إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أُواصل الحديثَ في هذه الليلة عن قوله -تبارك وتعالى-: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205].
وحاصل ما ذُكر: أنَّ الله -تبارك وتعالى- يأمر بذكره: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ، وأنَّ هذا الخطابَ مُوجَّهٌ للنبي ﷺ، وأُمَّته مُخاطبةٌ بذلك؛ لأنَّ الأُمَّةَ تُخاطَب في شخص قُدوتها ومُقدّمها ﷺ، وأنَّ قوله: فِي نَفْسِكَ عند بعض أهل العلم بمعنى: في قلبك.
وحمله ابنُ جريرٍ -رحمه الله- على أنَّ ذلك في حال سماع القرآن في الصَّلاة، أو في حال سماعه من الخطيب؛ لأنَّه مأمورٌ بالإنصات، فيكون مُتفكِّرًا مُعتبرًا بما يسمع، حيث قال: "وأولى الأقوال في ذلك بالصَّواب: قول مَن قال: أُمِرُوا باستماع القرآن في الصَّلاة إذا قرأ الإمامُ، وكان مَن خلفه ممن يأتمُّ به يسمعه، وفي الخطبة"[1].
وأنَّ من أهل العلم مَن حمل ذلك على معنًى يكون فيه اللِّسانُ ناطقًا بالذكر، مع مُواطأة القلب، فيكون في حال الخلوة، يعني: في خاصَّة نفسك إذا خلوتَ من الناس، بحيث لا يراك أحدٌ، ولا يسمعك أحدٌ.
اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ أي: في خاصَّة نفسك، بهذه الصِّفة: تَضَرُّعًا تذلُّلاً وتخشُّعًا وَخِيفَةً؛ وذلك أنَّ الذاكرَ يكون ذكرُه جالبًا للمحبَّة، مُتسبِّبًا فيها، كما يقول الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-[2]، وهذه المحبَّة قد تُوجب الإدلال والجراءة على المحبوب، وتُوجب شيئًا من الانبساط، فاحتاج الذاكرُ المحبُّ إلى الخوف؛ ليكون ذلك الخوفُ حاجزًا له عن الإدلال على ربِّه -تبارك وتعالى.
وذكرنا قول مَن قال -كصاحب "التحرير والتنوير"- في قوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً بأنَّه ذكر أنواع الذكر: الذكر الذي يكون في خاصَّة نفسه، وذَكَرَ أحواله من الضَّراعة، بحيث يكون بصوتٍ مسموعٍ، ويكون بما دون ذلك من الإسرار، أو من المخافتة، أو نحو هذا[3].
وذكرنا أنَّ الكثيرين يقولون بأنَّ هذه الآية دلَّت على التَّوسط في الذكر: تَضَرُّعًا وَخِيفَةً، وقلنا بأنَّ هذه الأقوال جميعًا يمكن أن تكون داخلةً تحت هذه الآية، فيكون الذكرُ المأمورُ به مُنبعثًا من القلب، فيكون القلبُ عامرًا به، ويكون أيضًا بحالٍ من التَّذلل والتَّخشع، وأن يذكر نفسَه في حال الانفراد والغيبة عن الآخرين، وكذلك أيضًا يكون في حال الجلوة مع الناس، ثم أيضًا في حال الخوف، فيكون ذلك بصوتٍ بحالٍ من الاعتدال: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ.
فالحاصل أنَّ الله -تبارك وتعالى- هنا في هذه الآية ذكر هذه الأمور وهذه المعاني التي يحصل بها الانتفاعُ بالذكر، فينتفع الإنسانُ بالذكر إذا كان بهذه الصِّفة؛ يذكر ربَّه -تبارك وتعالى- ذكرًا ينبعث من قلبه، ويجري على لسانه، مُصطحبًا في ذلك الخشية والتَّضرع والتَّذلل والخشوع لربِّه وخالقه ، وهذا أكمل ما يكون من أحوال الذَّاكرين.
وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ يعني: لا يكون ذلك بصوتٍ مُرتفعٍ ارتفاعًا زائدًا، وكما سبق في كلام ابن جرير -رحمه الله- حينما حمل ذلك على حال الصَّلاة، وحال سماع الخطبة[4]، فيكون ذكرُه بقلبه على هذا القول.
وعلى كل حالٍ، هذا يشمل ما هو أعمّ من ذلك، فيشمل أنواع الذكر، وقراءة القرآن، والأذكار المشروعة، وذكرنا أنَّ من ذلك ما يُطْلَب فيه الجهر.
قال: بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ الغدو جمع غُدوة، والغدوة هي أول النَّهار، والذي عليه عامَّةُ أهل العلم من أهل اللُّغة والمفسّرين أنَّ ذلك يكون إلى طلوع الشَّمس، يعني: من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، وهذا أفضل وأحسن أوقات الذكر، وهذا هو البكور، وهو الغدو والآصال، يعني: اذكر ربَّك بالبكور والعشيّات. هكذا قال ابنُ زيدٍ، وأبو وائل، ومجاهد، وجماعةٌ من السَّلف، إلا أنَّ مجاهدًا حمل الغدوَّ على أنَّه نفس صلاة الفجر، يعني: صلِّ لله -تبارك وتعالى- في طرفي النَّهار: بالغدو؛ يعني: صلاة الصبح، والآصال؛ يعني: آخر العشي، وهي صلاة العصر على قول مجاهد[5]، والمعنى أعمّ من ذلك؛ ولهذا فإنَّ عامَّة أهل العلم فسَّروه بالذكر الذي يكون في أول النَّهار وفي آخره، فالغدوة: ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، ولكن لو أنَّ أحدًا قال أذكارَ الصباح بعد طلوع الشمس، أو قالها في الضُّحى، فإنَّ ذلك يُجزئ عنه؛ لأنَّ أولَ النَّهار كلّ ذلك يكون وقتًا للذكر، أعني: أذكار الصباح، فإذا قالها قبل الزَّوال يكون قد أوقعها في موقعها، لكن الأفضل في هذا هو ما ذكرتُ: أن يكون ذلك ما بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، كما أنَّ أذكارَ المساء كالصَّباح، كما أنَّ الصباحَ يبدأ من طلوع الفجر إلى ما قبل الزَّوال، هذا كلّه صباح، فكذلك المساء يكون من بعد الزَّوال، فهذا مساء إلى غروب الشمس، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- الكلام على المزيد من هذا المعنى عند الكلام على أذكار الصَّباح والمساء.
فالمساء يكون إلى غروب الشمس، وبعض أهل اللغة يقولون: ويكون بعد الغروب. وهذا هو الصَّحيح -والله تعالى أعلم-؛ ولذلك يُقال: لو أنَّ أحدًا قال أذكارَ المساء بعد الزَّوال -يعني: بعد الظهر- فإنَّه يكون أوقعها في وقت المساء، فيُجزئ ذلك عنه، ولكن الأفضل أن يأتي بها بعد العصر؛ لأنَّه وقتُ الآصال، وقتُ الأصيل، وهذا هو الذي ذكره الله -تبارك وتعالى.
ولهذا فُسّر الأصيلُ بالوقت من بعد العصر إلى المغرب، وهذا صحيحٌ، وجاء عن بعض أهل اللغة -كأبي صخر- بأنَّ الآصالَ ما بين الظُّهر والعصر[6]. ولا شكَّ أنَّ هذا مساء، وأنَّه وقتٌ للذكر، ويصحّ ويُجزئ عنه، ولكن الأفضل أن يكون في ذينك الوقتين: إلى ما قبل طلوع الشَّمس، وكذلك أيضًا ما بين العصر إلى غروبها.
وختم اللهُ هذه الآية بقوله: وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وهذا يدل على أنَّ الذي يترك الذكرَ أنَّه يكون من الغافلين، وهذا لا شكَّ فيه، وإنما تكون الحياةُ الحقيقيَّة حياةَ القلب، ويتبعها حياة البدن بذكر الله ، وأن تكون القلوبُ عامرةً بذكره، والألسنُ لاهجةً بتحميده وتسبيحه وتمجيده، وتكون الجوارحُ عاملةً بطاعته، هذه هي الحياة الحقيقية، وما عداها موتٌ، كما سيأتي في الكلام على قوله ﷺ: مثل الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكر ربَّه مثل الحيِّ والميِّت[7].
فهنا يقول: وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ لا تكن من اللَّاهين، على قول ابن جريرٍ: "ولا تكن من اللَّاهين إذا قُرئ القرآنُ عن عِظاته وعِبَره وما فيه من عجائبه، ولكن تدبَّر ذلك، وتفهمه، وأشعره قلبك بذكر الله، وخضوعٍ له، وخوفٍ من قُدرة الله عليك إن أنت غفلتَ عن ذلك"[8]؛ لأنَّه حمل ذلك على استماع القرآن كما سبق، وربط هذه الآية بالآية التي قبلها، والمعنى -والله أعلم- كما سبق أعمّ من ذلك، بحيث إنَّه يكون بأنواع الذكر، فإنَّ مَن ذكر الله -تبارك وتعالى- يكون قد انتقل من حال الغفلة إلى الحياة واليقظة.
وأيضًا هذا يدل على أنَّ العبد ينبغي عليه أن يُلازم الذكرَ دائمًا؛ لئلا تحصل له غفلةٌ: أن يُلازم ذكر القلب، ويُلازم ذكر اللِّسان، وأن يشتغل بطاعة الله بجوارحه.
وقد قال صاحبُ "التَّفسير الكبير": "وقوله: وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ يدل على أنَّ الذكرَ القلبي يجب أن يكون دائمًا، وألا يغفل الإنسانُ لحظةً واحدةً عن استحضار جلال الله وكبريائه بقدر الطَّاقة البشرية والقوة الإنسانية.
وتحقيق القول: أنَّ بين الروح وبين البدن علاقةً عجيبةً؛ لأنَّ كلَّ أثرٍ حصل في جوهر الروح نزل منه أثرٌ إلى البدن، وكل حالةٍ حصلت في البدن صعدت منها نتائجُ إلى الروح، ألا ترى أنَّ الإنسان إذا تخيل الشَّيء الحامض ضرس سِنُّه، وإذا تخيل حالةً مكروهةً غضب وسخن بدنُه؟ فهذه آثار تنزل من الروح إلى البدن.
وأيضًا إذا واظب الإنسانُ على عملٍ من الأعمال، وكرر مرات وكرَّات، حصلت ملكةٌ قويَّةٌ راسخةٌ في جوهر النفس، فهذه آثار صعدت من البدن إلى النَّفس"[9]، أي: أنَّ كثرةَ المزاولات بأعمال الجوارح واللِّسان تُؤثِّر في القلب وفي النَّفس تأثيرًا بيِّنًا؛ ولهذا قيل: إنَّ كثرةَ المزاولات تُورث الملكات.
فهذا الإنسان الذي يتعبَّد لربِّه -تبارك وتعالى- بجوارحه، ويلهج لسانُه بذكره؛ يُؤثِّر ذلك فيه الانشراح والرَّاحة والسَّعادة والطُّمأنينة: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، وكذلك أيضًا يحصل له بسبب ذلك من محبَّة الله ، وإجلاله، وتعظيمه، وخشيته، والخوف منه، ما لا يُقادر قدره.
فهذه مُلازمة بين أعمال الجوارح والقلب والنفس، كما أنَّ أيضًا الأشياء الحاصلة في النفوس تُؤثِّر في الجوارح؛ ولهذا ضرب له مثلاً بأنَّ الإنسانَ حينما يتخيل بعض الأشياء التي لربما تُؤثِّر في بدنه، وهي خيالات ربما تكون نفسيَّةً: إذا تخيَّل الحامضَ فإنَّ أضراسَه يحصل لها من التَّأثر والاستجابة ما لا يخفى، بل يحصل من إدرار اللُّعاب، وكما أنَّه إذا تفكَّر في أمورٍ تُثير الغرائز فإنَّ ذلك يُؤثر في البدن تأثيرًا ظاهرًا، وحينما يتصور الإنسانُ أمورًا مُستفزَّةً ويتخيلها، فإنَّ ذلك يظهر في وجهه وجوارحه، ويغلي الدمُ في قلبه؛ فيغضب، وقد تخيل أمورًا مُستفزَّةً.
وهكذا أيضًا بسائر التَّصورات كما هو معلومٌ، فإذا واظب الإنسانُ على عملٍ من الأعمال، فإنَّ هذا يحصل له به ملكةٌ قويةٌ راسخةٌ في النفس، تُؤثِّر فيها تأثيرًا بيِّنًا، فإذا لازم العبدُ الذكرَ في أحواله كلِّها فإنَّه يكون بهذه المثابة: وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ.
إذن نخرج من هذا -أيُّها الإخوة- بأنَّ الذي يترك الذكرَ أنَّه يكون غافلاً، وأنَّه بقدر ما يغفل عن الذكر ويُقصِّر فيه تكون غفلتُه، والله تعالى أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- "تفسير الطبري = جامع البيان" ت. شاكر (13/ 352).
- "بدائع الفوائد" (3/ 10).
- "التحرير والتنوير" (9/ 242).
- "تفسير الطبري = جامع البيان" ت. شاكر (13/ 352).
- "تفسير الطبري = جامع البيان" ت. شاكر (13/ 356).
- "تفسير ابن أبي حاتم" محقَّقًا (5/ 1648).
- أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب فضل ذكر الله ، برقم (5928)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد، برقم (1299).
- "تفسير الطبري = جامع البيان" ت. شاكر (13/ 355).
- "تفسير الرازي = مفاتيح الغيب" أو "التفسير الكبير" (15/ 444-445).