الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
‏(61) الدعاء لمن لبس ثوبا جديدا " تبلي ويخلف الله تعالى "‏
تاريخ النشر: ٠٢ / صفر / ١٤٣٥
التحميل: 2605
مرات الإستماع: 4601

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

ذكرنا في الليلة الماضية حديثَ أبي سعيدٍ : أنَّ النبي ﷺ كان إذا استجدَّ ثوبًا سمَّاه باسمه: عمامة، أو قميصًا، أو رداءً. ثم يقول: اللهم لك الحمدُ أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صُنِعَ له، وأعوذ بك من شرِّه وشرِّ ما صُنِعَ له[1]، هذا فيما يقوله لابسُ الثوب الجديد.

وأمَّا ما يقوله له غيرُه إذا رأى عليه ثوبًا جديدًا، فيقول له كما جاء بعد هذا الحديث الذي ذكرناه آنفًا في لفظٍ عند أبي داود في آخره: قال أبو نضرة -وهو الرَّاوي عن أبي سعيدٍ-: فكان أصحابُ النبي ﷺ إذا لبس أحدُهم ثوبًا جديدًا قيل له: "تُبْلِي ويُخلف الله تعالى"[2]. فيُدعى له بهذا.

وفي بعض ألفاظه: "يَبْلَى -يعني: الثوب- ويُخلف الله تعالى"[3]، وضبطه بعضُهم: "تَبْلى ويُخلف الله تعالى"، ولكن عند الأكثر: "تُبْلِي ويُخلف الله تعالى"، فهذا دعاءٌ يقوله مَن رأى على غيره ثوبًا جديدًا.

فما معنى: "تُبلي ويُخلف الله تعالى"؟

هذا من باب التَّفاؤل له بطول البقاء والعمر، فيُدعى للابسه بأن يُعمر ويلبس ذلك الثوبَ حتى يبلى ويصير خلقًا باليًا عتيقًا من طول ما لبس، فيكون من باب الدُّعاء له بطول البقاء، وبحصول الخير له؛ لأنَّ المعنى: تُبلي هذا الثوب، ويرزقك اللهُ بعده ثوبًا آخر فتُبليه، وهكذا. وهذا لا يزال مُستعملاً إلى اليوم، فالناس يدعون لمن لبس ثوبًا جديدًا، كالأم تدعو لولدها وصغيرها ولغيره من أولادها، فتقول: تبليه. تدعو له بأن يُبلي هذا الثوب، يعني: أن يلبسه حتى يبلى، لكن هذا الحديث أبلغ: "تُبلي ويُخلف الله تعالى"، ليس ذلك فقط أن يُبلي هذا الثوب، فإنَّه قد يُبليه ثم لا يعيش بعده، أو قد لا يُرزق ما يلبسه، فالدُّعاء هنا أبلغ وأكمل وأوفى وأعمّ وأشمل: تُبلي هذا، ويُخلف اللهُ تعالى، فيرزقك ثوبًا تلبسه، ويرزقك ثيابًا تلبسها بعده، وتُبلي ذلك جميعًا.

فهذا الدُّعاء يشمل ثلاثة أمورٍ: أن يُبلي هذا، وأن يُرزق غير هذا الثوب، وأن يُبلي ثيابًا بعده مما يرزقه الله -تبارك وتعالى-.

وقد يقول قائلٌ: إذا كان هذا يتضمّن الدّعاء له بطول العمر، فمثل هذا هل يكون مُنافيًا لكراهة الدُّعاء بطول العمر من غير تقييدٍ بحُسن العمل؟

وكان الإمامُ أحمد -رحمه الله- يكره أن يُدعى له بطول العمر، ويقول: "هذا أمرٌ قد فُرِغَ منه"[4]، يعني: كان يرى أنَّ ذلك يُقيَّد بالطَّاعة.

وقد سُئل النبيُّ ﷺ: مَن خير الناس؟ قال: مَن طال عمره وحَسُنَ عمله[5].

إذن القضية ليست هي أن يطول عمرُ الإنسان على أي عملٍ، سواء كان عملاً سيِّئًا، أو عملاً صالحًا، لا، وإنما العبرة بطول العمر مع حُسن العمل، وإلا إذا طال العمرُ مع سُوء العمل، فإنَّ ذلك يعني: الإكثار من الأوزار التي يحملها العبدُ على ظهره، ويقدم بها إلى ربِّه -تبارك وتعالى-.

وهذا الذي جاء في أول الحديث من قول الصَّحابة إذا رأوا على أحدٍ ثوبًا جديدًا، لكن المعلوم من حالهم أنَّهم يقصدون مع حُسن العمل، فلو دعا أحدٌ لغيره فقال له: أطال اللهُ بقاءَك، وهو يقصد بذلك على طاعته، ولم يذكر هذا القيد في الدُّعاء، هل يُقال: هذا غير صحيحٍ؟ وهل يكون ذلك معيبًا؟

ظاهر هذا الحديث أنَّ ذلك لا يُعاب إذا كان يقصد حينما يدعو له بطول البقاء أن يكون مع حُسن العمل، لكن كون ذلك يُقيد بحُسن العمل فهذا لا إشكالَ فيه، وإلا فمعلومٌ أنَّ إبليس عمره طويل، وهذا فيه غاية الضَّرر عليه، وليس ذلك بنافعه شيئًا.

فقوله: "تُبلي ويُخلف الله تعالى" يدل على ما يُقال وما يُشرع أن نقوله لمن لبس ثوبًا جديدًا، ندعو له بهذا، وهذا من الآداب الشَّرعية الإسلامية فيما يقوله المسلمُ لأخيه إذا لبس ثوبًا جديدًا، كل شيءٍ يُقال فيه حكم، أو ذكر، أو دعاء، أو نحو ذلك؛ ولهذا فإنَّه قد جاء أيضًا في أحاديث أخرى أنَّ النبي ﷺ قال لأم خالد: أبلي وأخلقي، وهو في البخاري[6]، يدعو لها بطول العمر، يعني: أنَّك تبلين هذه الثِّياب، وتكون عتيقةً، ويكون الثوبُ خلقًا من كثرة ما لُبِسَ، فهذا بمعنى ما ذُكِرَ.

وإذا كان المخاطَبُ مُذكَّرًا فإنَّه يُقال له: أَبْلِ وأَخْلِق، والنبي ﷺ لم يُقيد ذلك بقيد حُسن العمل، أو على طاعةٍ، ونحو ذلك، ففُهِمَ منه أنَّ الدعاء للإنسان بمثل هذا، أو بطول العمر، لا يُشترط فيه أن يُقيد بما ذُكِرَ من حُسن العمل والطَّاعة ونحو هذا إذا كان الذي يدعو يقصد هذا القيد، كما كان حالُ رسول الله ﷺ، وحال الصَّحابة -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم-، فقول النبي ﷺ لأم خالد: أَبْلِي وأَخْلِقِي دعاءٌ لها بطول الحياة، هذا حاصله ومضمونه، كما قال الخليل: "أبلي وأخلق، معناه: عِشْ وخرِّق ثيابَك ورقّعها"[7]، هذا هو المراد، ولا يحصل هذا إلا لمن عاش مدةً طويلةً.

ونصّ حديث أم خالد -رضي الله عنها-، وكانت جاريةً صغيرةً، تقول: أوتي النبيُّ ﷺ بثيابٍ فيها خميصة سوداء صغيرة، فقال: مَن ترون أن نكسو هذه؟ فسكت القومُ، قال: ائتُوني بأمِّ خالد، وهي طفلة صغيرة كُنيت بهذه الكُنية، وكانت قد قدمت من الحبشة، فأُوتي بها تُحْمَل، فأخذ الخميصةَ بيده فألبسها، وقال: أبلي وأخلقي، وكان فيها علمٌ أخضر أو أصفر -خطّ-، فقال النبيُّ ﷺ: يا أم خالد، هذا سناه[8]، يعني: حسن. خاطبها بلغة الحبشة، وهذا يدل على أنَّه لا بأس أن ينطق الإنسانُ بكلمةٍ أعجميَّةٍ أو نحوها على سبيل الممالحة والملاطفة، أو لمن لا يفهم العربية، ونحو ذلك.

تكلّم العلماءُ في جواز التَّكلم بالأعجمية لمن يعرف العربية؛ أن يُخاطب بالأعجمية على سبيل الكلمة واللَّفظة؛ ممالحةً، أو لغرضٍ صحيحٍ، ونحو ذلك، أمَّا أن يفعل ذلك محبَّةً في الأعجميَّة، أو إيثارًا لها عن العربية، أو نحو هذا، فهذا لا شكَّ أنَّه مذمومٌ، والله تعالى أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود: كتاب اللباس، برقم (3504)، والترمذي: كتاب اللباس، باب ما يقول إذا لبس ثوبًا جديدًا، برقم (1689)، وصححه الألباني.
  2. أخرجه أبو داود: كتاب اللباس، برقم (3504)، وصححه الألباني.
  3. "شعب الإيمان" برقم (58719).
  4. "شرح الطحاوية" ط. الأوقاف السُّعودية (ص101).
  5. أخرجه الترمذي: كتاب الزهد، باب ما جاء في طول العمر للمؤمن، برقم (2251)، وصححه الألباني.
  6. أخرجه البخاري: كتاب اللباس، باب الخميصة السَّوداء، برقم (5375).
  7. "فتح الباري" لابن حجر (10/280).
  8. أخرجه البخاري: كتاب اللباس، باب الخميصة السَّوداء، برقم (5375).

مواد ذات صلة