إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أيها الأحبة، في هذه الليلة أشرح الحديثَ الأول من الأحاديث التي أوردها المؤلفُ في هذا الكتاب مما يتَّصل بفضل الذكر، وذلك قوله ﷺ: مثل الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكر ربَّه مثل الحيِّ والميِّت[1]، وهو مُخرَّجٌ في "الصَّحيحين".
وفي روايةٍ عند مسلمٍ: مثل البيت الذي يُذْكَر اللهُ فيه والبيت الذي لا يُذْكَر اللهُ فيه مثل الحيِّ والميِّت[2]، والحديث نفسه إلا أنَّه جاء بهذين اللَّفظين.
فهذا الحديثُ مثَّل به النبيُّ ﷺ مَن يذكر ربَّه ومَن لا يذكر ربَّه بمثلٍ محسوسٍ يُدركه كلُّ أحدٍ، والأمثال إنما تُذْكَر للتَّقريب والتَّفهيم والاعتبار، وقد ذكرتُ في بعض المناسبات أنَّ كثيرًا من الأمثال المضروبة في القرآن وكذا في السُّنة إنما يُقرَّب بها المعنى المعقول بصورةٍ محسوسةٍ، بحيث تُدركها الأفهام، ويقرب فهمُها لدى كلِّ سامعٍ.
فهنا هذا يذكر ربَّه، وهذا لا يذكر ربَّه، هؤلاء أهل بيتٍ يذكرون الله، وهؤلاء أهل بيتٍ لا يذكرون الله: مثل الحيّ والميت، كم ما بين الحيِّ والميت؟ لك أن تسرح بالذهن وتُطوِّف به في وجوه الفروقات بين الأحياء والأموات؛ لتُدرك بُعْدَ ما بينهما، فهذا اللَّفظ القصير من جوامع الكلم؛ لأنَّه يحوي معنًى واسعًا.
فهنا -أيُّها الأحبَّة- أقول:
أولاً: وجه التَّشبيه: حيث شبَّه الغافلَ بالميت، والذَّاكرَ بالحيِّ، ونحن حينما نقول: الذَّاكر: مثل الذي يذكر ربَّه لا بدَّ من مُواطأة القلب؛ لأنَّ -كما سيأتي إن شاء الله- الحياة الحقيقيَّة هي حياة القلب، والذكر الحقيقي منشؤه من القلب، ما كان صادرًا عن القلب، أن يكون القلبُ عامرًا بذكر ربِّه ومليكه وإلهه وخالقه .
فهنا التَّشبيه بين الميت والغافل، والحيّ والميت، فالحيّ هو الذَّاكر، والميت هو الغافل؛ وذلك في عدم الانتفاع، لا نفعَ ولا انتفاعَ لكل واحدٍ منهما، هل الميت ينتفع؟ لا ينتفع، وهل الميت يتقدّم؟ الميت لا يتقدّم، وهل الميت يُحصِّل؟ الميت لا يحصّل، فهكذا هذا الغافل هو بهذه المثابة، فهذه منقبةٌ عظمى –كبرى- للذَّاكرين، وفضيلة جليلةٌ جعلها النبيُّ ﷺ لهم، فذكرهم حياة، وهم أحياء بهذا الذكر، وغيرهم موتى، وهم أصحاب حياةٍ حقيقيَّةٍ، الحياة الروحية، قلوبهم تغشاها الهدايات والأنوار، ويصل إليهم من الأجور المتتابعة الشَّيء الكثير؛ وذلك أنَّهم يذكرون الله -تبارك وتعالى-، بخلاف تارك الذِّكْر؛ فإنَّه وإن كانت له حياة ماديَّة صوريَّة، إلا أنَّه في الحقيقة في عالم الأموات، وفي حكم الأموات؛ لأنَّ حياتَه لا اعتبارَ لها، ولا قيمةَ لها، فلا يفيض على قلوبهم ونفوسهم وأرواحهم شيءٌ من هذه الأنوار والهدايات، ولا يحصل لهم شيءٌ من التَّزود من الطَّاعات.
وقد ذكرنا في شرح الأمثال في القرآن أمثالاً مُشابهةً في الهداية والضَّلال، حيث شبَّه اللهُ أهلَ الهدى والإيمان بالأحياء، وشبَّه أهلَ الكفر والضَّلال بالأموات: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام:122].
فالحياة الحقيقيَّة إذن -أيُّها الأحبة- هي حياة القلب، وهذا هو الأمر الثاني من الفوائد التي تُؤخَذ من هذا الحديث، فإذا كانت القلوبُ حيَّةً فإنها تصلح وتزكو، وتزكو بزكائها أيضًا الجوارح، وإذا أشرقت القلوبُ أشرقت الوجوه، وإذا أشرقت القلوبُ أشرقت الجوارحُ بالأعمال الصَّالحة، وأشرقت البصائر، وصار عند العبد من النور الذي يُميز به بين الحقِّ والباطل، والهدى والضَّلال، ومعدن الحقِّ، ومعدن الشُّبهات؛ ما يكون له فُرقانًا، كما مضى الكلامُ على قوله -تبارك وتعالى-: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، فهذا الفُرقان هو الذي يحصل به التَّفريقُ بين الحقِّ والباطل حينما يلتبس على كثيرٍ من الناس، وإذا كان القلبُ في حالٍ من الحياة دبَّت هذه الحياة في الجسد، ودبَّت هذه الحياة في عقل الإنسان؛ فيستنير قلبُه وعقله وذهنه؛ ولهذا كانت العقائدُ الصَّحيحة والإيمانُ سببًا لزكاء الأذهان.
وقد ذكر شيخُ الإسلام وغيره أشياء من هذا القبيل في زكاء عقول أهل الإيمان، وأنَّهم يتميزون على غيرهم بسبب صحّة الاعتقاد، فصحّة الاعتقاد تُؤثر في عقل الإنسان، وتُؤثر في التَّفكير والنَّظر، ولها أثرٌ في ذلك بيِّنٌ لا يُنكر، أمَّا إذا كان القلبُ فاسدًا فإنَّه تفسد بصيرةُ الإنسان، ولا يُميز بين الحقِّ والباطل، والهدى والضَّلال، بل قد يستحسن الغواية، ويستحسن الشَّر، ويستحسن الباطل، ويرى الباطلَ حقًّا، والحقَّ باطلاً، وتنعكس الأمورُ في نظره، وتنقلب الحقائقُ -نسأل الله العافية-، ولا يرعوي، ولا يستجيب، ولا يهتدي.
ولهذا يقول ابنُ القيم: "وسمعتُ شيخَ الإسلام ابن تيمية -قدَّس الله تعالى روحه- يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسَّمك، فكيف يكون حالُ السَّمك إذا فارق الماء؟"[3].
إذن هذه الحياة كيف تتحقق؟ تتحقق بكثرة الذكر؛ الذي هو ذكر القلب أولاً، ثم ذكر اللِّسان، ثم تكون الجوارحُ عاملةً بطاعة ربِّها ومعبودها وباريها .
ومن هنا فإنَّ كلَّ آفةٍ تدخل على العبد فإنَّ سببَ ذلك هو ضياع القلب، ففساد هذا القلب يُؤدِّي إلى ضياع حقِّ العبد من ربِّه -تبارك وتعالى-، وتنقص مرتبته، وتنحطّ درجته، فيكون في منزلةٍ وضيعةٍ في سلّم العبوديَّة.
فمن هنا -أيُّها الأحبة- كان نسيانُ ذكر الله -تبارك وتعالى- سببًا لنسيان الربِّ لعبده: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19]، وقلنا: نسوا ذكره، وعبادته، وطاعته، وتوحيده، وتمجيده؛ فأنساهم أنفسهم، فصار شغلُهم فيما يضرُّهم، وقد قيل:
فَنِسْيَانُ ذِكْرِ اللَّهِ مَوْتُ قُلُوبِهِمْ | وَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُورِ قُبُورُ |
وَأَرْوَاحُهُمْ فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِهِمْ | وَلَيْسَ لَهُمْ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ [4] |
أمرٌ ثالثٌ: وهو إذا كان القلبُ حيًّا عامرًا بالإيمان، فإنَّ الموعظةَ تُؤثر فيه، والميت لا تصل إليه موعظةٌ، والميت لا ينتفع بالخطاب، وإن طال الميتُ لا يهتدي، ولا يعقل، ولا يتَّعظ بما يُقال حوله، لو خاطبتَ الميتَ خطابًا ضمَّنته أنواعَ المواعظ فإنَّه لا يحصل له شيءٌ من الاتِّعاظ والاعتبار بما تقول؛ لأنَّه بمنأى وشغل عن ذلك، بصرف النظر عن كون الموتى يسمعون أو لا يسمعون، والجمهور يقولون: إنَّهم لا يسمعون، والله قال: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل:80]، فهذا الميت لا تصل إليه موعظةٌ.
وكذلك ميت القلب، فإذا كان القلبُ نابضًا بالإيمان، حيًّا بذكر الله أثَّرت فيه المواعظ، وتحرَّك واعتبر، ونفعته الذِّكْرَى، والله يقول: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]، فعلَّق ذلك بأهل الإيمان، وقد عرفنا أنَّ الحكمَ المعلَّق على وصفٍ يزيد بزيادته، وينقص بنُقصانه، فعلى قدر الإيمان يكون نفع الذكرى، ومن هنا يتفاوت الناس؛ فيحضرون الموعظة ويسمعون القرآن، ويحضرون خطبة الجمعة، فيخرج هذا بأثرٍ كبيرٍ في نفسه وقلبه، وهذا لا يتَّعظ ولا يتأثَّر، وهذا يسمع القرآنَ من أوله إلى آخره في صلاة التَّراويح، وفي رمضان، في وقت تصفيد الشَّياطين المردة، ولا تدمع له عينٌ، ولا يرقُّ له قلبٌ، والآخر لا يتمالك، ما السَّبب؟
السَّبب هو حياة هذا القلب، فهذا الذي صار قلبُه حيًّا الوعد يُطمعه، ويُرغبه، والوعيد يردعه؛ لكمال حياته، فهو عظيم التَّأثر، بخلاف الميت.
أمرٌ رابعٌ: وهو أنَّ هذا القلبَ الحيَّ يكون لينًا، لا قاسيًا، والقرآن يُلين القلوب؛ ولما شكا رجلٌ للحسن البصري -رحمه الله- قسوةَ قلبه أرشده إلى أن يُذيبه بالقرآن وبذكر الله ، فهذا كما قال الله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23].
أمَّا هذا الإنسانُ الذي مات قلبُه، فكما قال اللهُ تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22].
فالمقصود -أيُّها الأحبة- أنَّ هذا حيَّ القلب يلين قلبُه، وأمَّا ذاك الميّت فإنَّ قلبَه لا يلين بالمواعظ، ولا يمكن أن يتوصل معه إلى شيءٍ من ذلك: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، والله يقول: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21]، فهذا كلّه من ضرب الأمثال.
أمرٌ خامسٌ: وهو أنَّ هذا القلبَ الذي يكون حيًّا بذكر الله ، وعامرًا بذلك، فإنَّه يكون مُتذكِّرًا، لا ناسيًا، مُعتبرًا، لا غافلاً، والله -عزَّ وجلَّ- يقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران:190]، مَن هم أصحاب العقول هؤلاء؟ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]، فهؤلاء حصل لهم الذكر بنوعيه: ذكر اللِّسان، فهم يقولون هذا بألسنتهم، وكذلك يتفكَّرون في خلق السَّماوات والأرض، فهذه هي القلوب الحيَّة: مثل الحيِّ والميت، الميت لا يعقل شيئًا من ذلك، ولا ينظر فيه.
ومن هنا فإنَّ القلبَ الحيَّ -وهذا هو الأمر السَّادس- يحسّ ويشعر ويتألم، أمَّا الميت: (فما لجرحٍ بميّتٍ إيلام).
الآن لو أخذت جثة إنسان ميّت وقطعته قطعًا، هل يشعر؟ وإذا جُرح هل يشعر؟ وإذا أصابه حرقٌ هل يشعر؟ لا يشعر، وهكذا العضو الميّت؛ لو أنَّ الإنسانَ مات جلدُه في موضعٍ من المواضع، فجُرح؛ فإنَّه لا يشعر، أو أصابه حرقٌ أو شيءٌ يُؤذيه، فإنَّه لا يشعر بذلك؛ لأنَّه قد مات، فالميّت لا يحسّ ولا يشعر، وهكذا القلب، والقلب أعظم إحساسًا من هذه الأعضاء والأبعاض التي تحسّ بالألم، وتشعر بالجرح، ونحو ذلك.
فهذا القلب الحيّ العامر بذكر الله إذا وقع من صاحبه الذَّنبُ تألم، والله أقسم بالنفس اللَّوامة، والنَّفس اللَّوامة هي التي تلوم صاحبَها على فعل المعاصي، والمؤمن يشعر أنَّ ذنبَه كأنَّه جبلٌ يكاد يسقط عليه، والمنافق كأنَّه ذبابٌ وقع على أنفه، فقال به هكذا.
وانظروا حال السَّلف كيف كانت قلوبُهم حَّيةً؛ فيشعرون حينما يقع منهم الخللُ والتَّقصير والذَّنب؟
فهذا محمد بن سيرين ركبه دَينٌ، فاغتمَّ لذلك، فقال: "إني لأعرف هذا الغمّ بذنبٍ أصبتُه منذ أربعين سنةً"[5]، وهذا يُوضِّحه ما جاء عنه أنَّه قال لرجلٍ: يا مُفلس[6]، بسبب كلمةٍ قالها أصابه غمٌّ بعد أربعين سنةً، يقول: أنا أعرف هذا الغمّ بسبب ذنبٍ أصبته قبل أربعين سنةً.
طيب، هذا القلب الحيّ يشعر ويُدرك، ولو بعد أربعين سنةً، لكن القلوب الميتة التي تنتابها الذنوبُ والمعاصي صباح مساء، بل هو مُقيمٌ على المعصية، هذا كيف يشعر؟
ولهذا قال أبو سليمان الدَّاراني وقد بلغه الأثرُ عن ابن سيرين -رحمه الله-: قلَّت ذنوبُهم فعرفوا من أين أُوتوا، وكثرت ذنوبُنا فلم ندرِ من أين نُؤتَى؟[7].
وآخر يقول: "إني لأعصي الله فأرى ذلك في خُلُق دابَّتي وامرأتي"[8]، بمعنى أنَّه يرى أثر المعصية مباشرةً، فهم يعرفون أنَّ هذا من المعصية الفلانية، لكنَّ الذي حياته معاصٍ، ثم بعد ذلك يشتكي من أولاده، ومن زوجته، وعمله، وجيرانه، وأصحابه، ومن سيارته، ويشتكي من كلِّ شيءٍ، فهو في تذمُّرٍ دائمٍ، وفي قلقٍ دائمٍ، وفي ضيقٍ دائمٍ، السَّبب ما هو؟ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، هؤلاء قلوبهم حيَّة، فصار أدنى ما يُواقعون من المخالفة والتَّقصير والمعصية يُؤثر فيهم، فيعرفون مباشرةً أنَّ الأذى الذي حصل والضَّرر إنما هو بسبب تلك المعصية، وإن تطاول الزمانُ عليها.
وسفيان -رحمه الله- يقول: "حُرِمْتُ قيامَ الليل بذنبٍ أحدثتُه خمسة أشهرٍ"[9]، فالذي لا يرفع رأسًا بذلك أصلاً -بقيام الليل- ولا يُفكِّر، بل لربما لا يقوم للفريضة، هذا أيّ الذنوب أقعدته؟! وما حال قلب هذا الإنسان؟!
وقيل لسعيد بن المسيّب: إنَّ عبدالملك بن مروان قال: قد صرتُ لا أفرح بالحسنة أعملها، ولا أحزن على السَّيئة أرتكبها. فقال سعيدٌ: "الآن تكامل موتُ قلبه"[10]، يعني: إذا كان ما يفرح بالعمل الصَّالح الذي وُفِّق إليه، ولا يحزن على المعاصي التي يفعلها، والتَّقصير الذي يقع منه، فما لجرحٍ بميتٍ إيلام، معناه: أنَّ هذا القلبَ ميت، لو جئتَ بمشرطٍ وقطعته لا يشعر.
لكن انظروا إلى الحياة، الآن الإنسان إذا كان يُؤلمه ضرسه، فحرَّك الطبيبُ العصبَ، والعصب ما هو؟ مثل الخيط الدَّقيق جدًّا، هذا الجزء الصَّغير يُسبب للإنسان هذا الصُّداع الكثير، والألم العظيم، إذا حرّك برأس الإبرة فإنَّ الإنسان يشعر بألمٍ لا يُطاق، وهذا جزءٌ يسيرٌ صغيرٌ، لكن إذا كان العصبُ ميتًا فالإنسان لا يشعر، ويخلع ضرسه وهو لا يشعر، وهكذا، فأقول: هذا يدعو إلى التَّأمل في بعض الأمور، وذلك لا شكّ أنَّه يرجع إلى حياة القلب.
وانظر وتأمَّل في أحوالنا في الحجِّ حينما نذهب مُرفَّهين مع الحملات التي تُوفر لنا ألوانَ وأسبابَ اللَّذات والراحة، حتى صار ذلك هدفًا لدى كثيرٍ من الناس، وانظر واعتبر وتأمَّل حينما يبقى الإنسانُ على فراشٍ يغبطه عليه الكثيرون، وهذا الفراش وهذه الألوان من الطَّعام هو يتململ وينتظر متى تنتهي هذه الأيام القلائل: أربعة أيام، أو خمسة أيام، مع أنَّه في أمنٍ تامٍّ، وفي شبعٍ دائمٍ، وينام ملأ عينيه، ومُرَفَّه، ولا يُطالَب بصنع طعامٍ، ولا إعداد فراشٍ، ولا حمل متاعٍ، ولا غير ذلك، ومع ذلك ينتظر ويتململ أربعة أيام، فإذا جاء اليوم الثاني عشر رأيتَ الناس، رأيتَ من حالهم ما تعجب من عجلتهم، ما يُذكِّرك بقوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37]، يُسرعون لاهين، يلهو عن كل شيءٍ، يريد أن يذهب، وأن ينصرف، وأن يُغادر، ولو ركب الأخطار.
طيب، إخواننا في بلاد الشَّام، وفي بورما، هؤلاء الذين يعيشون في مخيّمات، وبعض المخيّمات في بورما صار لها الآن أكثر من عشرين سنة، وأكثر هذه المخيّمات الموجودة للاجئين غير مُعترفٍ بها، يخرجون ويُلاحقون ويُقتلون ويُحرقون، وتُحرق قُراهم وبيوتهم وهم فيها، ويخرجون يركبون المراكب التي لا تُوصلهم إلى مطلوبهم، فيغرقون بالمئات في البحر، أسرة كاملة تخرج لا يصل منها إلا رجلٌ واحدٌ، أو امرأةٌ، كلّهم غرقوا، الأوضاع سيئة، وإذا ذهبوا إلى البلاد المجاورة يتخطّفهم الناس، ويُلاحَقون، ويُؤذَون، هذا في بورما، هؤلاء الذين يجلسون هذه المدّة الطويلة أكثر من عشرين سنةً في مخيّمات، وفي أوضاع بائسة، لا يأمنون على أنفسهم، ولا على أعراضهم، أُسَر تجلس في خيمةٍ واحدةٍ، النِّساء الثَّكالى اللَّاتي مات أزواجهنَّ، ومات مَن يعولهنَّ، إن وُجِدَ مَن يعول تجد أنَّ هؤلاء النِّساء يعشن مع أسرٍ أخرى، ينامون في خيمةٍ واحدةٍ، ونحن أربعة أيام في الحجِّ في غاية التَّرفيه، والإنسان ينتظر متى ينتهي من أجل أن يرجع إلى بيته.
وهؤلاء الذين في بلاد الشَّام، وهذه المدّة الطويلة: أكثر من سنتين ونصف في مخيّمات، مُستقبل مجهول، متى تنتهي هذه الحرب؟ وإلى أي شيءٍ تصير الأمور؟ هذا في علم الغيب، ومع ذلك فهم في حالٍ من الضُّر والجوع، لا مُستقبل، ولا رواتب، ولا رؤية، ولا تعليم، ليس هناك شيءٌ يلوح بالأفق، وإذا جاء الشِّتاء فلا تسأل عن حالهم: لا أمن، ولا تعليم، ولا طعام، ضاع كل شيءٍ، الأرواح تُزهق، كل بيتٍ فيه مُصيبة وحسرات في هذه المخيّمات، وأعراض تُنتهك، ثم نحن في عافية الله -تبارك وتعالى-، هل نشعر بهؤلاء، وصورهم تُنْقَل صباحًا ومساء؟ وصور مجاعات ما كنا نتوقع أن نراها في بلاد الشَّام، كنا نسمع عنها، أو نرى بعض الصور في بعض بلاد إفريقية، ثم توجد هذه المشاهد في الشام، فهذا من أعجب الأشياء، فالقلب الذي لا يتحرَّك بهذا -أيُّها الأحبة- ولا تُحرِّكه هذه المشاهد فإنَّه قلبٌ ميتٌ.
وهكذا -الله المستعان- تأمَّل أحوالنا في الحجِّ: إذا كان مع الإنسان نساءٌ، فإنَّه يُشفق عليهنَّ من المشي اليسير إلى الجمار، أو من الحافلة إلى المخيم، أو إلى الحرم، أو نحو ذلك، وهؤلاء يقطعون المسافات الشَّاسعة بطرقٍ خطرةٍ مجهولةٍ حتى يصلوا إلى حدود الدول المجاورة، نساء وأطفال، تنتاشهم المخاوف من كل ناحيةٍ، وتركوا خلفهم موتى، تركوا خلفهم أحبةً قد تساقطوا، معهم جرحى ومرضى، تذكر، نحن في بيوتنا إذا كان أحدُ الأولاد أُصيب بشيءٍ من الحمى، وارتفعت حرارته؛ فإنَّ الإنسان تلك الليلة لا ينام، مع أنَّ المستشفيات والمستوصفات والأدوية عن يمينه وشماله، وأولئك في مخيّمات أمراض خطيرة: سرطانات، فشل كلوي يحتاج إلى غسيلٍ، وهذا الطِّفل ترتفع حرارته حتى يموت، وهذا يُصاب بأمراضٍ قد تجاوزها الناسُ منذ زمنٍ بعيدٍ: يموتون بالحصبة، ويموتون بكذا، قد رجع إليه السلُّ الآن، وهذا الطفل يبكي ويبكي، لا يجد شيئًا يأكله، أو حليبًا، أو نحو ذلك حتى يموت.
وتصور؛ نحن لو كان الطفلُ عندنا لم يُوجد له رضعة واحدة فقط، تأخَّر الأبُ في إحضارها، أو نحو هذا.
أين قلوبنا -أيها الأحبة-؟ وأين إحساسنا؟ وأين مشاعرنا؟ وأين إيماننا؟
فينبغي على العبد أن يتذكَّر إخوانه إن كان له قلبٌ حيٌّ.
أمَّا الرِّواية الأخرى -وأختم الحديثَ بهذا- وهي قوله ﷺ: مثل البيت الذي يُذْكَر اللهُ فيه والبيت الذي لا يُذْكَر اللهُ فيه مثل الحيِّ والميّت[11]، فالذي يُوصَف بالحياة والموت حقيقةً هم السَّاكنون وأهل البيت، إذن أهل البيت الذين لا يذكرون الله -تبارك وتعالى- موتى، وبيتهم خراب، والأجواف التي لا ذكرَ لله فيها هي كالبيت الخرب، وهنا شبَّه أصحابَ هذه البيوت بالأموات؛ ولهذا أمر النبيُّ ﷺ أن نُصلي في بيوتنا، يعني: غير الفرائض، وأن لا نجعلها مقابر، فالمقابر لا يُصلَّى فيها، والبيوت التي لا يُذكر اللهُ فيها هي مقابر في الواقع.
إذن فرقٌ كبيرٌ بين البيوت الحيَّة بالذكر، وبيوت أهل الغفلة، فكيف إذا كان أهلُ تلك البيوت الغافلة الذين لا يذكرون الله يعكفون على أنواع المنكرات: من المشاهد المحرَّمة في هذه الوسائل الحديثة، والقنوات الفضائية، والمعازف تُضرب في هذه البيوت، ولا يُسمع ذكرُ الله إطلاقًا، ولا تجد أهل هذه البيوت يُصلون فيها ويعبدون الله -تبارك وتعالى-، فهي بيوت ظاهرها عاطل، وباطنها باطل.
نسأل الله العافية، ونسأل الله أن يجعل القرآنَ ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وجلاء همومنا.
اللهم ذكِّرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النَّهار على الوجه الذي يُرضيك عنا، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب فضل ذكر الله ، برقم (5928)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد، برقم (1299).
- أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد، برقم (1299).
- "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص42).
- في "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (2/ 402) بدون نسبةٍ لقائلٍ.
- "تاريخ دمشق" لابن عساكر (53/ 226).
- "تاريخ الإسلام" ت. تدمري (7/ 244).
- "تاريخ الإسلام" ت. تدمري (7/ 244).
- "الداء والدواء = الجواب الكافي" ط. عالم الفوائد (1/ 134).
- "حلية الأولياء" لأبي نُعيم (7/ 17).
- "البداية والنهاية" ط. إحياء التراث (9/ 81).
- أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد، برقم (1299).