الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
كنت خلف النبي ﷺ، يعني: أنه كان رديفاً لرسول الله ﷺ على الدابة، وكان من هدي النبي ﷺ الذي يدل على تواضعه أنه لربما أردف بعض أصحابه معه على الدابة، ولربما أردف غلاماً صغيراً، كما في هذا الحديث، حينما أردف عبد الله بن عباس ، وقد قيل: إن عمره حينما أردفه النبي ﷺ لربما يقارب العاشرة، وهذا من تواضعه ﷺ.
والذين أردفهم ﷺ كثيرون، منهم: أبو بكر، وعثمان، وعلي، وأسامة بن زيد، وكذلك معاذ، إلى غير هؤلاء، حتى إن بعض أهل العلم بلغ بهم إلى أربعين نفساً، ونظمهم بعض العلماء في أبيات جمع فيها أسماءهم من أجل أن تحفظ، فالمقصود أنه يجوز الإرداف على الدابة إذا كان ذلك لا يشق عليها، وهي تحتمله، وهذا يدل بحد ذاته على تواضع النبي ﷺ.
يقول: كنت خلف النبي ﷺ، وذلك أن صاحب الدابة هو الأحق بصدرها، إذا جاء إنسان يركب في السيارة ومعه آخر فالأحق بالمقدمة هو صاحب السيارة.
يقول: كنت خلف النبيﷺ يوماً، فقال: يا غلام، والغلام هو الصغير الذي يكون من بعد الفطام إلى سن البلوغ، فإذا بلغ فإنه لا يقال له: غلام.
قال: إني أعلمك كلمات هذا الجمع -جمع كلمة- بهذه الصيغة يدل على التقليل، كلمات قليلة، وهذا أدعى لتشوف النفس لملاحظتها ومعرفتها وحفظها، فهي شيء قليل لا يثقل على سامعه، ولا يحتاج إلى كلفة من أجل حفظه.
وهذه الكلمات المذكورة في هذا الحديث تضمنت أصولاً عظاماً، وأساسات لابد للمسلم من أن يعرفها، وأن يتمثلها في حياته وواقعه، وأن يجعلها أمام ناظره في أموره كلها، فإذا حصل للعبد ذلك استراح من كثير من الهموم والمتاعب النفسية، واستراح من كثير من الذل للمخلوقين، وتعليق القلب ورجاء ما عندهم، واستراح من كثير من الأحزان التي يتقطع قلب الإنسان أحياناً من جرائها على أمور قد تقضت، ولا حيلة في رجوعها، فصار الإنسان متحلياً بعد ذلك بالتوكل على الله ، ورجاء ما عنده، والخوف منه وحده، والتوكل عليه دون التوكل على أحد سواه، فإذا حصل هذا للعبد، فإن قلبه ينعم، وإنما هذا القلب قد خلق وركب تركيباً خاصاً أن يوجه إلى ربه ومالكه ومعبوده، فمتى ما توجه إلى غيره عُذب على قدر تعلقه بهذا المخلوق، سواء كان هذا التعلق من باب المحبة، أو كان هذا التعلق من باب الرجاء، أو كان هذا التعلق من باب التوكل على هذا المخلوق أو غير ذلك من أنواع التعلقات.
إذا كان قد ابتلي بعشق عُذب قلبه، وإذا كان قد تعلق بمال عذب، إذا كان متعلقاً بمظاهر الحياة الدنيا وبهجتها فإن قلبه يعذب بها، ما لم يحصله يُعذب، كيف فاته، وكيف السبيل إلى تحصيله.
وإذا رأى ما عند الناس من ألوان الإنعام والإفضال الذي جاد الله به عليهم تقطع قلبه حسرات، وإذا كان ذلك بيده فإنه يعذب به أيضاً إن كان قلبه قد تعلق به، فهو لابد أن يفوته أشياء، ولابد له من لون من الخسارة، ولابد له أيضاً من ضياع بعض صفقته، ولربما كان هذا الإنسان يتخوف من ضياع ذلك فتجده مشغول البال مهموماً، كيف يصرف هذا المال، وكيف يصنع به، إن نزل الذهب تحير أين يضع هذا المال، وإن نزل الدولار تحير كيف يصنع بهذا المال، فقلبه هكذا دائماً.
فالأحسن أن تكون الدنيا في يد الإنسان ولا تدخل في قلبه فيتعلق بها؛ لأن تعلقه بها يكون على حساب تعلقه بالله، فيكون ذلك سبباً لإيلام هذا القلب، فهذا الحديث تضمن هذه المعاني العظام، ولهذا قال ابن الجوزي-رحمه الله- في كتابه صيد الخاطر: كلما طالعت في هذا الحديث دهشت وطاش عقلي، ثم يتعجب من حال الناس كيف يعرضون عن هذا الحديث، ولا يتدبرونه ويتفهمون ما جاء فيه من المعاني العظام.
فالنبي ﷺ قال لابن عباس من هذه الكلمات: احفظ الله يحفظك حفظُ الله يكون بحفظ حدوده وأوامره، واجتناب نواهيه.
الله يقول: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، المحافظة على شرائع الإسلام، على ما أمرنا الله به، فنكون ممتثلين، هذا من حفظ الله، حافظ على هذه الصلاة بما فيها صلاة الفجر.
ومن حفظ الله أن تحفظ جوارحك عن مواقعة ما لا يليق، فتشغل هذه الجوارح بما ينفع بدلاً من أن تشغلك، فهذا الإنسان الذي ينظر بعينه إلى صور النساء في القنوات، وفي الأسواق وفي غيرها لم يحفظ الله.
هذا الإنسان الذي يأخذ المال الحرام، ويساهم في كل مساهمة تعرض له لم يحفظ الله ، هذا الإنسان الذي يتكلم بلسانه كيفما اتفق، كل ما يخطر على باله قاله، يغتاب الناس ويقع في أعراضهم، وينقل النميمة، ويكذب، هذا لم يحفظ الله ، إلى غير ذلك من ألوان التفريط.
فإذا كان العبد بهذه المثابة لم يحفظ الله؛ لأن حفظه -تبارك وتعالى- يكون بحفظ أوامره، وما تعبدك به، فإذا فعلت ذلك فالجزاء من جنس العمل، فسيحفظك الله من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك، فلا يطولك شيء من أذى المخلوقين من الجن والشياطين والإنس، وهذا شيء مشاهد معروف مجرب.
وقد حدثني بعض من تاب ممن يتعامل مع السحرة، يقول: حاولنا مع سحرة في بعض بلاد المغرب أن نسحر فلاناً وفلاناً، وفي كل مرة كان ذلك يفشل، ونكرر ذلك، وندفع المال للساحر، ومع ذلك كان كل ذلك يبطل حتى يئس الساحر، وقال: صاحبكم قوي محصن، لا سبيل لكم إليه.
هؤلاء طلاب يريدون أن يسحروا أستاذاً لهم في الجامعة من أجل أن يتخرجوا في بعض المواد التي يدرّسها لهم، انظروا إلى هذا الحد!.
احفظ الله يحفظك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا وقع الإنسان في كارثة، لو غرّز في صحراء وما عنده أحد، ولا عنده ماء، ولا عنده ما يسعفه، ولا يوجد هناك اتصال ولا غير ذلك، ماذا يصنع الإنسان؟
الله يحفظه وسييسر له من أسباب النجاة ما يخرج به من الملمّات، حينما يواجه ألوان الأخطار وهو في طريقة في سيارته لربما عدا عليه من يعدو عليه، فيصطدم به، فينجو بإذن الله ؛ لأن الله يحوطه ويحرسه، ويحفظه، فلا يصل إليه المكروه.
والله يحفظ عباده المؤمنين، ويحفظهم من كيد الكائدين، ومكر الماكرين؛ إذ إن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، والله يقول: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ [الرعد:11].
والله تعالى يقول: هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن:60]، ويقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، فالله يجازي عبده المؤمن إذا حفظ حدوده، إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، فكيفما كنت يكون الله معك، فمن أساء فإنه ينتظر الإساءة والعقاب، -إلا من رحم الله ، ولطف به، ومن أحسن فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟.
احفظ الله تجده تُجاهك، يفسره الرواية الأخرى: تجده أمامك، بمعنى: أن الله معك معية خاصة بالنصرة والتأييد والحفظ والكلاءة، كما قال الله لموسى وهارون حينما أمرهما أن يذهبا إلى أشرس مخلوق يدعي الإلهية فرعون، وأبديا له -أي لله الخوف من هذا الجبار- فقال: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طـه:46]، وقال: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طـه:39]، يعني: موسى ﷺ، كل ذلك بكلاءته وحفظه ورعايته، فما ظنكم بإنسان صنع على عين الله، وقال الله له: اذهب فأنا معك أسمع وأرى، هل يصل إليه مكروه؟ لا يمكن أن يصل إليه مكروه.
ولذلك لما كان الله مع إبراهيم ﷺ أُلقي في النار فلم يحترق، ولما كان مع محمد ﷺ واجتمعوا حول الغار حتى قال أبو بكر : لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لرآنا، فقال له النبي ﷺ: ما بالك باثنين الله ثالثهما، كما قال الله : إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا [التوبة:40] فنحن بحاجة إلى عون الله وألطافه، والله ليس بحاجة إلينا، فهو الغني وأنتم الفقراء، فالحري بالعبد أن يتذكر هذا المعنى جيداً، أنت تمرض وأنا أمرض، وكلنا يمرض، نحن فقراء مساكين تنزل بنا ألوان المصاعب والملمات، فنرفع أيدينا إلى الله ، فإن كنا مفرطين في حفظ حدوده فماذا ننتظر من رعايته وكلاءته وحفظه؟، والحديث له بقايا.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ (4/ 667)، رقم: (2516)، وأحمد (4/ 409)، رقم: (2669).