إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
في هذه الليلة أختم -إن شاء الله- الحديثَ عمَّا يتَّصل بالبسملة؛ وذلك من جهة مَن تركها عامدًا أو ناسيًا.
وقد عرفنا من قبل أقوال أهل العلم في التَّسمية على الوضوء، فمن قائلٍ بأنها واجبة، ومن قائلٍ بأنها مُستحبَّة، لا تجب، ومن قائلٍ بأنها مُباحة، ومن قائلٍ بأنها ممنوعة، يعني: من قبيل البدع الإضافية، باعتبار أنَّ الحديثَ لا يثبت.
إذا ترك التَّسمية فماذا عليه؟ هل تصحّ طهارته أو لا تصحّ؟ وهل يمكن أن يستدرك ذلك أو لا يمكن؟
من أهل العلم، لا سيما القائلين بأنَّها مُستحبَّة، ومن باب أولى مَن قال بأنها مُباحة، أي: مُستوية الطَّرفين، يقولون: إذا تركها عامدًا أو ناسيًا فإنَّ طهارته صحيحة، ولا شيء عليه. وهذا قول الأكثر.
أمَّا الذين قالوا بأنها سُنَّة، أو بأنها مُباحة، فإنَّ مَن تركها عمدًا أو نسيانًا فلا شيء عليه عندهم جميعًا، ولكن الذين قالوا بأنها واجبة، يقول الأكثرون بأنَّه إن ترك ذلك سهوًا ونسيانًا فإنَّه يسقط عنه؛ لأنَّ الله علَّمنا أن نقول: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، وفي الحديث القدسي: أنَّ الله قال: قد فعلتُ[1]، فهنا يكون وضوؤه صحيحًا، لكن هل يُسنّ له أن يستدرك إذا تذكّر في أثنائها؟ يعني: إذا تذكّر في مُنتصف الوضوء، أو تذكّر قبل الفراغ من الوضوء، فهل له أن يقول: بسم الله؟ لأنَّه جاء في الحديث -على فرض صحّته-: ... ولا وضوءَ لمن لم يذكر اسمَ الله عليه[2]، فهذا يكون قد ذكر اسمَ الله عليه، ولو في أثنائه، هذا من جهةٍ.
ومن جهةٍ أخرى فإنَّ هذا الذي قال: "بسم الله" في أثناء الوضوء يكون قد سمَّى على بعضه؛ وذلك خيرٌ من التَّرك. وهذا مذهب الشَّافعية[3]، وهو رواية عند الحنابلة[4].
الإمام الشَّافعي -رحمه الله- يقول: "فإن سها عنها سمَّى متى ذكر، إن ذكر قبل أن يكمل الوضوء"[5]، يعني: لو لم يبقَ له إلا رجل واحدة، يقول الشافعي: "وإن ترك التَّسمية ناسيًا أو عامدًا لم يفسد وضوؤه -إن شاء الله تعالى-"[6].
وذكر ابنُ قُدامة -رحمه الله-: "ظاهر مذهب أحمد أنَّ التَّسمية مسنونةٌ في طهارة الأحداث كلّها"[7]، يعني: الوضوء، والغُسل من الجنابة، والغُسل من الحيض، وفي جميع الطَّهارات.
ويقول الخلَّالُ بأنَّ الذي استقرَّت عليه الرِّوايات عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنَّه لا بأس به[8]، يعني: إذا ترك التَّسمية، سواء كان ذلك عمدًا أو نسيانًا.
هذا هو القول الأول: أنَّه لا شيءَ عليه، زائد أنَّه يُمكنه أن يستدرك إذا تذكّر في أثناء الوضوء، ولا يحتاج إلى أن يرجع من جديدٍ، فضلاً عن أن يُقال: إنَّ وضوءه يبطل إذا تذكّر في أثنائه، باعتبار أنَّه استحضر واجبًا من واجبات الطَّهارة أثناء القيام بها.
القول الآخر أيضًا يقولون: إن نسيها فلا شيءَ عليه، لكن إن تذكّر في أثناء الوضوء فإنَّه لا يأتي بها، وأنَّ ذلك لا ينفعه، باعتبار أنَّ الوضوء وحدةٌ واحدةٌ، يرتبط أولُه بآخره، فلا ينفك جزءٌ من أجزائه وينفصل على سبيل الاستقلال، فإذا سمَّى على بعضه، وترك التَّسمية على بعضٍ؛ فإنَّ ذلك لا يكون كالأكل، حينما يقول الإنسانُ مثلاً إذا نسي، فإنَّه يقول: "بسم الله في أوله وآخره"، يقولون: لأنَّ كلَّ أكلةٍ تُشرع التَّسميةُ عليها، فإذا سمَّى حينما يتذكّر فإنَّ ذلك يجري على ما بقي له من الأكل. هكذا قالوا، مع وجود الفارق من الجهتين.
الواقع أنَّ الوضوء ليس كالأكل، ولا يُقاس عليه، والأكل ورد فيه الحديث، ومثل هذه الأمور لا يجري فيها القياسُ.
ثم أيضًا حينما يقول ذلك المسمِّي على الأكل فإنَّه يحرم الشيطانَ من الاستمتاع بأوَّله وآخره، أو الانتفاع بذلك، لكن الطَّهارة هذه تحتاج إلى دليلٍ، ولكن لهم أن يقولوا: إنَّ ظاهرَ قوله: ولا وضوءَ لمن لم يذكر اسمَ الله عليه، فإنَّ ذلك يتأتَّى ولو في أثنائه، فيصحّ أنَّه ذكر اسم الله على هذا الوضوء، وأنَّ ذلك ليس من لازمه أن يكون في ابتدائه وأوَّله.
على كل حالٍ، هذا القول بأنَّه لا شيء عليه، ولكن لا يمكنه الاستدراك إذا تذكّر، هو قول الحنفيَّة[9].
القول الثالث، وهو لا يخلو من غرابةٍ، وهو قول المالكيَّة: أنَّه لا شيء عليه إذا نسي، ولكن إذا تذكَّر في أثناء الوضوء فإنَّه يقول: "بسم الله في أوَّله وآخره"، كما يقول على الطَّهارة. كأنَّهم قاسوا هذا على هذا، وهذا القياس فيه نظرٌ، والله تعالى أعلم.
القول الرابع: أنَّه لا يترك التَّسمية عمومًا، باعتبار أنها واجبةٌ، فإن تركها عمدًا لم يصحّ.
الآن المذاهب الثلاثة التي ذكرتُها آنفًا: أنَّه لو تركها عمدًا أو سهوًا لا شيء عليه.
القول الخامس: أنَّه إن تركها عمدًا فإنَّ وضوءه يبطل، وإن تركها سهوًا فإنَّ الطَّهارة تكون صحيحةً. وهذه إحدى الرِّوايات عن الإمام أحمد -رحمه الله-[10]، هكذا قالوا.
وقد ذكرتُ في الليلة الماضية أنَّ الأولى والأحوط والاحتياط هنا -كما قلنا- لا يتأتَّى في مثل هذه المسألة، ولكن عند التَّأمل يمكن أن يكون هذا الاحتياطُ من قبيل ارتكاب أخفِّ الضَّررين، يعني: فرقٌ بين أن يُقال: الوضوء باطل، أو أن يُقال بأنَّ ذلك غير مشروعٍ.
ومعلومٌ أنَّ تركَ جنس المأمور أعظم من ارتكاب المحذور، وإبليس لما امتنع من السّجود طُرِد ولُعِن، وآدم لما أكل من الشَّجرة تاب اللهُ عليه.
وأبو عبيد القاسم بن سلَّام -رحمه الله-، المتوفّى سنة مئتين وأربعةٍ وعشرين، وهو إمامٌ -كما قلتُ في بعض المناسبات- في الفقه والحديث والقراءات واللُّغة، يقول: أنا لا أرى لبشرٍ أن يدع ذكرَ الله تعالى عند طهوره. يعني: الوضوء والغُسل من الجنابة، الغُسل لم يرد فيه ذلك، لكنَّهم قالوا: هي طهارةٌ، والوضوء داخلٌ في ضمنها أيضًا. هكذا قاسوه، أو اعتبروه داخلاً في ضمنه.
يقول: أنا لا أرى لبشرٍ أن يدع ذكرَ الله تعالى عند طهوره، وإني ما تركتُه ساهيًا حتى يمضي بعضُ وضوئي فأُعيده من أوَّله بالتَّسمية[11].
يعني: أبو عبيدٍ يقول: لا يصحّ أن يقول في أثنائه، ولكن يرجع من جديدٍ ويُسمِّي إذا نسي، يقول: وهذا اختيارٌ مني لنفسي، آخذها به، وأراه لمن قِبَل نفسي -من قِبَل رأيي- من غير أن أُوجبه، ولا أُفسد بتركه صلاةَ مَن صلَّى ولا طهوره[12].
يقول: هذا الشَّيء أنا أختاره لنفسي، وأعمل به لنفسي، ولكني لا أحكم على طهارة الآخرين، ولا على صلاة الآخرين لو أنَّهم تركوا التَّسمية. لكن يقول: أنا لا أتركها. هذا أولاً، وثانيًا: إذا نسيتُ وتذكّرتُ في أثنائها أرجع وأتوضّأ من جديدٍ، باعتبار أنَّه لا يرى أنَّ ذكرَها في أثنائه مُجديًا.
وقد سُئل سماحةُ الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- عن حكم مَن ترك التَّسمية في الوضوء ناسيًا، فكان مما ذكر: أنَّ الجمهورَ ذهبوا إلى صحّة الوضوء بدون تسميةٍ، قال: وذهب بعضُ أهل العلم إلى وجوب التَّسمية مع العلم والذِّكْر[13]. يعني: الجاهل لا يُؤاخذ، الذي تركها جهلاً، ما كان يدري، وكذلك أيضًا مَن تركها ناسيًا، وذكر الحديث: لا وضوءَ ...، قال: لكن مَن تركها ناسيًا أو جاهلاً فوضوؤه صحيحٌ، وليس عليه إعادته، ولو قلنا: بوجوب التَّسمية؛ لأنَّه معذورٌ بالجهل والنِّسيان، والحجّة في ذلك قوله تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286][14]. وذكر الحديث: قال الله: قد فعلتُ[15].
يقول: وبذلك تعلم أنَّك إذا نسيتَ التَّسمية في أول الوضوء، ثم ذكرتها في أثنائه، فإنَّك تُسمِّي، وليس عليك أن تُعيد -يعني: هذا الوضوء- لأنَّك معذورٌ بالنِّسيان.
هذا آخر الكلام على التَّسمية.
وأسأل الله لي ولكم علمًا نافعًا.
- أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة:284]، برقم (126).
- أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة، بابٌ في التسمية على الوضوء، برقم (101)، وابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في التَّسمية في الوضوء، برقم (398)، وأحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (9418)، وصححه الألباني.
- "العزيز شرح الوجيز" المعروف بـ"الشرح الكبير" ط. العلمية (1/122).
- "المغني" لابن قدامة (1/77).
- "المجموع شرح المهذب" (1/344).
- "الأم" للشافعي (1/47).
- "المغني" لابن قدامة (1/76).
- "الشرح الكبير" لابن قدامة (1/111).
- "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" موقع الإسلام (1/64)، وعبارته: "ولو نسي التَّسمية في ابتداء الوضوء ثم ذكرها في خلاله فسمَّى لا تحصل السّنة، بخلاف نحوه في الأكل".
- "المغني" (1/115).
- "شرح ابن ماجه" لمغلطاي (ص258).
- "شرح ابن ماجه" لمغلطاي (ص258).
- "مجموع فتاوى ابن باز" (10/100).
- "مجموع فتاوى ابن باز" (10/100).
- أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة:284]، برقم (126).