الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد:
ففي باب التوبة أورد المصنف -رحمه الله- حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما: أن رسول الله ﷺ قال: لو أن لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب[1].
هذه كانت من الآيات التي نسخ لفظها، ولكن حكمها لم ينسخ، والمقصود بالحكم ليس معناه الخاص الذي هو الأمر والنهي والحلال والحرام، وإنما المقصود ما دلت عليه من المعنى، أي: أن مضمون الآية لم ينسخ فهو ثابت ومحكم لو أن لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب أي: أنه لا يزال الإنسان يتطلع إلى المزيد من حطام الدنيا، ومن المال الذي لا يشبع منه مهما أعطي، لو كان له هذا الوادي ليس من الغنم أو من الإبل بل من الذهب أحب أن يكون له واديان، ولو كان له واديان أحب أن يكون له ثلاثة، ولو كانت ثلاثة لأحب أن تكون أربعة، وهكذا، فهو لا يتوقف، وأخبر النبي ﷺ أن ابن آدم يشيب ولكنه يشب معه هذا المعنى، حب الدنيا وكذلك يؤمل البقاء، طول الأمل مع حب الدنيا، فهذا أمر يشترك فيه الصغير والكبير، ولهذا في قوله -تبارك وتعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ [البقرة:180]، يعني: إن ترك مالاً.
فهذا المال جبلت النفوس على محبته وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]. فهذا الحب والتطلع إلى الزيادة لا يتوقف، والإنسان الذي لم تبلغ أمواله مائة ألف يتطلع إلى أن يكتمل العدد، وأن تكون مائة، والذي عنده مائة يتطلع لأن تكون مائتين، والذي عنده تسعمائة يتطلع ليكتمل المليون، وصاحب المليون يتطلع إلى المليونين، وصاحب المائة من الملايين يتطلع إلى المليار، وصاحب المليار يتطلع إلى المليارين، بلا توقف، هل رأيتم أحداً من أصحاب الأموال الطائلة أو من غيرهم توقف وقال: الحمد لله أنا اكتفيت، هذه التركة عشرة مليارات تكفيني، وتكفي أولادي، وتكفي أحفادي إلى الجيل العاشر؟، أبداً لم يتوقف، بل هو من أكثر الناس انشغالاً؛ لأنه صاحب التجارة، ولا يمكن أن يصرفه عن ذلك شغل، وهكذا حياته كلها في الصيف والشتاء، والليل والنهار، ولربما بلغ من العمر الثمانين والتسعين والمائة أو أكثر وهو على هذه الحال، بل ويفتخر أنه ما خرج للنزهة ولا رأى البحر القريب منه منذ خمسين سنة، والأدهى من ذلك أنه يقول: ما جلس مع أولاده على غداء أو عشاء منذ أربعين سنة، احدودب ظهره وهو مشغول بتجارته، وعمله، وقلبه مشغول لكثرة أمواله، ولهذا جاء عن حذيفة أنه استعاذ من تفرق القلب، وسئل عن هذا فقال: أن يكون له في كل وادٍ مال، فيكون عنده عدة مصانع، ومستشفيات، وغيرها، ويتطلع إلى الزيادة دائماً، ولا يقول: أنا اكتفيت والحمد لله، بل يزداد الحرص عنده أكثر، إلا من رحم الله ، تتضخم ثروته ولما ينظر إلى حجم الزكاة يستكثر ذلك فيبخل به -إلا من رحم الله، يقول: كيف أخرج هذه الملايين؟ لأن التركة قد تصل أحياناً إلى مائة مليار، أو أكثر، فتكون زكاتها بعشرات الملايين، ولربما تصل إلى مائة مليون في السنة، يقول: كيف أخرجها؟ ويشعر أنها مغرم فيبخل بها.
المقصود: أن هذه طبيعة بني آدم، ولو فكر الإنسان لمن يجمع هذا المال؟ وماذا يفعل به؟ ماذا يأكل منه؟ وماذا يلبس؟ قد يكون فيه أمراض دائمة كالسكر والضغط وغيرها، ولا يأكل إلا أشياء يسيرة وقليلة، أكله ليس فيه ملح، وشرابه ليس فيه سكر، ممنوع من أشياء كثيرة، هذا حال غالب الناس الأثرياء، والناس حوله يرتعون بالنعم، وهو لا يستطيع إلا أن يأكل أشياء قليلة، يا ترى ماذا نفعته هذه الأموال الطائلة؟ وكيف لو حصل مع هذا شيء من الشح والبخل؟ سيكون أسوأ حالاً من غيره، فيضيّق على أولاده، وربما مسكنه لا يلائم هذه الثروة الطائلة، وسفره كذلك وعلاجه في العيادات والمستشفيات التي يعالج فيها سائر الناس، هذه كلها أشياء مشاهدة، فماذا نفعه هذا المال؟ وماذا أغنى عنه هذا المال؟ ماذا استفاد منه؟ لكنه شيء في النفس، وطبيعة جبل عليها الإنسان، حب المال، ولعلاج ذلك يحتاج الإنسان إلى أن يعقل ويفكر، وينظر لأي شيء يجمع المال؟ وكيف سيحاسب عليه؟ ماذا نفعه هذا المال في الدنيا؟ وهل قدم منه شيئاً لآخرته؟.
قال: لو كان لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديانتصور هذا المعنى: وادٍ من ذهب كم يبلغ؟ كم من المليارات يساوي هذا الوادي من الذهب؟ شيء لا يقادَر قدره، ومع ذلك الإنسان يريد الزيادة، ولذلك فالذين يبدءون التجارة ربما يشتكي منهم أولادهم وأزواجهم عندما يرون التغير والانشغال الدائم عنهم، فيقول لهم: هذا لمدة محددة، وهذا في بداية التأسيس فقط، ثم تمضي السنة والسنتان والثلاث والأربع، وكلما زاد حجم هذه المؤسسة وهذه التجارة، وحقق نجاحات أكثر كلما ازداد حرصه أكثر، وهو يعطيها أوقات أهله وأولاده ليلاً ونهاراً.
قال: ولن يملأ فاه إلا التراب أي: في القبر، أي إلى أن يموت وهو يجمع ويتوب الله على من تاب فمن استدرك وحصل له إفاقة فإن الله -تبارك وتعالى- يتوب عليه.
ثم ذكر:
ما وجه هذا؟ لأنه جاء الوعيد في أن القاتل يخلد في النار، وبيّنا معنى الخلود في بعض المناسبات، وأن الله -تبارك وتعالى- لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِك [النساء: 48]. ومن تاب تاب الله عليه، لكن يبقى حق المخلوق المقتول، وهذان يدخلان الجنة!، قال: يقاتل هذا في سبيل الله فيُقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيستشهد، متفق عليه، أي أنّ هذا كان كافراً وهذا كان مؤمناً، فقتله حينما كان كافراً أي قَتلَ المسلمَ فكان شهيداً ودخل الجنة، ثم هدى الله الكافر للإسلام فتاب الله عليه فجاهد فقتل فهو شهيد، فيدخلان الجنة، كلاهما شهيد، وهذا قاتل وهذا مقتول، مع أن النبي ﷺ قال: القاتل والمقتول في النار[2]قالوا: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه، وكذلك لو أنه لم يقتل في ميدان المعركة، أي: أنه لم يكن شهيداً، لكن هداه الله للإسلام، والإسلام يجبّ ما قبله، فلما هداه الله إلى الإسلام وأسلم ثم مات على الإسلام فإنه لا يؤاخذ بما فعل في الجاهلية، وهذا من فضل الله -تبارك وتعالى- على عباده.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الكافر يقتل المسلم، ثم يسلم، فيسدِّد بعدُ ويُقتل (4/ 24) برقم (2826)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة (3/ 1504) برقم (1890) واللفظ للبخاري.
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما (1/ 15) برقم (31)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما (4/ 2213) برقم (2888) واللفظ للبخاري.