الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:
في (باب فضل صلاة الجماعة) أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة، فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال، فأحرق عليهم بيوتهم[1]، متفق عليه.
قوله ﷺ: والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة، فيؤذن لها... إلخ، هذا يدل دلالة أكيدة على وجوب صلاة الجماعة، فإن مثل هذه العقوبة (التحريق بالنار) لا يمكن أن تكون على أمر مستحب، أو على فضيلة من الفضائل، وإنما يكون ذلك على ترك واجب من أهم الواجبات، وقد جاء ما يدل على المانع الذي منع النبي ﷺ من فعل هذا، وهو وجود النساء والذرية يعني: ممن لا يجب عليهم حضور الجماعة، فهذا الذي منعه، فلو خليت البيوت من النساء والذرية لحرق عليهم بيوتهم، وهم بداخلها، فهذا قتل بالتحريق بالنار، مع أن النبي ﷺ يقول: فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة[2]، فدل على أن فعلهم شنيع، وأنهم قد تركوا واجبًا عظيمًا من واجبات الشرع، فكيف يقال بعد ذلك: بأن صلاة الجماعة مستحبة وليست واجبة؟ وكيف يسوغ الإنسان لنفسه ترك صلاة الجماعة، وهو صحيح قوي معافى، يسمع النداء، ولا عذر يحبسه عن الحضور إلى المسجد.
وقوله ﷺ: ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال، فأحرق عليهم بيوتهم متفق عليه، يدل على أن ذلك -والله تعالى أعلم- كان قبل النهي عن التحريق بالنار؛ لأن النبي ﷺ قال: لا يعذب بالنار إلا رب النار[3]، فكان هذا قبل هذا، فأوحى الله إلى نبيه ﷺ بما ذكرتُ، وهو أنه لا يعذب بالنار إلا رب النار فلا يشكل هذا الحديث على حديث الباب.
ثم إن قوله ﷺ: ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم معناه: أنه لا يشهد الجماعة الأولى التي أقيمت، وفي هذا يمكن أن يستدل لأهل الحسبة -أهل الهيئة- إذا اقتضى المقام لأنهم لربما احتاجوا في بعض أعمالهم ومزاولاتهم في إنكار المنكرات إلى التخلف عن الجماعة، فيصلون جماعة إن لم يجدوا مسجدًا يتأخر فيصلون معه، فهذا قد يقع، وقد يحتاجون إليه، لكن ينبغي أن لا يفعل اختيارًا من غير موجب، فبعض الناس يلمزهم بهذا، ويقول: هؤلاء الناس يأمرون الناس بالصلاة، ويحاسبونهم على هذا، وهم تفوتهم صلاة الجماعة!
نقول: نعم تفوتهم صلاة الجماعة؛ لأنهم يقومون بالاحتساب على هؤلاء من أصحاب المنكرات، فهؤلاء يواجهون أشياء لربما لا يمكن تركها في الحال، أحيانًا منكرات تتعلق بنساء أو بشباب أو بأمور وخلوات محرمة، وبمصانع خمور، وبمجرمين، ولو تركوهم وذهبوا إلى صلاة الجماعة ذهبوا وفات إنكار المنكر، فيقال: لا يتخذ هذا عادة، ولا يفعله الإنسان اختيارًا، وهو يجد مندوحة عنه، لكن إن فعله لموجب، كفوات المقصود في الاحتساب، أو نحو ذلك، فلهم أن يتركوا الجماعة الأولى، ويصلون جماعة بعد ذلك، وهم مأجورون على هذا، فهذا يؤخذ من هذا الحديث، والله تعالى أعلم.
والفعل الذي أراد أن يفعله النبي ﷺ إنما هو من جنس أفعال الحسبة.
ثم ذكر حديث ابن مسعود قال: "من سره أن يلقى الله تعالى غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات، حيث ينادى بهنّ" أين ينادى بهن؟ في المسجد، وإذا قال: الإنسان أنا سأصلي في بيتي جماعة مع أولادي، وضيوفي، نقول له: لا "حيث ينادى بهن".
وبعض الناس يقولون: نحن عندنا سوق، ونفرش بساط ونصلي، ويوجد مسجد نسمع الأذان، لكن نصلي جماعة في السوق، نقول لهم: لا، "حيث ينادى بهن" تذهبون إلى المسجد.
وبعض الناس يقولون: نحن في استراحة، ويوجد حولنا مساجد، هل نصلي في الاستراحة أو نخرج إلى المسجد؟ فيقال: تخرجون إلى المسجد وجوبًا؛ لأنكم تسمعون النداء، فما الفرق حينما يكون الإنسان في نزهة وهو غير مسافر، وحينما يكون الإنسان في بيته هذا يجب عليه أن يجيب النداء، وهذا يجب عليه أن يجيب النداء، والناس يتساهلون في النزه -كما هو مشاهد- ما لا يتساهلون في غيرها.
فهنا "حيث ينادى بهن" فهذا أصل؛ ولهذا يقال: بأن الصلاة في المصليات لا يتحقق فيها مثل هذا، مصلى ما يصلى فيه إلا الظهر، بمكان العمل، أو نحو ذلك، نقول: المسجد بجواركم، تسمعون النداء، اذهبوا إلى المسجد قال: "فإن الله شرع لنبيكم ﷺ سنن الهدى" يعني: طرائق الهدى.
"وإنهن من سنن الهدى" يعني: هذه الصلوات وفي الجماعة.
"ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته؛ لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف"[4]، رواه مسلم.
"يهادى بين الرجلين" يعني: يتمايل تعبان مريض، يأتي رجل ويأخذه من منكبه الأيمن، ورجل آخر من منكبه الأيسر، ثم يتمايل لا يستطيع أن يعتمد على قدميه، حتى يقام في الصف، ومع ذلك لا يتخلف.
"ما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق" والحديث الآخر لما صلى النبي ﷺ الغداة الصبح قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا، قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا، قال: إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين[5]؛ ولهذا هل نتصور أن من أصحاب النبي ﷺ من كان يتخلف عن صلاة الجماعة من غير عذر؟
الجواب: لا، فأولئك الذين همّ النبي ﷺ أن يحرق عليهم بيوتهم، لا يمكن أن يكون عندهم فلسفة، يقول الواحد منهم: والله ما تجب عليّ صلاة الجماعة! أنا سأصلي في بيتي، ومع أولادي، وهذا تربية، كما سمعتُ أحدهم يقول: تربية للأولاد، من أجل أنهم يتعلمون الصلاة، نقول: نعم علمهم وربيهم في المسجد، يذهبون يصلون مع الجماعة، أما أن تصلي معهم كالنساء في البيوت، فهذه ليست تربية، فأولئك الذين همّ النبي ﷺ أن يحرق عليهم بيوتهم، نحن نتصور أنهم من أهل الإيمان، ومن الصحابة، ويتخلفون عن الصلاة معه؟ الجواب: لا، ذاك الحديث يدل على أنه يوجد في زمن النبي ﷺ من كان يتخلفون عن صلاة الجماعة، لكن من يكون هؤلاء؟ هؤلاء من المنافقين، أما أصحاب النبي ﷺ فكما قال ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: "رجل يؤتى به يهادى بين الرجلين".
قال: وفي رواية له قال: "أن رسول الله ﷺ علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه"[6]، بهذا الضابط: "المسجد الذي يؤذن فيه" إن كان مصلى لا يؤذن فيه فإن ذلك لا يتحقق به مقصود الشارع.
ثم ذكر الحديث الأخير، وهو حديث أبي الدرداء قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: ما من ثلاثة في قرية ولا بدو قرية يعني: أهل مدينة، أو حاضرة، سواء كانت كبيرة أم صغيرة لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد استحوذ عليهم الشيطان استحوذ يعني: غلب عليهم، وضمهم إليه، كما قال الله : اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [المجادلة:19] قال: فعليكم بالجماعة لاحظ يدخل في هذا صلاة الجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية[7]، رواه أبو داود، بإسناد حسن.
الذئب يأخذ من الغنم ما كان منفردًا، بعيدًا عن المجموع، فيتفرد بها الذئب، فيفترسها، وهكذا الشيطان، فإذا ترك الإنسان صلاة الجماعة، فلا شك أنه أقرب إلى كيد الشيطان ووسوسته وتزيينه وإضلاله، فما يلبث أن يؤخر ويتساهل ويترك السنن الرواتب، وتثقل عليه كما هو مشاهد، نحن نأتي للمسجد ونصلي قبل الظهر أربعًا، ثم نصلي الظهر، ثم نصلي بعدها ركعتين أو أربع، والإنسان الذي تفوته لربما يستثقل أن يصلي هذا كله، لكن إذا جاء خف عليه، فتجد الإنسان لربما أيضًا يصليها صلاة بثياب النوم، أو بثياب -لا تستر- أو بسراويلات، ونحو ذلك تشف على لون الجلد، فقد لا تجزأه، ثم يصليها من غير حضور قلب، يصليها صلاة سريعة، ويثقل عليه قول الأذكار بعدها، ثم ما يلبث أن يزداد ضعفه، فلربما صلاها في آخر الوقت تلك صلاة المنافق[8]، كما قال النبي ﷺ، ثم لربما أدى به إلى ذلك إلى تأخيرها عن الوقت، ولربما نام عن الصلاتين والثلاث -كما هو مشاهد عند بعضهم-، فينام من الظهر إلى المغرب، فيجمع العصر مع المغرب، لا سيما في الشتاء مع قصر النهار، ولربما نام بعضهم العصر، ولم يستيقظ إلا العشاء، فيجمع المغرب والعشاء، وفي رمضان لربما جمع ثلاث صلوات، أو نحو ذلك، وكم سمعنا من سؤلات الناس، هذا يقول: نام بعد الفجر ولم يستيقظ إلا المغرب، وأين الصلوات؟
فأقول: إن مما يعين الإنسان على الثبات على الحق وإقامة شعائر الدين، ولزوم العبودية، أن يحافظ على الصلاة في المسجد، وأن يبكر لها، وأن يأتي إلى المسجد حينما يسمع الأذان، فيصلي، ثم يجلس ينتظر الصلاة، وهو في صلاة، فإذا دخل في الصلاة يكون في غاية الراحة والطمأنينة؛ وذلك أدعى إلى الخشوع، أما حينما يكون الإنسان يسرع في الطريق، ومشدود الأعصاب، وفي السيارة، والطرق تتخطف قلبه هنا وهناك لكثرة ما يشوش عليه، ثم يأتي المسجد يريد أن يدرك الركعة، هذا كيف يمكن أن يخشع؟ لا يمكن أن يخشع، وإنما يأتي ونفسه في حال من الاضطراب والتسارع، فهذا لو سُئل عما صلى لربما لا يدري عن عدد الركعات، هل هذه الثانية، أم الثالثة، أم الرابعة؟ وإذا سهى الإمام فهو معه لا يدري كم صلى؟ وكم نسمع الإمام صلى خمس ركعات، فقمنا معه، ولم نتنبه، لماذا يحصل كل ذلك؟ لهذا التأخير.
أما الناس الذين يسألون كيف نخشع في الصلاة؟ وكيف نطمئن؟ كيف نحصل المقصود؟ نقول لهم: بكروا للصلاة، فإذا أقيمت الصلاة تكون في حال من الطمأنينة؛ لماذا لا يحرص الإنسان أن يحقق ما جاء بالحديث من صلى لله أربعين يومًا في جماعة يدرك التكبيرة الأولى، كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق[9]، وتكبيرة الإحرام أن يكون تكبيره تاليًا لتكبير الإمام.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة برقم (644) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة برقم (651).
- أخرجه مسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، وتحديد الشفرة برقم (1955).
- أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في كراهية حرق العدو بالنار برقم (2673) وصححه الألباني.
- أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صلاة الجماعة من سنن الهدى برقم (654).
- أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في فضل صلاة الجماعة برقم (554) وحسنه الألباني.
- أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صلاة الجماعة من سنن الهدى برقم (654).
- أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في التشديد في ترك الجماعة برقم (547) وحسنه الألباني.
- أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالعصر برقم (622).
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الصلاة، باب في فضل التكبيرة الأولى برقم (241) وحسنه الألباني.