إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: ففي هذه الليلة أُواصل الحديثَ في الكلام على قوله ﷺ: مَن تعارَّ من الليل فقال حين يستيقظ: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ربِّ اغفر لي[1]. الحديث.
وقد كان حديثُنا يتَّصل بالجملة الأولى من هذه الكلمات التي يقولها مَن تنبَّه وتعارَّ من نومه، وهي كلمة التوحيد، تكلمنا عن هذه الكلمة، وعن منزلتها، وفضلها، وأنها دالَّة على أنواع التوحيد الثلاثة، وبينا وجه كونها تدلّ على توحيد الإلهية الذي بُعثت الرسل -عليهم الصلاة والسلام- من أجل تقريره والدَّعوة إليه، وأنَّ الخصومةَ كانت في هذا النوع من التوحيد بين الرسل وأعداء الرسل، كما هو معلومٌ.
أُواصل الحديث فأتكلم عن تضمّنها للنوع الآخر من أنواع التوحيد، وهو توحيد الربوبية: هو توحيد الله -تبارك وتعالى- بأفعاله هو. وتوحيد الألوهية أن نُوحّده بأفعالنا نحن: ألا نُصلي إلا لله، ألا نسجد إلا لله، ألا ندعو غير الله، ألا نعبد سوى الله، ألا نذبح لغير الله، ألا نتقرَّب بشيءٍ من العبادات إلا لله -تبارك وتعالى-، أن نُوحّده بأفعالنا نحن التي نقصد بها التَّعبد والتَّقرب.
وأما توحيد الربوبية: بأن نُوحده بأفعاله هو: لا خالق إلا الله، لا نافع، لا ضارَّ، لا مُحيي، لا مُميت، لا مُعطي، لا مانع إلا الله، وما إلى ذلك، فهذا كلّه من توحيد الربوبية.
فهذه الكلمة -كلمة التوحيد- حينما يقول الإنسانُ: "لا إله إلا الله" فهذا يعني: لا معبودَ بحقٍّ إلا الله -كما سبق-، وهو أيضًا مُتضمن لتوحيد الربوبية؛ وذلك أنَّ هذا المألوه الذي لا إله سواه، ولا تُصرف العبادةُ لأحدٍ سوى الله -تبارك وتعالى-، ولا يُعبد غيره، هذا التوحيد يتضمن أنَّه هو الربّ، هو النَّافع، الضَّار، هو المعطي، هو المحيي، هو المميت، هو الخالق، هو الرازق، حينما نقول: "لا إله إلا الله"، ففي ضمن ذلك هذا التوحيد.
التوحيد الآخر الذي هو توحيد الربوبية: أنَّ هذا يتضمن كونه -تبارك وتعالى- هو الذي بيده مقاليد كل شيءٍ، عبدتَه لماذا؟
فهو -تبارك وتعالى- الذي يملك النَّفع والضّر، والمحيي والمميت، والذي أوجدك، هو الذي أعطاك وأولاك، هو الذي يرفع ما بك من الضّر، وهو الذي يُستجلب منه النَّفع، وهو الذي يملك الدنيا والآخرة، فحينما تقول: "لا إله" لا مألوه، لا معبود بحقٍّ إلا الله، فهذا يتضمن أنَّك تُقرّ له بأنَّه الربّ .
وهذه القضية –أعني: الإقرار بأنَّه هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت.. إلى آخره- كان المشركون يُقرُّون بها، كما هو معلومٌ؛ ولذلك فإنَّ القرآنَ كان يُلزمهم بهذا الإقرار بأن يُقرُّوا بالنَّوع الآخر الذي هو توحيد الإلهية؛ ولهذا يُقال: إنَّ العلاقةَ بين النوعين: توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية؛ أنَّ توحيدَ الإلهية يتضمّن توحيدَ الربوبية، وأنَّ توحيدَ الربوبية يستلزم توحيدَ الإلهية، إذا كنتَ تعترف وتُقرّ أنَّه هو الربّ، الخالق، الرازق، المحيي، المميت، المعطي، المانع، إلى آخره، هذا يلزم منه أن تتوجّه إليه وحده دون ما سواه.
إذن ما الحاجة لغيره؟! لماذا يُعبد غيره؟! لماذا يُصرف شيءٌ من العبادة لغير مَن خلق؟!
ولهذا كان الشركُ أظلم الظلم: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؛ لأنَّه صرفٌ للعبادة، صرفٌ للشُّكر لغير مَن أعطى وأولى وخلق، يُعطيك ويُوليك ويُنْعِم ويتفضَّل، ثم تصرف العبادة والشُّكر لغيره؛ هذا أظلم الظُّلم وأشنعه، كما هو معلومٌ.
فتوحيد الربوبية هذا كان المشركون لا يُنكرونه، كانوا يُقرُّون به، فكان القرآنُ يُلزمهم بهذا الإقرار أن يُقرُّوا بتوحيد الإلهية.
إذن هي متضمنة لهذين النوعين من التوحيد، كما أنها تتضمن النوع الثالث؛ وهو توحيد الأسماء والصِّفات: أنَّ الله له الأسماء الحسنى والصِّفات العُلا الكاملة، وأنَّه موصوفٌ بكل كمالٍ، وأنَّه مُستحقٌّ لكل كمالٍ، الكمال المطلَق من كل وجهٍ، فلا يعتريه نقصٌ بوجهٍ من الوجوه، ومن هنا كان هو المستحقّ للإلهية: أن يكون هو الإله؛ لأنَّ الذي يكون إلهًا تألهه القلوب: محبَّةً، وتعظيمًا، وتعبُّدًا، وخوفًا، ورجاءً، هذا ينبغي أن يكون هو الكامل من كلِّ وجهٍ، وحينما يُقال: إنَّه الربّ. يعني: المالك، السيد، المتصرف، الذي يُربي خلقَه بالنِّعَم الظَّاهرة والباطنة، إلى غير ذلك من معاني الربِّ.
فالذي يكون بهذه المثابة: الملك، المالك، المتصرف التَّصرف المطلق، المعطي، المانع، النافع، الضَّار؛ هذا ينبغي أن يكون مُتَّصفًا بجميع صفات الكمال، وبهذا كان ربًّا للعالمين: العالم العلوي، والعالم السُّفلي، لا يُنازعه في هذا أحدٌ -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-.
فحينما نقول: "لا إله إلا الله" فمعنى ذلك أنَّ هذا المألوه له الصِّفات الكاملة، ومن هنا كان الحمدُ من أوله إلى آخره لله : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، فـ(أل) للاستغراق، كل المحامد لله، ولا يمكن أن يُحمد من كل وجهٍ إلا مَن كان كاملاً من كل وجهٍ، والذي يكون كاملاً من كل وجهٍ هو الموصوف بجميع صفات الكمال، المنزَّه عن جميع صفات النَّقص.
هذا كلّه في "لا إله إلا الله"، فحينما ننظر إلى هذه الكلمة بشقّيها: "لا إله" و"إلا الله" فإنها تدل بمنطوقها على التوحيد: أنَّه الواحد، الإله الواحد الذي لا يستحقّ العبادة أحدٌ سواه، وبمفهومها تتضمن إثبات الكمال والتَّنزيه لهذا الإله والربّ عن كل نقصٍ، فحينما تقول: "لا إله" فأنت تنفي جميع الآلهة المدَّعاة من دون الله -تبارك وتعالى-، فكلّها باطلة، فلا شيء منها يُعطي، ولا ينفع، ولا يضرّ، ولا يدفع، ولا يخلق، ولا يرزق، ولا يُحيي، ولا يميت، كل هذه الآلهة الباطلة هي مجرد أوهام، لا تملك لعابديها نفعًا ولا ضرًّا.
إذن حينما نقول: "لا إله" نفينا جميع هذه الصِّفات عن هذه المعبودات، "إلا الله" نُثبت الألوهية لله -تبارك وتعالى-، ويلزم من ذلك أن يكون هو المتَّصف بصفات الكمال، المنزَّه عن كل عيبٍ ونقصٍ.
وبناءً على ذلك فإنَّ هذه الكلمة: "لا إله إلا الله" هي توحيدٌ له في إلهيته، ومفهومها توحيدٌ له بأسمائه وصفاته، وتوحيد الأسماء والصِّفات -كما هو معلومٌ- يقوم على أصلين اثنين:
الأول: الإثبات.
والثاني: التَّنزيه.
أن تُثبت جميع صفات الكمال والأسماء الحسنى التي أثبتها لنفسه، وأن تنفي جميع النَّقائص عن الله -تبارك وتعالى-.
ومن هنا فإنَّ كلمة التوحيد هذه: "لا إله إلا الله" بإثباتها الألوهية يلزم منها هذا وهذا؛ حينما نقول: "إلا الله" نُثبت جميع صفات الكمال التي استحقّ بها أن يكون هو الإله؛ أنَّه هو المعبود الذي يستحقّ الإفراد بالعبادة؛ لما له من صفات الإلهية التي هي صفات الكمال، فلا يستحقّ أن يُعبد إلا مَن كان بهذه المثابة.
فإذا كان الأمرُ كذلك فإنَّ هذا يقتضي أيضًا تنزيهه عن جميع النَّقائص: "لا إله إلا الله"، ومن أعظم هذه النَّقائص: إثبات الشَّريك؛ ولهذا قال الله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 1-3]، فكانت هذه تعدل ثلثَ القرآن[2]، وهي في هذا النوع من التوحيد الذي هو توحيد المعرفة والإثبات، الذي هو التَّوحيد العلمي.
فهذه في صفة المعبود، في صفة الإله : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، فهذا المألوه أحدٌ، صمدٌ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، لا بدَّ من هذا وهذا: النَّفي والإثبات.
ثم قال: له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، فهذه هي براهين التَّوحيد، هي دلائله، فالذي له التوحيد الخالص من كل وجهٍ هو المالك للملك، وتقديم الجار والمجرور في قوله: له الملك، لو قال: الملك له، يحتمل الملك له ولغيره، بخلاف قوله: له الملك، فهذا يُشعر بالحصر، ليس لأحدٍ مُلْكٌ سوى الله -تبارك وتعالى-، وهؤلاء الملوك ملكهم إنما هو ملكٌ ناقصٌ، والله يملكهم وما يملكون، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يهب الملكَ لمن يشاء: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26]، فنواصي الخلق جميعًا بيد الله -تبارك وتعالى-.
فهذا الذي يكون له شيءٌ من الملك في الدنيا ملكه مسبوقٌ بعدمٍ، ويلحقه العدمُ، وهو ملكٌ ناقصٌ؛ لأنَّه لا يقوم إلا بالأعوان، أمَّا ملك الله -تبارك وتعالى- فالله هو الحيّ القيوم، القائم بنفسه، القائم على خلقه بآجالهم، وأعمالهم، وأرزاقهم، لا يحتاج ولا يفتقر في ملكه إلى أحدٍ سواه؛ ولهذا في الآخرة حينما يكون ذلك اليوم الذي لا يدَّعي فيه أحدٌ من الخلق الملك، يقول الله : أنا الملك، أنا الملك، حينما يطوي السَّماوات بيمينه، ويقبض الأرضَ بيده الأخرى، ويهزهنّ، ويقول: أنا الملك، أين الجبَّارون؟ أين المتكبرون؟[3].
والله يقول: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16] في ذلك اليوم، حيث لا يدَّعي الملكَ أحدٌ من الخلق، فيكون الجواب: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16].
هذا الجواب قد يكون من الله، وقد يكون من الملائكة، وقد يكون من الخلائق، وقد يكون الكونُ كلّه يُردده بملائكته وأهل الإيمان وغير أهل الإيمان، الكل يُجيب بصوتٍ واحدٍ: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، كما يقول بعضُ المفسّرين؛ ولهذا قال الله : مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] على القراءتين المتواترتين، خصَّ يوم الدِّين لأسبابٍ منها هذا، وإذا كان مالكًا له -لذلك اليوم الذي لا يدَّعي أحدٌ الملكَ فيه- فهو لما سواه أملك.
الدنيا معبرٌ، ويوم الدِّين يومٌ طويلٌ، يومٌ عظيمٌ، كثير الأهوال والأوجال، والدنيا لا شيءَ، فهو مالكٌ ليوم الدِّين، وهو مالكٌ لغيره، لكن مَن ملك ذلك اليوم فهو لغيره أملك: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.
ومن هنا له الملك والتَّصرف المطلق من غير رجوعٍ إلى أحدٍ، ولا افتقارٍ إلى أحدٍ؛ لأنَّ ملكَه هذا يقتضي الغنى المطلق، والقُدرة، والمشيئة، والإرادة، والعلم، والإحاطة، كل هذه من لوازمه.
فإذا كان له الملك من كل وجهٍ، فإذا كان الملكُ له: فإذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوك لم يضرُّوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك[4]، لماذا؟
لأنَّ الملك لله الواحد القهَّار، الملك لله وحده، التَّصرف له وحده، لا يُنازعه في هذا أحدٌ، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأمَّا أهل الأرض فأين الملوك الذين سادوا وشادوا عبر التاريخ؟ ذهبوا، وبقي اللهُ الحيّ القيوم الذي لا يموت.
فيتوجّه العبدُ بحاجاته وفقره إلى ربِّه وخالقه ، ولا يلتفت إلى المخلوقين، ولا يسأل المخلوقين، ولا يطلب من المخلوقين، وإنما يسأل ربه -تبارك وتعالى-.
وقوله: وله الحمد، الحمد هو الذي تُضاف إليه المحامد، أوصاف الكمال من أوَّلها إلى آخرها تُضاف إلى الله -تبارك وتعالى.
وتقديم الجار والمجرور أيضًا يُفيد الحصر: له الحمد، فهو المحمود في السَّراء والضَّراء، هو الذي يُحمد على كل حالٍ، يُحمد على النِّعمة والعطاء، ويُحمد أيضًا في حال البلاء: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كلَّه له خير[5].
مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا فهذا للمؤمن، إن كان مما يُحبّه أو مما يكرهه هو في رصيده: إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له، فيُحْمَد على هذا وهذا، وتتجلَّى معاني الأسماء والصِّفات، وتظهر حكمته فيما يُقدره في هذا الخلق، ولكن عقولَ البشر القاصرة قد تتقاصر عن بعض ذلك من جهة الحكمة البالغة لله -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-.
له الحمد إذن ينبغي أن تلهج الألسنُ حامدةً لربها وخالقها، ولا داعي لأن يُسخِّر العبدُ لسانَه ومُهجتَه لحمد المخلوقين، لكنَّه يشكرهم على إحسانهم، لا بأس، فإنَّ مَن لم يشكر الناسَ لم يشكر الله، لكن أن يتحوَّل إلى مُسَخَّرٍ لحمد المخلوقين؛ فإنَّ هذا انصرافٌ عن الوجهة الصَّحيحة التي ينبغي أن يتوجّه العبدُ بحمده إليها، الحمد لله: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53]، في كل الحالات هو الملجأ، فيكون العبدُ لاهجًا لسانُه بحمده -تبارك وتعالى-.
وقوله: وهو على كل شيءٍ قدير، قديرٌ على كل شيءٍ، لا يستعصي عليه شيءٌ، فأمره -تبارك وتعالى- إذا أراد شيئًا فإنَّ ذلك يكون بهذه الكلمة؛ أن يقول له: "كن" فيكون، لا يمتنع عليه مرادٌ، أمَّا المخلوق مهما كانت قُدرته وقُوته وجبروته وعظمته وإمكاناته وجنوده فإنَّه يعجز، وينقطع، ويضعف، ويحسب حسابات، ويُقدِّر أمورًا، وقد تضعف إمكاناته عن تحقيق مطالبه، يودّ أن يفعل أشياء، وأن يُحقق أمورًا، ولكنَّه لا يستطيع؛ لأنَّ البشر ضُعفاء، أمَّا الله -تبارك وتعالى- فلا يستعصي عليه شيءٌ: على كل شيءٍ قدير.
زكريا لا يُرزق الأولاد، ورقَّ عظمُه، وشابت مفارقه؛ اشتعل رأسُه شيبًا، فهو مع عُقمه قد شاب، وشابت امرأتُه أيضًا، بلغ من الكِبَر عتيًّا، فدعا ربَّه: لا تذرني فردًا. فجاءت الإجابةُ ورُزِقَ بالولد، لا يمتنع على الله شيءٌ.
وخلق آدم من غير أبٍ ولا أمٍّ، وخلق حواء من غير أمٍّ، خلقها من آدم، ليس لها أمٌّ، وخلق أيضًا عيسى بلا أبٍ، فهو على كل شيءٍ قديرٌ، الذي خلق الإنسانَ من ترابٍ قادرٌ على أن يرزقك الولد، قادرٌ على أن يرزقك المال، قادرٌ على أن يشفيك من المرض مهما قال الأطباء: محال.
وأحد الإخوان يُحدِّثني: أيام الحجِّ ذهب إلى طبيب أسنانٍ في بلادٍ شرقيةٍ، فكان يُجري بعض التَّحاليل الرُّوتينية، فاكتشف أنَّه يُعاني من مرض الإيدز ولم يشعر، والرجل من أهل الصَّلاح والنَّزاهة، وليس مما يترخص في زواجٍ بنية طلاقٍ، ولا بمسيارٍ، ولا بغيره، يقول: فأدركتُ أنَّ هذا ابتلاءٌ من الله ، والله يعلم الحال، فأرادوا أن يُقرروا لي كرسات في العلاج، فرفضتُ. يقول: واكتفيتُ بالدُّعاء. أربعة أشهرٍ يدعو ربَّه، يقول: ثم ذهبتُ وأجريتُ التَّحليلات فلم يجدوا شيئًا، الله على كل شيءٍ قديرٌ.
فهذا هو الذي يستحقّ العبادة: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22].
هذا، وأسأل الله أن ينفعني وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإيَّاكم هُداةً مُهتدين -والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري: كتاب التهجد، باب فضل مَن تعارّ من الليل فصلَّى، برقم (1154)، وأبو داود -واللفظ له-: أبواب النّوم، باب ما يقول الرجلُ إذا تعارَّ من الليل، برقم (5060).
- أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، برقم (811).
- أخرجه مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، برقم (2788).
- أخرجه الترمذي: أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (2516)، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"، وأحمد في "المسند"، برقم (2669)، وقال مُحقِّقوه: "إسناده قويٌّ"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (7957).
- أخرجه مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كلّه خير، برقم (2999).