الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- أختم الكلامَ على الأذكار الواردة في السُّجود، فآخر ما ذكره المؤلفُ هو ما جاء من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: فقدتُ رسولَ الله ﷺ ليلةً من الفراش، فالتمستُه فوقعتْ يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمُعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك[1]، هذا الحديث أخرجه الإمامُ مسلمٌ -رحمه الله- في "صحيحه".
فقولها -رضي الله تعالى عنها-: "فقدتُ رسولَ الله ﷺ" يعني: أنها لم تجده في فراشه، طلبتُه فما وجدته، يعني: أنها استيقظت فلم تجده في موضعه وفي فراشه -عليه الصلاة والسلام-.
تقول: "فالتمستُه"، يعني: طلبته بيدها، هذا ظاهره؛ لأنَّ الالتماسَ يكون كذلك، وهذا نظرًا لكون ذلك وقع ليلاً، فالظَّلام لا يمكن الإبصارُ معه، فكانت تلتمسه بيدها، أي: طلبته بيدها.
تقول: "فوقعتْ يدي" بالإفراد "على بطن قدميه" يعني: وهو ساجدٌ -عليه الصَّلاة والسلام-، "وهما منصوبتان" على بطن قدميه، وهذا يُشعر بأنَّ النبي ﷺ كان قد ضمَّ قدميه، كما هي السُّنة في السجود، فإنَّ السُّنة في السُّجود أن ينصب قدميه، وأن يضمَّ القدمين، يعني: لا يُفرِّق بين قدميه، وإنما السُّنة أن يضمَّهما، وهذا من الأدلة التي يُستدلّ بها على هذا، وهناك ما يدلّ عليه سواه.
وأيضًا يُؤخَذ منه: أنَّ لمسَ المرأة لا ينقض الوضوء، وقوله -تبارك وتعالى-: أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]، فإنَّ المقصود به الجماع، فإنَّه يُقال له: مسٌّ، أمَّا اللمس المجرد فإنَّ هذا لا ينقض الوضوء، والراجح: أنَّه لا ينقض، سواء كان لشهوةٍ، أو لغير شهوةٍ، وكذلك القُبْلة فإنَّها لا تنقض الوضوء.
فهنا لمسَتِ النبيَّ ﷺ، وقعت يدُها على باطن قدمه، أو على باطن قدميه، ولم يقطع النبيُّ ﷺ صلاته.
"وهو في المسجد" ضبط بعضُهم (المسجد) بالكسر، وهذا يحتمل معنيين:
الأول: أن يكون الموضعُ الذي يُصلي فيه من حُجرته، فهي في الحجرة تلتمسه، وهو في مسجده في حُجرته، يعني: الموضع الذي خصَّه للصَّلاة في الحجرة، يُصلي فيه النَّافلة.
الاحتمال الثاني: أن تُحمل (أل) على ظاهرها، وهو العهد الذِّهني، والمعهود في الأذهان المتبادر أنَّ المسجد هو مسجد رسول الله ﷺ، وكان لاصقًا بالحجرة، فيكون "وهو في المسجِد" يعني: في مسجده -عليه الصلاة والسلام-.
وضبطه بعضُهم بالفتح (المسجَد)، هكذا ضبطه بعضُ أهل العلم، يعني: وهو في السُّجود، فوقعت يدُها على باطن قدميه.
وكذلك أيضًا بالفتح (المسجَد) فسَّره بعضُهم بالموضع الذي كان يُصلي فيه في حُجرته.
تقول: "وهما منصوبتان"، أي: قائمتان، ثابتتان، يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، يعني: يا الله، إني أعوذ، و(إن) هذه تدلّ على التوكيد، فهي بمنزلة إعادة الجملة مرتين.
وبمُعافاتك من عُقوبتك، أعوذ وعرفنا أنَّ الاستعاذة والعوذ بمعنى: الالتجاء، يعني: ألتجئ بك، وأنَّ أصل هذه المادة (عاذ)، بمعنى: لزم والتجأ، كما يقول بعضُ أهل العلم.
فاستعاذ النبيُّ ﷺ بهذه الصِّفات: الرِّضا، والمعافاة، فإنَّ الرِّضا صفةٌ ثابتةٌ لله -تبارك وتعالى- على ما يليق بجلاله وعظمته، كما دلَّت على ذلك النصوص: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119]، وكذلك أيضًا هذا الحديث، إلى غير ذلك من الأدلة المعروفة، فهي صفةٌ ثابتةٌ، أثبتها أهلُ السُّنة والجماعة.
وكذلك أيضًا العفو والمعافاة، فإنَّ من أسمائه -تبارك وتعالى- العفو، وهو مُتضمّن لصفة العفو.
وبمُعافاتك والصِّفة تصحّ الاستعاذةُ بها، سواء كانت هذه الصِّفة من الصِّفات المعنوية: كالاستعاذة بالرِّضا، أو الاستعاذة بالمعافاة، أو العفو، أو كانت هذه الصِّفة غير معنوية، مثل: أعوذ بوجهك، فهذا كلّه لا إشكالَ فيه.
ولكن الذي لا يصحّ هو دعاء الصِّفة، يعني لا يقل: يا عفو الله، يا رضا الله، ارضَ عني، مثلاً: يا رحمة الله، ارحميني، يا عزَّة الله، يا قوَّة الله، انصريني، وإنما يقول: يا قوي، يا عزيز، انصرني، ويقول: يا رحمن، ارحمني، ولا يدع الصِّفة، فإنَّه لا يصحّ دعاء الصِّفة، وإنما يُستعاذ بها، وقد مضى الكلامُ على شيءٍ من هذا.
فالنبي ﷺ هنا استعاذ بهذه الصِّفات: استعاذ بصفات الرحمة؛ لسبق ظهورها، واستعاذ من صفات الغضب، واستعاذ بالمعافاة من العقوبة، فهذه كلّها من صفات الرَّحمة.
وأعوذ بك منك وذلك أنَّه لا يملك أحدٌ مع الله -تبارك وتعالى- شيئًا، فلا يُعيذ منه إلا هو ، لا أحدَ يستطيع أن يلتجئ إلى مخلوقٍ، كائنًا مَن كان؛ ليكون له ملجًا وحمايةً من الله -تبارك وتعالى-، هذا لا يكون بحالٍ من الأحوال، وإنما العبدُ إذا خاف من الله فرَّ إليه، والتجأ إليه، فهو يستعيذ به منه.
لا أُحصي ثناءً عليك "لا أُحصي" فُسِّر بمعنى: لا أُطيق، فالعبد عاجزٌ عن تحقيق ذلك والإتيان به، وكذلك قول مَن قال: هو بمعنى: لا أُحيط بالثَّناء عليك؛ لأنَّه لا يمكن لأحدٍ أن يعلم أسماءَ الله -تبارك وتعالى- جميعًا، ولا يعلم أوصافَه جميعًا، وكل اسمٍ مُتضمنٌ لصفة كمالٍ، وهذه الأوصاف الكاملة يستحقّ الحمد والشُّكر والثَّناء على تلك الكمالات، كما أنَّه يستحقّ الحمد والشّكر على آثارها في هذا الخلق، وما يتعدَّى منها، فالإنسان لا يُحيط بشيءٍ من ذلك.
والنبي ﷺ قال: أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك، سميتَ به نفسَك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقك، أو أنزلتَه في كتابك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك[2].
فهنا النبي ﷺ يقول: لا أُحصي ثناءً عليك، ومن ثم فإنَّ هذا يُفسّر قول مَن قال -وهو منقولٌ عن مالكٍ رحمه الله- بأنَّ معناه: لا أُحصي نعمتك وإحسانك والثَّناء بها عليك[3]. لماذا لا أُحصي ثناءً عليك؟
لأني لا أُحصي هذه النِّعَم: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [النحل:18]، فإذا كان الإنسانُ لا يُحصي هذه النِّعَم فكيف يستطيع أن يُحصي الثَّناء على الله -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-؟!
فمهما اجتهد العبدُ، وبذل وسعه، وهو بهذا يستشعر التَّقصير في جنب الله -تبارك وتعالى-: أنَّه مُقَصِّرٌ، وأنَّه مهما بالغ وفعل فإنَّ الحالَ باقيةٌ على التَّقصير، فيعترف بذلك، ويُقرّ به.
أنت كما أثنيتَ على نفسك، هذا اعترافٌ بالعجز، يقول: أنا لا أستطيع أن أُحصي الثَّناء عليك، وإنما أنت كما أثنيتَ على نفسك، لا أستطيع التَّفصيل في الثناء والإحصاء، وأنَّه لا يمكن لأحدٍ أن يبلغ حقيقةَ ذلك، ولكن إنما يُقال ذلك إجمالاً: أنت كما أثنيتَ على نفسك، فوكّل ذلك إلى الله -تبارك وتعالى-، المحيط بكلِّ شيءٍ جملةً وتفصيلاً.
وهكذا أيضًا مهما قلنا، ومهما أثنى العبادُ على الله -تبارك وتعالى-، فإنَّ ربنا -تبارك وتعالى- أعظم وأجلّ.
لا أُحصي ثناءً عليك لا أُطيق أن أُثني عليك كما تستحقّه.
وأصل الإحصاء يأتي بمعنى: العدّ والإحاطة، وبعضهم يقول: أصله العدّ بالحصى، فقيل له: إحصاء.
ولو نظر الإنسانُ فيما حوله من النِّعَم، فإنَّه يجد أمورًا يصعب عليه حصرها وجمعها، كما أنَّه يعجز عن معرفة كثيرٍ منها بكلِّ تحريكةٍ وتسكينةٍ وغمضة عينٍ، وفي هذه المخلوقات المبثوثة في هذا العالم، وما يحصل من ألوان الإحسان، وكل ذرةٍ في هذا الكون تستوجب الثَّناء على الله -تبارك وتعالى-، ولكن ماذا عسى أن يُحصي هذا المخلوق؟ وماذا عسى أن يعلم ما في طيِّها من النِّعَم والعجائب والحكم التي لو كُشِف عنها لصار العبدُ يلهج تسبيحًا وتقديسًا وتعظيمًا لربِّه وخالقه ؟! ولكن نظرُ الإنسان قاصرٌ، وعلمُه ضعيفٌ.
وقوله ﷺ: أنت كما أثنيتَ على نفسك النَّفس هنا فسَّرها الجمهورُ من أهل السنة والجماعة بالذات، فقالوا: النَّفس هي الذَّات المتَّصفة بصفاته -تبارك وتعالى-.
يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وليس المرادُ بها أنها صفةٌ من صفات الذَّات[4]. هذا الذي عليه عامَّة أهل العلم، يُفسِّرون النَّفسَ بالذَّات، وصرَّح بهذا كثيرون، وأهل السُّنة يُثبتون ذلك لله -تبارك وتعالى-، كما قال الله : وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، وفي قوله: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]، كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، يا عبادي، إني حرمتُ الظلمَ على نفسي[5]، وما شابه ذلك من الأدلة، كما مضى معنا في فضل الذكر: فإن ذكرني في نفسِه ذكرتُه في نفسي[6]، فهذا الذي قاله عامَّةُ أهل العلم.
مع أنَّ من أهل السُّنة مَن أثبت صفةَ النفس على أنَّها صفةٌ من الصفات، كما قال ابنُ خزيمة -رحمه الله- في كتابه "التوحيد"[7]، وعبدالغني المقدسي في عقيدته[8]، والإمام البغوي[9]، ومن المتأخّرين الشيخ صديق حسن خان -رحمه الله- في كتابه: (قطف الثّمر في عقيدة أهل الأثر)[10]، مع أنَّه في تفسير (فتح البيان) فسَّر ذلك بالذَّات[11]، ولكن هذا ليس بدليلٍ على شيءٍ في نظري؛ لأنَّ الذي في التَّفسير إنما نقله -كما هو معلومٌ- من "فتح القدير" للشوكاني، فهو يكاد ينقل الكتابَ نقلاً يُشبه النَّقل الحرفي، اللهم إلا في بعض المواضع وبعض الزِّيادات من بعض كتب المتأخّرين.
وقد استشهد شيخُ الإسلام -رحمه الله- على عدم العلم بكيفية الصِّفات، وعدم حصر ما لله -تبارك وتعالى- من الأسماء والصِّفات؛ لأنَّ الأسماء مُتضمنة للصِّفات بهذا الحديث: لا أُحصي ثناءً عليك، أنَّه لا يُحصي الأسماء، ولا يُحصي الصِّفات، وكذلك لا يعلم كيفيتها، ومن ثم يبقى الثَّناء المجمل: أنت كما أثنيتَ على نفسِك.
هذا ما يتعلق بهذا الحديث.
وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإيَّاكم هُداةً مُهتدين.
والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب ما يُقال في الركوع والسجود، برقم (486).
- أخرجه أحمد برقم (3712)، وقال محققو "المسند": "إسناده ضعيفٌ".
- "الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية" (2/270).
- "بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية" (7/427).
- أخرجه مسلم: كتاب البر والصِّلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، برقم (7405)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب الحثّ على ذكر الله تعالى، وباب فضل الذكر والدعاء والتَّقرب إلى الله تعالى، وكتاب التوبة، باب الحضِّ على التوبة والفرح بها، برقم (2675).
- "شرح كتاب التوحيد لابن خزيمة" محمد حسن عبدالغفار (4/5).
- "الاقتصاد في الاعتقاد" للمقدسي (ص123).
- "شرح السنة" للبغوي (1/168).
- "قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر" (ص69).
- "فتح البيان في مقاصد القرآن" (2/216).