال: إنها محرمة أو نحو ذلك.

أما اليوم فأصبح الإنسان وهو في داخل بيته يستطيع أن يتنقل، ويطوف ببصره، ويتجول في أنحاء العالم، يشاهد ما شاء من العقائد، والمذاهب، والآراء الفاسدة، والديانات، والخلاعة، والمجون وما إلى ذلك، وما نقص عليه من هذا كملته تلك الفضائيات في أمور يندى لها الجبين.

والله مطلع عليه عالم بحاله، مراقب له، يعلم ما هو عليه في بيته، وفي مخرجه، ومدخله، وفي كل شئونه، فلابد من تربية النفوس على هذا المعنى، وتربية الأبناء على هذا المعنى، بحيث يوجد عندهم الرقابة الذاتية، ونحن بحاجة إلى هذه الرقابة، وقد رأينا كثيراً أقواماً لم تلحقهم المراهقة إلا بعد الأربعين، بعدما أدخلوا هذه القنوات الفاسدة، وعُشّ الشيطان فوق رءوسهم، وإن قالوا: إنهم لا يشاهدون الأخبار، فالله مطلع عليهم، ويعلم ما يحصل من استراق النظر -ما يسارقون به النظر إلى الفاتنات- وأمور لا يليق ولا يحسن ولا يجمل ولا يحل للإنسان أن ينظر إليها.

فالله يراه ويطلع عليه، ويستطيع الإنسان الآن عن طريق جهاز الجوال، وهو في أي مكان أن يفتح، ثم يرِدُ عليه أنواع الإثم والشر التي من شأنها أن تفسد جميع المعاني، وأن تهدم كل ما بني من معاني التربية عبر السنين الطوال، بمشهد واحد، بصورة واحدة يمكن أن يُهدم ذلك جميعاً، فيُستزل هذا الإنسان فتزل قدم بعد ثبوتها، ويقع ما يقع من الانحراف.

وكم علت الأصوات من داخل البيوت من شكاية، لما وصل إليه الأمر عند حدثاء الأسنان، أطفال في الرابعة عشرة، والخامسة عشرة، ودون ذلك وفوقه صاروا يشاهدون ألواناً من العري، ومن الفجور والمجون.

يقول آباؤهم وأمهاتهم: نحن لا نعرف ذلك بما يتعلق بالمعاشرة وما إلى هذا من المعاني، نحن لا نعرفه، وأصبح في جوالات هؤلاء الأولاد، بمجرد ما يفتح هذا الجهاز في سوق، أو في مكان عام، أو في مطعم، يمكن أن يصل إليه أفلام بكاملها، فالقضية خطيرة جداً.

فليست هذه القضية لا يستطيع الوصول إليها إلا الواحد بعد الواحد كما هو قديماً، يهرّب صورة أو مجلة بطريقة قد تكتشف أو قد لا تكتشف، ثم تبقى عنده هذه الصورة أو المجلة، وقد تهتكت لكثرة ما تمسها الأيدي.

أما اليوم فلا، أصبح ذلك كلأً مباحاً يشاهده من هب ودب ودرج، بل إن بعض العمالة الذين لا يتقون الله يدخلون الأطفال في مقاهي الإنترنت على خمسة ريالات وثلاثة ريالات، ويشاهد فيها ألوان الفجور.

 بل بمثل الخنصر يمكن أن يخزن أشياء هائلة رهيبة، يأخذها من زميله أو نحو ذلك، فيحصل من الأمور ما لا يحمد عقباه، وينهدم ما بنيناه في التربية، فيخرج أبناؤنا بحالة يبحثون فيها عن تفريغ الشهوات بكل وسيلة ممكنة، ويقع ما يقع في البيوت من انتهاك للأعراض بين المحارم، بل لربما وقع الأب على ابنته، بسبب أنه يرى أموراً تهيجه، فيكون على بصره غشاوة، يريد أن يفرغ هذه الغريزة بأي طريقة، مع ما يحصل في كثير من البيوت من التبذل في اللباس بالنسبة للنساء والفتيات، مما يحرك النفوس المريضة.

ولذلك أقول: نحن بحاجة إلى أن نعيد طريقة التربية، فاليوم ليست الأمور كما كانت في السابق، إذا كان هذا الولد لا يوجد عنده هذا المعنى من مراقبة الله ، فمن ذا الذي يعصمه؟

هذه أشياء تطرح بين يديه، هذه أمور يمكن أن يجدها في مجالات كثيرة، فلابد أن يوجد عنده رادع في داخله يحجزه ويمنعه، فإذا استعرضتْ له هذه الأمور أو عرضت عليه انصرف عنها، وترفع وأبى أن يقبل شيئاً من ذلك، وإلا فلربما كانت نظرة واحدة كفيلة بأن تأتي على دنيا هذا الإنسان وعلى آخرته، فيتحول إلى إنسان آخر بهيميٍّ، يبحث عن الشهوات، تتأجج عروقه ودماؤه بما تحرَّكَ من غرائزه.

فالوضع خطير جداً، ونحتاج إلى ملاحظة هذا المعنى في نفوسنا نحن، وفي أبنائنا، مع سؤال الله الوقاية من الفتن والشرور والآثام، الظاهر منها والباطن، وأن نجنب أنفسنا أسباب هذه الفتن، ولا يأمن الإنسان على نفسه، ولا يقول الإنسان عن نفسه: أنا لا أتأثر، أنا لا أشاهد هذه الأشياء، أنا لا أريدها، نقول: الشيطان حريص، ويجري في ابن آدم مجرى الدم، وكم من إنسان زين له الشيطان عمله، ثم بعد ذلك إذا نظر وقع ما لا يحمد عقباه، ثم يبدأ يبحث عن قنوات أخرى، ويبحث عن أشياء مشفرة ليفك تشفيرها، ثم لا يرد كالذي يشرب ماء البحر، يصابحون الصبح على الإنترنت رجال ونساء في أوضاع مزرية، ويشاهدون أموراً تسرق أوقاتهم، فتمضي الليلة بكاملها كأنها عشر دقائق، وهذا أمر موجود ومستفيض، والله يطلع عليهم ويراهم، ولا يستحون منه، والعجيب أن من الناس من يستحي من المخلوقين، ويجعل ربه أهون الناظرين إليه.

تأتي رسائل أحياناً في الجوال أسئلة عن بعض الأمور التي يُستحيا منها، فيكون السؤال ملتبساً أحياناً أو يختلط، فيجاب على سؤال آخر بدلاً منه بالخطأ، ثم يردّ ويقول: ليس هذا سؤالي، فيقال له: اتصل، فيقول: لا يمكن أن أتصل، لأني أستحي، مع أنه لا يُعرف من هو، فمثل هذا عجباً له يستحي من مخلوق لا يعرفه، مخلوق ضعيف، لا يدري من هو، ولا يستحي من الله وهو يفعل هذا الفعل الذي جلس يسأل عنه!.

هذا أمر لا يليق أن يصدر من إنسان مسلم، يدرك أن الله يطلع عليه ويراه ويشاهده، فنحن بحاجة إلى تربية المهابة والرقابة في نفوسنا، فإذا وجد هذا المعنى بإذن الله فإنه يكون سياجاً يقي الإنسان من هذه الأمور، ويتخلص من كثير من خائنة الأعين التي تودي به إلى المهالك.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

مواد ذات صلة