الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل الوضوء، أورد المصنف -رحمه الله- حديث عثمان بن عفان قال: قال رسول الله ﷺ: من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره[1]، رواه مسلم.
من توضأ فأحسن الوضوء يعني: جاء به على الوجه المشروع من غير إخلال به، وكما هو معلوم: الوضوء منه ما يكون واجبًا، ومنه ما يكون مستحبًا.
القدر الواجب هو إسباغ الوضوء على الأعضاء المخصوصة، فإذا حصل هذا الإسباغ مرة واحدة أجزأ.
فإذا كرره ثانية فذلك أفضل، فإذا ثلّث فإن هذا هو الأكمل، لكنه كمال مستحب، فهنا توضأ فأحسن الوضوء، أكمل حالاته أن يغسل ثلاثًا ثلاثًا، ولكن ظاهره: أنه لو غسل مرة أو مرتين لكنه أسبغ الوضوء، فبلغ المحال التي يجب غسلها فإن ذلك يصدق عليه هذا الحديث توضأ فأحسن الوضوء.
وقوله: خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره هذا الحديث يفسر لنا أحاديث أخرى في الباب، يأتي بعضها -إن شاء الله- الأحاديث التي تدل على أنه إذا غسل يديه تخرج الخطايا التي بطشتها يداه، وإذا غسل رجله خرجت الخطايا التي مشت إليها رجله، ونحو ذلك.
فهناك يرد سؤال: وهو هل تكفير الذنوب وغفران الخطايا مختص فقط بالأعضاء المغسولة أو عموم خطايا الإنسان؟ لأن من الذنوب ما قد لا يكون ملابسًا لشيء من هذه الأعضاء المعينة، كالذي يكون متعلقًا بالقلب، سوء الظن بالله مثلاً، وسوء الظن بالمسلمين، وما شابه ذلك.
هذا الحديث يدل على أنه تخرج غفر له ما تقدم من ذنبه، كما في الحديث الآخر خرجت خطاياه أي خطايا؟ هل جميع الخطايا؟ لا، الصغائر فقط؛ لأنه يدل على ذلك الأحاديث الأخرى التي أخبرنا النبي ﷺ فيها بهذا القيد: اجتناب الكبائر الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر[2]، فالكبائر تحتاج إلى توبة، وقد لا يتوب منها العبد، فيغفر الله له بمحض مشيئته، أو يكون للإنسان حسنات عظيمة ماحية، أو يكون يقع له مصائب عظيمة مكفرة، أو نحو ذلك، والمقصود: أن الكبائر تحتاج إلى توبة.
فهنا تخرج خطايا الجسد حتى تخرج من تحت أظفاره مع أن هذا الموضع -تحت الأظفار- ليس من مواضع الغسل، فدل ذلك على أنه لا يختص بالأعضاء المخصوصة -أعني بالخطايا-، وإنما كل خطايا الإنسان خرجت خطاياه من جسده.
وعنه قال: رأيت رسول الله ﷺ توضأ مثل وُضوئي هذا، ثم قال: من توضأ هكذا، غفر له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة[3]، يعني: نحن نعلم أن الصلاة إلى الصلاة كفارة، وأن الخطى إلى المساجد تكفر بها الذنوب، وترفع بها الدرجات، فقوله ﷺ: وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة بمعنى: أن ذنوبه قد غُفرت، فهذا المشي إلى المسجد، وهذه الصلاة أصبحت في رصيد الحسنات، فليس هناك خطايا تكفر، اللهم إلا الكبائر فهي -كما سبق- تحتاج إلى توبة، وكذلك ما يتصل بحقوق الآدميين، فإن الذي يكفره الطهارة -ونحو ذلك- إنما حقوق الله ، أما حقوق الخلق فإنها لا يكفرها الوضوء ولا الصلاة ولا الصيام ولا الجمعة، وإنما تحتاج إلى إعادة الحقوق إلى أصحابها، فإن ذلك من قبيل الحقوق المعنوية كمن اغتابه، أو نحو ذلك، فهذا إن أمكن أن يتحلله فإن ترتب عليه مفسدة أكبر ذكره بما يحسن ويجمل في المواضع التي ذكره فيها بالسوء، ودفع عنه ما قال فيه، واستغفر له، ودعا له، وتاب إلى الله فيرجى.
ولهذا نقول: ما حاجة الإنسان لهذه الحُفَر التي الأصل فيها المشاحة -أعني حقوق المسلمين-، لا تكفرها لا طهارة ولا صلاة ولا جمعة ولا صيام، ما حاجة الإنسان بحقوق الناس، والوقيعة في أعراضهم.
ثم ذكر الحديث الثالث، وهو حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن، فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه، مع الماء، أو مع آخر قطر الماء هذا مختص بالأعضاء المخصوصة فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كانت بطشتها يداه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء، أو مع آخر قطر مع الماء، حتى يخرج نقيًا من الذنوب[4]، رواه مسلم.
فإذا قال قائل: فأين الذنوب الأخرى التي لا تتعلق بهذه الأعضاء؟
فالجواب في الحديث الأول الذي نص على أنه تخرج خطايا الجسد من تحت الأظفار، فالمقصود: أنه لا يبقى عليه خطيئة من الصغائر.
إذا هل معنى هذا أن الإنسان يقول: أنا سأعمل الصغائر من النظر إلى الحرام، إما مباشرة، أو بوسائط طريق صور، أو نحو ذلك، وسأفعل أشياء من هذا القبيل ممن هو من قِبل الصغائر، كلمس محرم، أو نحو ذلك، وسيكفر عن ذلك بفعل هذه الأعمال؟
فهنا يقال: هذا الإنسان الذي يتقصد فعل المنكر من أجل أن يكفر بالخطايا ما يدريه أولاً أن يموت على هذا قبل أن يتوضأ؟ ثم ما يدريه أن وضوءه ذلك يكون مقبولاً عند الله، فيكفر به هذه الخطايا؟
ودخل سائل إلى ابن عمر فقال لابنه: اعطه دينارًا، فأعطاه، فلما انصرف قال ابنه: تقبل الله منك يا أبتاه، فقال: لو علمت أن الله تقبل مني سجدة واحدة أو صدقة درهم لم يكن غائب أحب إلي من الموت، تدري ممن يتقبل الله؟ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27][5]، وهذا الإنسان ليس من المتقين، وهذا هو الفهم السلبي، وقد ذكرته في بعض المناسبات، وحذرت منه، فبعض الناس إذا سمع مثل هذا بدلاً من أن يحرص على الوضوء، وعلى الصلاة، ويقول الله فتح لنا من ألطافه، فيتمسك بهذه العبادات، لا، يقول: إذًا أنا سأفعل الذنوب، وأتوضأ ويذهب أثرها، هذا الفهم غير صحيح، ما يدري الإنسان أن الله قبل وضوءه، وكفر عنه خطاياه، فقد يوجد مانع يحول بينه وبين المغفرة، ومن الموانع سوء القصد والنية وفساد ذلك، ثم أيضًا المواظبة على الصغائر تصيرها كبائر، والله يقول: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] لم يصروا وهو مصر.
والله -تبارك وتعالى- يقول: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201] بمعنى: عرف أنه زل وأخطأ وأذنب، فهو مباشرة يبادر إلى التوبة، هؤلاء هم الأتقياء إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ يعني: الشيطان استزله وأوقعه في المعصية مباشرة، يتذكر؛ لأنه صاحب قلب حي، ونفس لوامة، قال: وَإِخْوَانُهُمْ يعني: إخوان الشياطين يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ يعني: الشياطين تمدهم في الغي ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202] يعني لا يرعوي ويستمر على الذنوب والمعاصي، ويصر عليها، فمن يريد أن يكون بهذه المثابة؟ أيًا كان نوع الذنوب؛ ولذلك يحتاج العبد إلى فقه في الدين، ويحتاج إلى تقوى، وإلا فإنه قد يتعلم بعض الأشياء، ثم بعد ذلك يكون ما تعلمه سببًا لهلاكه -نسأل الله العافية- فيقوده إلى النار، فهذا علم يضره، ولا ينفعه.
فهنا قال: حتى يخرج نقيًا من الذنوب.
وهنا أختم بما أشرت إليه في الليلة الماضية: الآن هؤلاء هم الذين يتوضؤون تغسل ذنوبهم، وكما سيأتي في الصلاة أيضًا أنها تكون سببًا لغسل الذنوب، وهكذا ما جاء في الحديث المشهور الذي ذكر فيه النبي ﷺ مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار، غمر على باب أحدكم، يغتسل منه كل يوم خمس مرات[6] إذا الذي لا يتوضأ ولا يصلي ما حاله مع الذنوب؟ نسأل الله العافية، تجتمع عليه، ما تغسل، فتتكاثر عليه، ثم يأتي الوزن يوم القيامة فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الأعراف:8-9] فهذا لا تكفر خطاياه وذنوبه بمثل هذه الأمور المكفرة، فكم يخسر هذا الإنسان الذي ترك الصلاة، وترك الطهارة، نسأل الله العافية؟!
وسيأتي أحاديث في هذا الباب، وفي الباب الذي يتعلق بفضل الصلاة أشياء كثيرة من هذا القبيل، لا يحصلها أولئك الذين لا يصلون، هذا إذا قيل بإسلامهم.
والله المستعان.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء برقم (245).
- أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر برقم (233).
- أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه برقم (229).
- أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء برقم (244).
- الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/57).
- أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا، وترفع به الدرجات برقم (668).