الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب الإخلاص وإحضار النية أورد المصنف -رحمه الله-:
إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، بمعنى: أن المعيار عند الله -تبارك وتعالى- والقبول، وما يكون به الزلفى إليه ليس بالصور والأشكال والجمال والكمالات الجسمانية، وإنما يكون ذلك بما يقر في القلوب من الإيمان والتقوى والأعمال الصالحة التي تصدر عن هذا الإيمان، وتكون ظاهرة على الجوارح، وأقوال اللسان.
تأمل قول الله -تبارك وتعالى- في حق المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ [المنافقون:4]، فهؤلاء من أهل النفاق وصفهم الله بهذه الصفات التي تدل على كمالات جسمانية، كمال الصورة الظاهرة، وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ لما فيها من القوام الذي لربما قد ظهر عليه آثار النعمة؛ لأن هؤلاء المنافقين لم يكن لهم همٌّ إلا هذه الحظوظ الدنيوية، ولذلك فهم يبيعون مبادئهم، ويكونون مع من غلب، ولهذا قال الله : وَلَوْ دُخِلَتْ أي: المدينة عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَامن نواحيها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب:14].
وهم مستعدون أن يتنازلوا عن مبادئهم، وعن إيمانهم، وأن يتلونوا تلون الحرباء، فيكونون مع من غلب، لماذا؟ لأن الهم والأساس عندهم هو هذا المتاع الدنيوي، الجسد، أن يحقن دمه، أن يحرز ماله، هذا هو همه وغايته التي من أجلها يقوم ويقعد، فلا يُستغرب أن تكون هذه الأجسام منعمة مترفة قد اعتنوا بها غاية العناية.
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كلامهم مرتب، كلام مصفف، كلام ظاهره جميل، ولكنه ينطوي عن أفئدة سيئة وقلوب جافة من الإيمان، ولهذا قال: "يحسبون كل صيحة عليهم"، فهم يشعرون بشعور أن الجميع يكذبهم، وأنهم يعيشون في حال من القلق؛ لأن الكاذب دائمًا قلِق، وهم كلما سمعوا مناديًا: الصلاة جامعة، سمعوا حي على الجهاد، ظنوا أنهم الفئة المستهدفة يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون:4].
كما قال الشاعر يصف قومًا منهزمين، وحال هؤلاء في هزيمتهم:
وَضاقَت الأرْضُ حتى كانَ هارِبُهمْ | إذا رَأى غَيرَ شيءٍ ظَنّهُ رَجُلا |
يعني يتراءى له أن الجيش من العدو يطارده في كل مكان، فهؤلاء هكذا هم، ومثّلهم الله قال: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ.
هذه الخشب يمثل بها البليد أولاً، يقال للبليد: لوح، فهؤلاء خُشب، وخشب لا يقوم عليها سقف مثلاً، أو ينتفع بها في بناء، أو جدار، أو نحو ذلك، مسندة لا ينتفع بها، تحجز مكانًا، وأيضًا هي لا تقوم بنفسها، وإنما طفيلية مسندة على شيء، على جدار، ونحو ذلك، هؤلاء أهل النفاق ألواح.
فإذا خرج الواحد منهم من مجلس النبي ﷺ والوحي يتنزل، قال: مَاذَا قَالَ آنِفًا [محمد:16]، يسأل بكل بلاهة، ما فهم شيئًا، وإذا أنزلت الآيات قالوا: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا [التوبة:124] هو لوح، ثم أيضًا هو طفيلي على أهل الإيمان، يأخذ من الغنيمة، يأخذ من الفيء، حقن دمه، خشبة مسندة، فهذا المنافق الذي يسمع الذكر، يسمع الوحي، يسمع القرآن، يسمع الحديث، يسمع الفقه، يسمع العلم في مجلس من؟ في مجالس النبي ﷺ، ومع ذلك خشبة، لا ينتفع بقليل ولا كثير -نسأل الله العافية، هذه حال المنافق كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ [لمنافقون:4].
فهؤلاء مع كمال الأجساد، هذه الأجساد المترفة إلا أن ذلك لم يغنِ عنهم من الله شيئًا، إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم فالصورة ليس للإنسان فيها يد، الله خلق هذا أسود، وهذا أبيض، وهذا أحمر، وهذا أصفر، الله خلق هذا طويلًا، وهذا قصيرًا، هذا دميمًا، وهذا جميلًا، هذا متوسط الجمال، هذا في عينه كذا، هذا في وجهه كذا، هذا في أسنانه كذا.
الإنسان لا يتخير الصورة التي خُلق عليها، هذا الإنسان الذي هيئته لربما ينفر منها كثير من الناس هكذا خلقته، فالله هو الذي خلقه هكذا، هل هذا الاختيار له؟.
فهذه الأمور لا يترتب عليها الحمد ولا الذم، ولا الرفعة، ولا السفول عند الله وتقدست أسماؤه، ما الذي يترتب عليه هذا؟
هي هذه القضايا التي تحت اختيار الإنسان، أعماله، أقواله، ما يقر في قلبه، هذا هو الذي يتفاوت الناس فيه، حتى في معيار الخلق، المعيار الصحيح، قد يكون الإنسان هيئته ليست بذلك الجمال، بل قد يكون دميمًا، ولكن أخلاقه أخلاق أنبياء، يكون في غاية الكرم، في غاية الإحسان للناس، يكون في حال من الحياء، واللباقة، واللطف، والرفق وما إلى ذلك، فهذا يرتفع به، كما يقال: الجمال جمال الروح.
قد يكون الإنسان في صورة حسنة، ولكن لا تستطيع الاقتراب منه، قد تكون المرأة من أجمل الناس صورة، ولكن من اقترب منها تأذى مما يصدر عنها من أقوال وأفعال مشينة، فينفر الناس منها، وإن كانت الصورة حسنة، وكم من امرأة صورتها ليست بتلك، ولكن فيها من الدين والخشية، ومحبة الخير للناس، وسلامة الصدر، فتكون محبوبة لكل من عرفها وخالطها.
فهذه هي التي عليها المعول أيها الإخوان، ليست الصورة والأجسام، ولا يعاب الإنسان، يقال: والله هذا طويل، وهذا قصير، وهذا فيه، وهذا ما فيه، هذا أصلع، وهذا كوسج، وهذا أعور، وهذا أبرص، هذه لا تقدم ولا تؤخر عند الله -تبارك وتعالى، لكن ما الذي يحتاج إلى مجاهدات وعمل ومزاولات وهذا الذي يحصل بها، فالنفس تشده إلى أسفل تقعده، ولكن بالنسبة لحظوظها هي تدعوه بقوة لتحصيل هذه الحظوظ، وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء: 128].
ولهذا دائمًا لا تجد في القرآن الحث الكثير المتكرر على الأكل، على النكاح، على الشرب، على الأشياء التي من هذا القبيل، لذات الجسد، ما فيه، يعني: أين ورد الأمر بالأكل؟.
في مقام الامتنان يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً [البقرة:168]، في مقام الامتنان.
أما هكذا يأمرهم: كلوا، مثلما يقول: صلوا، اصبروا وصابروا، ورابطوا، اتقوا الله، فهذا لا يوجد في القرآن كما يقول الشاطبي؛ لأن الناس ليسوا بحاجة إلى من يوصيهم على شهواتهم، هي تحتاج إلى تهدئة، ما تحتاج إلى دفع، ما يحتاج أن يقول لهم: انكحوا النساء، كما يأمرهم بالصلاة والزكاة والصبر والصوم، هذه تحتاج إلى ترويض، تحتاج إلى تهدئة، يقال لهم: كفوا عن الحرام؛ لأن النفوس تقبل على هذا بقوة، فيحتاجون من الحدود والزواجر ما يردعهم، فالذي يحتاج إلى مجاهدة ليست حظوظ النفس حتى يجاهد ليحصلها، لا، وإنما الإيمان والعمل الصالح، فهذا محل نظر الرب -تبارك وتعالى- وهو الذي يجري عليه الجزاء والحساب.
ثم ذكر حديث أبي موسى الأشعري وهو عبد الله بن قيس قال: سئل رسول الله ﷺ عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حميّة، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله ﷺ: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله[2]متفق عليه.
الرجل يقاتل شجاعة يعني بمعنى أنه يفعل ذلك بدافع الجبلّة، هو شجاع، فكأنه يمارس هوايته الطبيعية، كأنه يرى أن هذا مما يلزمه من جهة الشجاعة، وإذا رأى شيئًا فيه قتال يعنيه أو ما يعنيه دخل فيه، فمثل هذا هل يجزى الإنسان عليه؟.
الجواب: لا، هذا ليس في سبيل الله، إنما هو يلبي رغبة داخلية في نفسه طبيعة، لا يريد إعلاء كلمة الله، إنما هو يلبي مطلوبًا للنفس، وهذه قضية مهمة جدًّا، أحيانًا تجد بعض الناس لربما لا يكون له همة، لا في صلاة يفوت الفرائض، ينام عن صلاة الفجر إلى أن يرتفع الضحى، وليس له همة في طلب علم، ولا قراءة قرآن، ولا تعلُّم تجويد، ولا حفظ جزء عم، لكن لربما يشغلك في السؤال عن الجهاد في سبيل الله، الجهاد فرض عين، أو ليس بفرض عين؟، لماذا مع أن الجهاد من أصعب العبادات، وفيه إزهاق النفوس؟، أحيانًا يكون هو طبيعته تميل إلى هذا أصلاً، لكن لا يستطيع أن يصبر على ركعة وتر واحدة يصليها، لا يستطيع أن يقوم لصلاة الفجر، لا يستطيع أن يحضر في حلقة يحفظ آيات من القرآن، يتعلم مبادئ التجويد، أحكام النون الساكنة والتنوين، والميم الساكنة، وتجده في غاية الكسل، جافًّا من الذكر، ولكن في هذه القضية هو يلح عليها بقوة.
أنا لا أقصد أن المجاهدين بهذه المثابة -معاذ الله، الجهاد ذروة سنام الإسلام، لكن أنا أتكلم عن نوع من الناس، قد يوجد نوع من الناس لا يكون له همة أبدًا في العبادة، ولا يستطيع أن يجاهد نفسه بقليل ولا كثير، ولكن هذه القضية يندفع إليها، مع أنها هي الأشد التي تحتاج مجاهدة، ما السر؟ ما هو التحليل النفسي كما يقال؟.
أحيانًا تكون هي رغبة جامحة منبعثة من الطبيعة، هو طبيعته، أحيانًا لو درست تاريخ هذا الإنسان أو سألت من يعرفه، أو أهله، تجده في أولى ابتدائي كان يبطش بزملائه بالمدرسة، كل يوم مشاكل، ضرب الأستاذ، ضرب كذا، ضرب زميله، شج رأسه، كل يوم يُستدعى والده، وهو في أولى ابتدائي، هي طبيعته هكذا، لا يبالي، فتجده لربما يلح، القضية ليست أن يقاتل الإنسان شجاعة، وكذلك أن يقاتل حميّة يعني: أنفة من باب العصبية لقومه، لقبيلته، فيقاتل من هذا الباب، فهذا أيضًا ليس في سبيل الله.
يقاتل رياءً، هذا هو الأسوأ من أجل أن يقال: مجاهد، أن يقال: شجاع، فهذا هو الذي قال فيه النبي ﷺ في حديث أبي هريرة : أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، وذكر منهم المجاهد[3].
الرجل الذي كان يجاهد مع النبي ﷺ وأبلى بلاء حسنًا في القتال، فذكره أصحاب النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: هو في النار، فتبعه بعضهم، فأصيب في اليوم الثاني في جراحة قوية، فوضع السيف بين ثدييه، ثم تحامل عليه، وقال: إنه كان يقاتل حميّة عن قومه[4].
يعني: ما كان في سبيل الله، النبي ﷺ قال: هو في النار، من البداية.
فهذه المقاصد مقاصد ليست شرعية، وإن قال الناس: شهيد، وشهيد كذا، وشهيد كذا، وشهيد كذا، النبي ﷺ ذكر المعيار؛ لأنه ممكن أن يسألوا عن أشياء أخرى، الرجل يقاتل لكذا، والرجل يقاتل كذا، والنبي ﷺ أعطي جوامع الكلم، فهذا هو الضابط، وهذا هو المعيار: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
هؤلاء ناس قد يشتركون في قتال لهم مقاصد شتى، فالذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا هو الذي في سبيل الله، قد يكون معه آخرون لهم نيات أخرى، هذا رياء، هذا حمية، هذا شجاعة، هذا يقاتل لنية ومقاصد أخرى، لتصفية حسابات معينة، عداوات شخصية إلى آخره، نقمة عنده على ناس معينين آذوه، فحصلت له فرصة في قتال فقاتلهم؛ انتقامًا لأهله، انتقامًا لكذا، لا لتكون كلمة الله هي العليا، يقاتل لنفسه، لحظ نفسه.
فهذا من جوامع الكلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ومن أصعب الأشياء بذل النفس، هو أعلى البذل، فإذا كان الجهاد تُبذل فيه النفوس والأموال فهو أولى الأشياء أن تُصحح فيه المقاصد والنيات، والله المستعان.
ومن الأحاديث حديث أبي بَكْرة نفيع بن الحارث الثقفي ، وقيل له أبو بكرة؛ لأنه تدلى من بكرة بحصن الطائف عند الحصار، تدلى بحبل إلى المسلمين فلقب بهذا.
ومن الأحاديث حديث أبي بَكْرة نفيع بن الحارث الثقفي ، وقيل له أبو بكرة؛ لأنه تدلى من بكرة بحصن الطائف عند الحصار، تدلى بحبل إلى المسلمين فلقب بهذا.
هذا من نصوص الوعيد، بل جاء أكثر من هذا، أنه إذا أشار إلى أخيه بحديدة تلعنه الملائكة حتى يضعها[2]، ولو كان مازحًا، ولو كان أخًا له من أمه وأبيه.
ولهذا أمر النبي ﷺ من جاء في السوق، أو في المسجد، أو نحو ذلك، ومعه سهام أن يكف نصالها، رءوسها المدببة، بحيث يضعها في شيء، يغطيها بشيء، حتى لا تجرح[3].
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم (4/ 2020)، رقم: (2616).
- أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب المرور في المسجد (1/ 98)، رقم: (452)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب أمر من مر بسلاح في مسجد أو سوق أو غيرهما من المواضع الجامعة للناس أن يمسك بنصالها (4/ 2019)، رقم: (2615).
- أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب المرور في المسجد (1/ 98)، رقم: (452)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب أمر من مر بسلاح في مسجد أو سوق أو غيرهما من المواضع الجامعة للناس أن يمسك بنصالها (4/ 2019)، رقم: (2615).