الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
أبو يعلى شداد بن أوس هو من خيار أصحاب النبي ﷺ، من بني النجار من الأنصار، وكان من عقلاء الرجال، ومن أهل الحلم والمروءة والنبل، عرف بذلك ، واشتهر بجزالة الرأي وحصافته، وكان قد انتقل إلى بلاد الشام، ومات بفلسطين في سنة ثمان وخمسين للهجرة، وله من العمر خمس وسبعون سنة.
وكان غير مكثر من رواية الحديث، روى نحواً من خمسين حديثاً عن رسول الله ﷺ، أخرج البخاري واحداً منها، وأخرج مسلم مثله.
هذا الحديث وإن كان في إسناده مقال إلا أن معناه تشهد له النصوص الأخرى من الكتاب والسنة.
يقول: الكيّس من دان نفسه، والمراد بالكيس، هو: الإنسان العاقل الحازم، الذي يحسن تدبير الأمور، وينظر في العواقب، ويحترز الاحتراز المطلوب، وبخلافه ذلك الإنسان قصير النظر الذي يتبع هواه، ولا يجاوز نظره أنفه، كلما عرضت له شهوة تبعها، وكلما دعاه هواه إلى شيء ارتكبه، فهذا خلاف الكيّس؛ لأن الإنسان العاقل يعلم أن هذه الدنيا عرض زائل، وأن الآخرة نعيم باق لا يزول ولا يحول، فليس من العقل أن يقدم الإنسان العرض الزائل على النعيم الباقي، ليس هذا من العقل، وليس هذا من المروءة.
وقد مثل بعض أهل العلم ذلك بمثال لربما ذكرته قديماً في بعض التعليقات على بعض الأحاديث، أو في بعض المناسبات، مثلوا ذلك بإنسان قد انطلق هارباً يطارده سبع فتعلق بغصن شجرة، فبينما هو كذلك إذ نظر أسفل منه فوجد حفرة، وهذه الحفرة فيها تنين قد فغر فاه ينتظر متى يسقط حتى يلتقمه، ثم نظر في أصل هذا الغصن، فوجد فأرين أسود وأبيض، يقرضانه قرضاً مستمراً دائماً لا يفتأان من قرضه، ثم نظر فيما حوله، فوجد خلية فيها عسل، فذاقه فأعجبته حلاوته، فصار يلعق من هذا العسل، فنسي الفأرين ونسي الحفرة، فالحفرة هي القبر، والفأران الأسود والأبيض هما الليل والنهار، يقرضان عمر الإنسان دائماً، كل لحظة هي نقص، وسينكسر هذا الغصن الذي هو العمر، لابد أن ينكسر.
فالعاقل ما يغتر بحلاوة هذا العسل الذي هو لذة الدنيا، وإنما يفكر كيف الخلاص، وكيف المخرج، وهذا الإنسان الذي يتصرف هذا التصرف، ويجلس يلعق من هذا العسل ليس كيِّساً، وليس عاقلاً، وتصرفه ينبئ عن سفه.
هذا مثال يقرب لنا الحال التي نحن عليها في هذه الحياة الدنيا، من الناس من أعجبته واستهوته لذاتها وشهواتها، فجعلها همته وغايته، فصار من أجلها يسعى، ومن أجلها يعمل، ومن أجلها يكدح، من أجلها يؤمل ويرجو، ويقوم ويقعد، فهذا لا شك أنه نقص وقصور في العقل.
العاقل حتى لو عرض له شيء من الشهوات فإنه يعرف أنه سيدفع الثمن غالياً، وأن هذه الشهوة لها ثمن يدفعه في يوم القيامة، وقد يدفعه في الدنيا، فاللذة تعقبها حسرة، فلذات هذه الحياة الدنيا المحرمة منغصة تتلوها الحسرات، فهي مكدرة، ولذلك فإن الإنسان يؤثر ما عند الله ؛ لأنه صبر قليل ثم يفضي به بعد ذلك إلى سعة رحمة الله وبحبوحة الجنة.
وقد جاء في الحديث: حُفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات[1]، فهذه طبيعة هذه المعادلة، وهذه أوصاف هذا الطريق، فإن لم يكن الإنسان متبصراً في أموره فإنه يتتبع هذه الشهوات التي حفت بها النار، ثم بعد ذلك يسقط فيها، وأما الذي يعلم أن هذا التعب تعقبه لذة دائمة مستمرة فإنه يؤثر هذا التعب القليل لأنه ستعقبه لذة عظيمة.
ولهذا ذكر ابن حزم -رحمه الله- مثالاً لهذا بطريقين: أحدهما ضيق يفضي إلى قصور وحدائق غنّاء واسعة، والآخر واسع فيه أزهار، وفيه أشياء جميلة جداً ويفضي إلى مكان ضيق، يكون مثوى هذا الإنسان، فالعاقل يؤثر سلوك الطريق الوعر الضيق الذي يفضي به فيما بعد إلى مكان رحب واسع فيه ما لذ وطاب، وأما الإنسان الذي يكون نظره قاصراً فيقول: أسلك هذا الطريق القصير الواسع، ثم بعد ذلك ليكن ما يكون من المآل والمصير الذي يفضي إليه، وهذا لا ينبغي للإنسان أن يكون منهجاً له في التفكير والعمل.
قوله: الكيس من دان نفسه، يعني: حاسبها وزمها وضبطها، ولم يترك هذه النفس منطلقة، ترتع في بحر الشهوات والأهواء، فإن ذلك عاقبته ردية.
يقول: وعمل لما بعد الموت، لأنه هو المستقبل الحقيقي، وهي الدار التي يفضي إليها، إما إلى جنة، أو إلى نار، ولا ينفع الندم، ولا ينفع الاستعتاب، ولا تنفع التوبة.
وحياة الواحد منا ستون، سبعون، وبعضنا أقل، وبعضنا أكثر بقليل، إذا وصل الواحد إلى مائة وعشرين سنة صار مثل الطفل، ويخلط، حتى لا يستطيع أن يقوم بأخص حاجاته، وقد استعاذ النبيﷺ من الهرم[2].
يسر المرءَ طولُ عيشٍ | وطولُ عيشٍ قد يضره |
تفنى لذاذتُه ويبقى | بعد حلوِ العيشِ مُرُّه |
وتسوءه الأيامُ حتى | ما يرى شيئاً يسرُّه |
إذا أكل تنغص، وإذا نام تنغص، وإذا استيقظ تنغص، ونومه مكدر، ينام ويغفو كما يغفو الطائر ثم يستيقظ، يطول عليه الليل الذي يستلذ الشبابُ النوم فيه، تتطاول عليه ساعاته، وينتظر متى يصبح، يؤذيه الحر، ويؤذيه البرد، ولو كان يسيراً، ويبقى في حال من الضعف والعجز، وتنتابه الأمراض والأوجاع من كل ناحية، ويبقى مشغول القلب؛ لأنه يشعر أنه مفارق عما قريب، فتؤثر فيه الكلمة، وتؤثر فيه أدنى الأشياء والتصرفات، ولم يكن كذلك أيام قوته وشبابه، بل لربما يشعر أن من حوله لربما استثقلوه؛ لفرط ما عنده من الحساسية التي سببها الضعف.
فالإنسان يتمنى طول عيش، وطول العيش هذه نهايته، مع أن النبي ﷺ قال: خيركم من طال عمره، وحسن عمله[3]، لكن من الذي يوفق؟ فالإنسان يكبر، ويكبر معه حب الدنيا، وطول الأمل يبقى معه، والإنسان العاقل يعمل لما بعد الموت.
والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، أتبع نفسه هواها أي ما تملي عليه نفسه يفعله، والمقصود بالهوى هو مطلوبات النفس من حظوظها العاجلة من المآكل والمشارب والملابس، وألوان الشهوات من المراكب والدور وغيرها، كل هذا الحطام يقال له هوى النفس، ولا يطلق ذلك غالباً إلا على سبيل الذم، كما قال ابن عباس: ما ذكر الله الهوى إلا ذمه.
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ[ص:26]، فجعل القضية هوى وضلالاً، فالإنسان العاجز بمعنى غير الحازم، وهو الذي يقول: هات إذا أتته مساهمة فيها أرباح محرمة، ويعتقد أن الإنسان الذي يقول: لا أريد هذه المساهمة، هذه جمر أكوى به في نار جهنم وفي قبري، أنه مجنون، وأنه معتوه ومغفل، كيف يترك هذه الأموال وقد أتته باردة، والواقع أنه هو الذي لا يفهم، لأنه سيدفع ثمن هذا، ولكن الإنسان تغلبه نفسه، فيضعف فيؤدي ذلك به إلى أمور لا تحمد عواقبها، والناس على قدر بصرهم في هذه الأمور، وعلى قدر ما يرزقون من المجاهدات والصبر يوفقون للعمل ويتفاوتون فيه غاية التفاوت، فمن مكثر ومن مقل ومن مسرف على نفسه، والله يجازي كُلًّا بعمله.
أسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، وأن يقينا شر أنفسنا، وشر الشيطان وشركه، وصلى الله على نبينا محمد.
- أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (4/ 2174)، رقم: (2822).
- عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله ﷺ يتعوذ يقول: اللهم إني أعوذ بك من الكسل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من البخل، أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب التعوذ من أرذل العمر (5/ 2343)، رقم: (6010).
- أخرجه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في طول العمر للمؤمن (4/ 565)، رقم: (2329)، وأحمد (34/ 124)، رقم: (20480).