الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
في هذه الليلة -أيّها الأحبة- نتحدَّث عن الذكر بعد الفراغ من الوضوء.
وقد أورد المؤلفُ حديثَ عقبة بن عامر ؛ وذلك أنَّه قال: كانت علينا رعايةُ الإبل، فجاءت نوبتي، فروَّحتُها بعشيٍّ، فأدركتُ رسولَ الله ﷺ قائمًا يُحدِّث الناس، فأدركتُ من قوله: ما من مُسلمٍ يتوضَّأ فيُحْسِن وضوءه، ثم يقوم فيُصلِّي ركعتين، مُقبلٌ عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنَّة، قال: فقلتُ: ما أجود هذه! فإذا قائلٌ بين يدي يقول: التي قبلها أجود. فنظرتُ فإذا عمر، قال: إني قد رأيتُك جئتَ آنفًا، قال: ما منكم من أحدٍ يتوضَّأ فيُبلغ، أو فيُسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، إلا فُتحت له أبوابُ الجنَّة الثَّمانية، يدخل من أيِّها شاء[1]. رواه مسلم.
فقوله ﷺ: ما منكم من أحدٍ يتوضّأ فيُبلغ، أو فيُسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، إلا فُتحت له أبوابُ الجنة الثَّمانية، يدخل من أيِّها شاء، هذا مع ما سبق من قوله ﷺ: ما من مُسلمٍ يتوضَّأ فيُحسِن وضوءه، ثم يقوم فيُصلِّي ركعتين، مُقبلٌ عليهما بقلبه ووجهه، "مُقْبِلٌ عليهما" أي: هو مُقبلٌ، فجمع بين كونه قد أقبل عليهما بقلبه ووجهه، أي: أنَّه جمع أنواع الخضوع والخشوع؛ لأنَّ الخضوعَ في الأعضاء، والخشوع بالقلب، ويظهر أثره على الأعضاء.
فهنا: مُقبِلٌ عليهما بقلبه، هذا هو الخشوع، يعني: أنَّ قلبَه لا ينصرف إلى شيءٍ آخر، ولا يشتغل به، ويُقبِل عليهما بوجهه، بمعنى: أنَّه يخضع في جوارحه، وليس له انصرافٌ والتفاتٌ عن هذه الصَّلاة.
فعقبة بن عامر لما سمع هذا؛ لأنَّه جاء مُتأخِّرًا، فأدرك هذا من قول النبي ﷺ، فقال مُستحسنًا له: ما أجودَ هذه! يعني: هذه الكلمة، أو هذه البِشارة، أو هذه الفائدة، أو هذه العبادة، فهذا أمرٌ سهلٌ يسيرٌ، ورُتِّب عليه هذا الأجر الكبير، وهو وجوب الجنَّةِ له -عمل كهذا- فقال عمرُ : التي قبلها أجود. فذكر له موضع الشَّاهد: ما منكم من أحدٍ يتوضّأ فيُبلغ، أو فيُسبغ يعني: يُكمِل ويتمّ الوضوء، فيُبلغ من الإبلاغ، ويُسبِغ من الإسباغ، فجاء هنا في الرِّواية بـ(أو)، وهذا للشَّك غالبًا، بمعنى: أنَّ النبي ﷺ قال: فيُبلغ، أو قال: فيُسبِغ الوضوء.
ومعنى ذلك: أنَّه يُكمله ويُتمّه ويُوصِل الماء إلى المواضع التي يجب إيصالُه إليها على التَّمام والكمال، من غير إخلالٍ به، وهذا يقتضي أنَّه يُحقق القدرَ الواجبَ في الوضوء، وتحقيق القدر المستحبّ يكون أكمل وأوفى وأتمّ، لكن ذلك لا يتحقق لمن نقص عن القدر الواجب.
يُبلغ، أو فيُسبِغ الوضوء الوضوء هنا يحتمل أن يكون بالفتح: الوَضوء، يعني: الماء الذي يتوضّأ به أن يُوصله إلى الأماكن التي يجب إيصالُه إليها، مثلما يُقال: السَّحور: هو الشَّيء الذي يُؤكل في الوقت المعروف، والفَطور: هو الشَّيء الذي يُؤكل، يعني: ما يُفطِر عليه الإنسان، والسُّحور –بالضمِّ- يعني: هو نفس الأكل (الفعل)، لا المأكول، والفُطور هو الفعل، حينما يُفطِر الإنسان، وهكذا أيضًا: الوُضوء والوَضوء، فالوَضوء: هو الماء، والوُضوء: هو الفعل والعملية.
فهنا يحتمل أن يكون: فيُسبِغ الوضوء بمعنى: أنَّه يُوصِل الماءَ إلى المواضع التي يجب إيصالُه إليها، من غير إخلالٍ، ولا نقصٍ.
والإنسان قد يُخلّ: إمَّا للعجلة، وإمَّا لقلّة الاكتراث، وقد يُخلّ لشدة البرد، وقد يُخلّ لقلّة الماء، وقد يُخلّ لكون الماء حارًّا أحيانًا، فيصعب عليه أن يتوضّأ به.
ويحتمل أن يكون بالضمِّ: فيُسبِغ الوضوء يعني: أنَّه يأتي بالوضوء بهذا الفعل على وجه التَّمام والكمال، وبين المعنيين مُلازمة، فإذا حقق هذا يكون ذلك قد تحقق، والعكس.
فإذا كان كذلك: أسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التَّوابين، واجعلني من المتطهِّرين، فيكون الجزاءُ: إلا فُتِحت له أبوابُ الجنة الثَّمانية، يدخل من أيِّها شاء، فالجنة لها ثمانية أبواب، كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ في عددٍ من الأحاديث.
وهنا (أل) للعهد، أي: أبواب الجنة الثَّمانية المعهودة التي لا أبوابَ للجنة سواها، وكما هو معلومٌ ذكر النبيُّ ﷺ البابَ الأيمن من الجنَّة، وذكر أنَّ ما بين مصراعي الباب -كما في حديث عتبة بن غزوان- مسيرة أربعين عامًا[2].
وذكر أيضًا ﷺ: إنَّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنَّة لكما بين مكّة وهجر، أو كما بين مكّة وبُصرى[3]، وقد مضى الكلامُ على هذا في مجلسٍ آخر يتعلَّق بالحياة الحقيقيَّة.
فالمقصود -أيّها الأحبة- أنَّ للجنة أبوابًا: بابٌ للصَّائمين يُقال له: الرَّيان، وبابٌ للصَّدقة، وهكذا، فهنا ذكر النبيُّ ﷺ أنَّ أبوابَ الجنَّة جميعًا تُفْتَح له، وهذا العمل الذي عمله هو عملٌ يسيرٌ، لا يُكلِّفه شيئًا بحالٍ من الأحوال، وقد جاء ذلك في عددٍ من الأحاديث والرِّوايات: مَن توضَّأ فأحسن الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التَّوابين، واجعلني من المتطهرين، فُتحت له ثمانيةُ أبوابٍ من الجنَّة، يدخل من أيّها شاء[4]، هذا من حديث عمر ، وقد صحح إسنادَه جماعةٌ من أهل العلم: كابن الملقن، وابن القيم، والشيخ أحمد شاكر، والشيخ ناصر الدين الألباني -رحم الله الجميع-.
فهذه الزيادة: اللهم اجعلني من التَّوابين، واجعلني من المتطهرين ثابتةٌ، فيذكر الشَّهادتين، ويذكر أيضًا هذا معه، يأتي بكلمة التوحيد، ويأتي أيضًا بهذا الدُّعاء: اللهم اجعلني من التَّوابين، واجعلني من المتطهرين.
اجعلني من التَّوابين يعني: من الذُّنوب، ومن التَّقصير في حقِّك، واجعلني من الرَّجَّاعين عن النَّقائص والعيوب، فتوَّاب: فَعَّال، صيغة مُبالغة، تدل على الكثرة؛ وذلك أنَّه يسأل ربَّه أن يُخلصه من تبعات الذنوب ولواحقها، وأن لا يُؤاخذه على ذلك، فالخلاص من تبعات الذّنوب عن التَّلوث بالسّيئات أيضًا اللَّاحقة، أو من المتطهرين من الأخلاق الذَّميمة.
واجعلني من المتطهرين من كل دنسٍ، فهنا أطلق، ولم يُقيد ذلك بنوعٍ منه، واجعلني من التَّوابين كثير التوبة، واجعلني من المتطهرين، فالتَّطهر يحصل بالخلاص من آثار الذنوب، ويحصل أيضًا بالخلاص من كلِّ ما يُدنس الدِّين والخُلُق والعرض، وما إلى ذلك، فكل هذا داخلٌ فيه، فتكون فيه إشارة إلى أنَّ طهارةَ الأعضاء الظَّاهرة لما تحققت بهذه الطَّهارة بالماء قرنه بالطَّهارة الأخرى: طهارة الباطن، فيكون قد جمع بين الأمرين، أو طلب تحصيل الفضيلتين: طهارة الظاهر، وطهارة الباطن.
اجعلني من التَّوابين كثير التَّوبة، هل هذا يعني: لأنَّه كثير الذُّنوب مثلاً؟
لا يقتضي ذلك بالضَّرورة، ولكن الإنسان يُكثِر من الرجوع إلى الله، ومن التوبة دائمًا، حتى بعد فعل الحسنات، والعبد لا يخلو من تقصيرٍ، فهذا التَّكرار الكثير للتوبة يجعله توَّابًا، ومن ثَمَّ فإنَّ العبدَ يحتاج إلى أن يستحضر هذا المعنى، فيكون كثير التَّوبة إلى الله -تبارك وتعالى-، ولا يلزم من ذلك أن يكون قد واقع ذنبًا.
يقول الصَّنعاني -رحمه الله- بأنَّه جمع بينهما ائتمامًا بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222][5]، وذلك أنَّ التوبةَ طهارةُ الباطن من أدران الذُّنوب، والوضوء طهارة الظَّاهر عن الأحداث المانعة من التَّقرب إليه -تبارك وتعالى-، فناسب الجمع بينهما بأن يُحصل الطَّهارتين، فطلب من الله -تبارك وتعالى- هذا ليكون محبوبًا لربِّه : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، فهذا يدعو: اللهم اجعلني من التَّوابين، واجعلني من المتطهرين.
ولاحظ هنا قدَّم التَّوبة: اجعلني من التَّوابين على طهارة البدن، لماذا؟
يمكن أن يُقال: لأنَّها الأهمّ، فالتَّوبة أهمّ من طهارة البدن؛ لأنَّه إن لم يجد الماءَ تيمم، فإن لم يجد ما يتيمم به فإنَّه يُصلِّي على حاله، وهو غير مُؤاخذٍ، لكن التَّوبة لا بدَّ للعبد منها على كل حالٍ، ولا يخفى أنَّ تطهير النَّفس وتطهير السَّرائر والبواطن أولى من تطهير الظَّواهر والعلانيّة.
الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يُشير إلى أنَّه كان من هديه ﷺ إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا[6]، لاحظ: بعد طاعةٍ، وهنا بعد عبادةٍ وهي الوضوء، يقول: اللهم اجعلني من التَّوابين، واجعلني من المتطهرين، فدلَّ على أنَّ التوبةَ مشروعةٌ عُقيب الأعمال الصَّالحة، يعني: ليس فقط بعد الذنوب والمعاصي، بل حتى بعد العمل الصَّالح، فإذا كان الإنسانُ يتوب بعد العمل الصَّالح، ويستغفر بعد صلاته، فكذلك أيضًا من باب أولى أن يكون بعد الذُّنوب.
والله أمر نبيَّه ﷺ بالاستغفار عقيب ما وفَّى ما عليه من البلاغ للرِّسالة والجهاد في سبيله؛ لما دخل الناسُ أفواجًا، فانتهت مهمَّته ﷺ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر].
فبعد مسيرةٍ طويلةٍ في الحياة، ومسيرةٍ طويلةٍ في الدَّعوة، وفي تحمّل أعبائها، والصَّبر على لأوائها وأذى الناس، وفي هذا الختام يأمره بأن يُسبِّح بحمد ربِّه، فكان النبيُّ ﷺ يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي[7]، يُكْثِر أن يقول ذلك في ركوعه وسجوده، كما في حديث عائشةَ -رضي الله تعالى عنها-، فهذا التَّبليغ للرِّسالة عبادةٌ من أجلِّ العبادات، فشُرع له الاستغفارُ بعدها.
وهكذا أيضًا الدُّخول في الصَّلاة موقوفٌ على الطَّهارة المعروفة، فلا يدخل المصلِّي حتى يتطهر، فلا يُناجي ربَّه بهذه الصَّلاة ولا يقف بين يديه إلا مُتطهرًا.
يقول الحافظُ ابن القيم: وكذلك جعل الدّخول إلى جنَّته موقوفًا على الطّيب والطَّهارة، فلا يدخلها إلا طيّبٌ طاهرٌ، فهما طهارتان: طهارة البدن، وطهارة القلب؛ ولهذا شُرِع للمُتوضِّئ أن يقول عقيب وضوئه: أشهد أن لا إله إلا الله ... إلى آخره، فطهارة القلب بالتَّوبة، وطهارة البدن بالماء، فلما اجتمع له الطُّهران صلُح للدُّخول على الله تعالى، والوقوف بين يديه، ومُناجاته[8].
هذا وجه الارتباط والمناسبة أن ذلك يُقال بعد الوضوء؛ ليجمع بين الطَّهارتين، فيكون مُتهيئًا لمناجاة الله ، طاهرًا الطَّهارتين: الحسيّة والمعنويّة.
وذكر ابنُ القيم -رحمه الله- أربعة أمورٍ في هذا المقام: ذكر اثنين حسيين، واثنين معنويين[9]، فالنَّجاسة التي تزول بالماء هي ومُزيلها الذي هو الماء حسيّان، وأثر الخطايا التي تزول بالتوبة والاستغفار، هذان مُزيلان معنويّان، وما يُزال بهما أمرٌ معنويٌّ، الذي هو الخطايا والذُّنوب.
يقول: وصلاح القلب وحياته ونعيمه لا يتمّ إلا بهذا وهذا: الطَّهارة الحسيَّة، والطَّهارة المعنويَّة، فذكر النبيُّ ﷺ من كلِّ شطرٍ قسمًا، نبَّه به على القسم الآخر، فتضمّن كلامُه الأقسام الأربعة في غاية الاختصار، وحُسْن البيان[10].
فـاللهم اجعلني من التَّوابين هذا مُزيلٌ للأدناس المعنوية، واجعلني من المتطهرين هذا يكون بالـمُطهر الذي هو الماء مثلاً، وما يُتطهر منه بالماء، وهو الحدث، فصارت هذه الأمور الأربعة في هذا المقام.
بقيت في الكلام بقيَّةٌ، أتوقف عند هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإيَّاكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم: كتاب الطَّهارة، باب الذكر المستحبّ عقب الوضوء، برقم (345).
- أخرجه النَّسائي في "السنن الكبرى": كتاب الرقائق، برقم (11790)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (5590).
- أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنَّة منزلةً فيها، برقم (194).
- أخرجه الترمذي: أبواب الطَّهارة، باب ما يُقال بعد الوضوء، برقم (55)، وصححه الألباني.
- "سبل السلام" (1/80).
- "إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين" (1/267).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب الدُّعاء في الركوع، برقم (752)، ومسلم: كتاب الصَّلاة، باب ما يُقال في الركوع والسجود، برقم (746).
- "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" ط. المعرفة (1/56).
- "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" ط. المعرفة (1/56).
- "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" ط. المعرفة (1/57).