إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيُّها الأحبة، في هذه الليلة نشرع في شرح حديثٍ جديدٍ من أحاديث الأذكار، وهو قوله ﷺ مُخاطبًا لأصحابه ولأُمَّتِه من بعدهم: ألا أُنبِّئُكم بخيرِ أعمالِكم، وأزكاها عند مَليكِكم، وأرفعِها في درجاتِكم، وخيرٍ لكم من إنفاقِ الذَّهبِ والوَرِقِ، وخيرٍ لكم من أن تَلْقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم، ويضرِبوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى. قال: ذكرُ اللهِ[1].
فقوله ﷺ: ألا أُنبئكم بخير أعمالكم أي: أُخبركم هذا الخبر الذي له خطبٌ وشأنٌ؛ لأنَّ النَّبأ إنما يُقال للخبر الذي له شأنٌ، ولا يُقال ذلك لكل خبرٍ، فالنَّبأ خبرٌ خاصٌّ، خبرٌ له أهمية، ولما كان هذا الأمرُ بهذه المنزلة، وله هذه الأهمية؛ عبَّر عنه بذلك، فقال: ألا أُنبئكم؟.
وهذا الأسلوب -أيها الأحبة- بهذه الطريقة: ألا أُنبئكم؟ فيه من التَّرغيب والتَّشويق ولفت الانتباه وجذب الأنظار ما لا يخفى: بخير أعمالكم؟ يعني: بأفضل أعمالكم، خير هنا المراد بها التَّفضيل، خير يعني: أخير، وكما سبق في بعض المناسبات أنَّ "خير وشرّ" تأتيان بمعنى: أخير، وأشرّ.
بخير أعمالكم أي: بأخير، بأفضل أعمالكم، وأزكاها عند مليككم أطيب هذه الأعمال عند الله -تبارك وتعالى-، فهو مليكنا : وأرفعها في درجاتكم يعني: الذي يبلغ به العبدُ المراتبَ العاليةَ في سلم العبودية: وخير لكم من إنفاق الذَّهب والورق، وهذا يصدق ما قبله في صدر هذا الحديث: ألا أُنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، فدلَّ على أنَّه أفضل من هذه الأعمال المتعدية: إنفاق الذهب والورق -وهو الفضَّة-، فهذه هي الأموال، أفضل من إنفاق الذَّهب والفضَّة، بل قال: وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، وليس ذلك فحسب، قال: فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم، الله يقول: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111]، فهذا من أجلِّ الأعمال، ومن أفضل الأعمال، فهنا الذكر خيرٌ منه.
فتضربوا أعناقَهم، ويضربوا أعناقَكم يعني: أنَّكم لستُم تُزاولون الجهاد، وتُمارسون هذه العبادة ذات المنزلة العالية؛ بل أيضًا يقع منكم هذا العمل في الجهاد الذي هو من أجلِّ الأعمال وأفضلها: أن تضربوا أعناقَهم، ويضربوا أعناقَكم.
قالوا: بلى. هنا الجواب بـ"بلى" باعتبار أنَّه صدر بقوله: ألا أُنبئكم؟ فالجواب: بلى، هكذا يُجاب على النَّفي، سواء كان ذلك في الخبر، أو كان ذلك في الاستفهام، حينما يقول: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا [الشعراء:18]، قل: بلى. هذا في الاستفهام، وهكذا يكون أيضًا في الخبر.
إذن هنا قالوا: بلى. فقال لهم ﷺ: ذكر الله.
فدلَّ هذا الحديثُ على أفضلية الذكر، وأنَّه يعدل عتق الرِّقاب، ونفقة الأموال، والحمل على الخيل في سبيل الله، ويعدل ضربَ رقاب الأعداء، بل يعدل بذل النفوس في سبيل الله -تبارك وتعالى-: ويضربوا أعناقكم.
النُّصوص التي تدل على تفضيل الذكر على الصَّدقة بالمال وغيره من الأعمال متنوعة، وقد جاء عن السَّلف من الصحابة فمَن بعدهم ما يدلّ أيضًا على هذا المعنى الظَّاهر من الحديث: تفضيل الذكر.
قيل لأبي الدَّرداء : إنَّ رجلاً أعتق مئة نسمة -مئة من المماليك-. قال: إنَّ مئة نسمة من مال رجلٍ كثير. يعني: هذا عملٌ جليلٌ. قال: وأفضل من ذلك إيمانٌ ملزومٌ بالليل والنَّهار -يعني: مُلازمٌ بالليل والنَّهار- وألا يزال لسانُ أحدكم رطبًا من ذكر الله، أفضل من ذلك[2]. يعني: أفضل من إعتاق مئة نسمة.
كان هناك مجلسٌ آخر بعنوان: أيُّكم يعجز عن هذا؟ ذكرتُ فيه أشياء من الأحاديث الصَّحيحة التي هي في مُتناول الجميع، أعمال سهلة، يسيرة، ليس لأحدٍ عذرٌ في التَّخلي عن ذلك كلِّه والقعود عن العمل الصَّالح.
ابن مسعودٍ يقول: "لأن أُسبّح الله تعالى تسبيحات أحبُّ إليَّ من أن أُنفق عددهن دنانير في سبيل الله"[3]، التَّسبيحات أفضل من دنانير، والدَّنانير من الذَّهب.
وجلس عبدُالله بن عمرو بن العاص مع ابن مسعودٍ ، فقال ابنُ مسعودٍ: لأن آخذ في طريقٍ أقول فيه: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أحبُّ إليَّ من أن أُنفق عددهنَّ دنانير في سبيل الله -عزَّ وجلَّ-. فقال عبدُالله بن عمرو -وهؤلاء من علماء الصَّحابة- قال: لأن آخذ في طريقٍ فأقولهنَّ أحبُّ إليَّ من أن أحمل عددهنَّ على الخيل في سبيل الله [4].
هذا يقول: أفضل من إنفاق الدَّنانير. وهذا يقول: أفضل من الحمل على الخيل في سبيل الله -في الجهاد.
هذا كله يُؤكد أنَّ هذا المعنى الظَّاهر للحديث أنَّه مُستوعبٌ عند الصَّحابة على ظاهره هكذا: أنَّ الذكرَ أفضل وأجلّ الأعمال، ولهم في ذلك أقوالٌ، وعنهم مرويات، فإنَّ السلفَ الصالح فهموا هذا المعنى عن رسول الله ﷺ، وهذا لا يعني بحالٍ من الأحوال التَّقليل من شأن الصَّدقة، أو التَّقليل من شأن الجهاد، أو التَّقليل من شأن الأعمال الصَّالحة المتعدية: كعتق الرِّقاب، وما إلى ذلك، وإنما المقصود بيان فضيلة الذكر ومنزلته، وما له من شرفٍ ورتبةٍ عليةٍ عند الله -تبارك وتعالى-.
هذا القدر هو الذي ينبغي أن نفهمه، لا التَّقليل من سائر الأعمال، وجميع الأعمال -كما سبق- جميع الطَّاعات إنما شُرعت لإقامة ذكر الله : الجهاد إنما شُرِعَ لإعلاء كلمة الله، ولإقامة ذكر الله، الحجّ، العمرة، الصَّلاة، الأذان، كل هذا لإقامة ذكر الله -تبارك وتعالى-، وأنَّ المقصودَ بها تحصيل هذا الأمر، وهو ذكره .
ولهذا يقول الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه:14] يعني: لأجل ذكر الله ، وهذا فيه تنبيهٌ على عظم قدر الصَّلاة، هي تضرُّعٌ إلى الله -تبارك وتعالى-: قيامٌ بين يديه، وسؤالٌ له -تبارك وتعالى-، وهي إقامةٌ لذكره، فالصَّلاة هي الذكر، وقد سمَّاها الله -تبارك وتعالى- ذكرًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، فذكر الله -تبارك وتعالى- هنا بعضُهم يقول: الصَّلاة. وبعضهم يقول: الخطبة. وبعضهم يقول: المجموع؛ لأنَّه مأمورٌ بترك البيع والشِّراء وسائر التَّعاملات والاشتغال، فينصرف إلى سماع الخطبة، وحضور الصَّلاة، فلا شكَّ أنَّ الصلاةَ تدخل في ذلك دخولاً أوَّليًّا: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، حضور الصلاة، ويدخل في ذلك أيضًا سماع الخطبة.
وذكر الله -تبارك وتعالى- هو روح الصَّلاة -كما هو معلومٌ-، وهو لبُّها، وحقيقتها، وأعظم الناس أجرًا في الصَّلاة أقواهم وأشدّهم وأكثرهم فيها ذكرًا لله -تبارك وتعالى- وحضورًا للقلب، وهكذا في سائر الطَّاعات التي يتقرَّب بها المتقرِّبون إلى الله -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه.
إذا فهمنا هذا القدر، وتصورنا هذا المعنى، فإنَّ الحافظَ ابنَ القيم -رحمه الله- يزيد هذا الأمر إيضاحًا، فهو يذكر أنَّ أفضل أهل كل عملٍ أكثرهم فيه ذكرًا لله -تبارك وتعالى-، الأعمال: أهل الصيام، أهل الصلاة، أهل الجهاد، أهل الصَّدقة، أهل الحجِّ والعُمرة، وسائر الأعمال الصَّالحة، فأفضل الصُّوَّام أكثرهم ذكرًا لله في صومهم، وأفضل المتصدّقين أكثرهم ذكرًا لله ، وأفضل الحجَّاج أكثرهم ذكرًا لله ، وهكذا سائر الأعمال[5].
إذًا هذا الحديث -أيُّها الأحبة- يدل على أنَّ ذكر الله -تبارك وتعالى- أفضل الأعمال على العموم؛ لأنَّ أفعل التَّفضيل تدل على ذلك، وأنَّه أكثر نماءً وبركةً، وأزكاها، يزكو، ينمو عند الله -تبارك وتعالى-، ومعلومٌ أنَّ الحسنات تنمو عند الله، والصَّدقات تنمو عند الله -تبارك وتعالى-، أكثر الأعمال نماءً هو ذكر الله -تبارك وتعالى-، وأزكاها.
الزكاء يأتي بمعنى: النَّماء، ويأتي بمعنى: التَّطهير، فهنا يكون ناميًا عند الله ، وتتضاعف هذه الحسنات لصاحبها، وهو أرفعها درجةً، وفيه ترغيبٌ بهذا الذكر؛ لأنَّه يدخل تحت كلِّ عملٍ يعمله المكلَّفُ كائنًا مَن كان.
وفيه أيضًا دلالة على كون ذكره -تبارك وتعالى- أفضل من الجهاد، ومن الصَّدقة، هكذا في ظاهره بإطلاقٍ، وتخصيص هذين العملين: الجهاد، والصَّدقة، خصَّهما بالذكر، وإلا فهو أفضل من سائر الأعمال؛ لأنَّه عمَّم أنَّ الذكرَ أفضل الأعمال، ثم ذكر هذين العملين: إنفاق الذَّهب والورق، وأن تلقوا عدوَّكم فتضربوا أعناقَهم، ويضربوا أعناقَكم. هذا زيادة تأكيدٍ لهذا المعنى في فضل الذكر، حينما قال: ألا أُنبئكم بخير أعمالكم، فذكر هذه الأعمال الفاضلة جدًّا، وهي بذل المهج، وبذل الأموال، فهما أحبُّ الأشياء إلى الإنسان، وكما قال الشَّاعر -وإن كان كلامُه في آخره غير صحيحٍ-:
لولا المشقّة ساد الناس كلّهم | الجود يُفقر والإقدام قتَّال[6] |
بذل الأموال، وبذل النفوس، الجود لا يُفقر، ولا يموت أحدٌ إلا بأجله.
لكن أهل العلم أوردوا إشكالاً في هذا الحديث، أوردوا سؤالاً نترك الحديثَ عنه -إن شاء الله تعالى- في الليلة الآتية، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
اللهم اجعل القرآنَ الكريم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكِّرنا منه ما نسينا، وعلِّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النَّهار على الوجه الذي يُرضيك عنا.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمد،ٍ وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب الدَّعوات، باب ما جاء في فضل الذكر، برقم (3377)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح" برقم (2269).
- انظر: "الزهد" للإمام أحمد (112).
- انظر: "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (66).
- أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" برقم (660)، قال الحافظُ ابن حجر: وهذا متَّصلٌ صحيحٌ. انظر: "المطالب العالية" لابن حجر (14/ 123).
- انظر: "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص75).
- انظر: "زهر الآداب وثمر الألباب" للقيرواني (4/ 1046).