الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل يوم الجمعة، ووجوبها، والاغتسال لها، والتطيب، والتبكير إليها، والدعاء يوم الجمعة، والصلاة على النبي ﷺ فيه، وبيان ساعة الإجابة، واستحباب إكثار ذكر الله بعد الجمعة.
أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ ذكر يوم الجمعة، فقال: فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي، يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه، وأشار بيده يقللها[1] متفق عليه.
فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم هذه الساعة لا ينصرف الذهن إلى أنها الساعة المعهودة لدينا، أي أنها تبلغ ستين دقيقة، لا، ليس هذا المراد، ويوضحه آخر الحديث، وأشار بيده يقللها، تقول: وقفت معه ساعة، جلست ساعة؛ تقصد مدة من الزمان، وذلك يقال له: ساعة، فهذه الساعة ساعة يسيرة، وقد اختلف أهل العلم في وقتها اختلافًا كثيرًا، ومن أشهر الأقوال، ومن أقواها أنها آخر ساعة من يوم الجمعة، بعد العصر، فيتحرى الإنسان مثل هذه الساعة.
وقوله ﷺ: لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي، يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه وهو قائم يصلي ما المراد به؟ معلوم أن العصر بعد اصفرار الشمس هو وقت نهي، فكيف يصلي في هذا الوقت؟
من أهل العلم، من قال: قائم يصلي يمكن أن يتوضأ، ويصلي ركعتين للوضوء، ويدعو فيهما، ولكن إن لم يكن ذلك من عادته فلم يصلّ هاتين الركعتين إلا يوم الجمعة من أجل أن يصليهما ليستبيح بهما المحظور، فهذه حيلة مردودة شرعًا، فليس له أن يفعل ذلك، فيبقى وقت النهي في حقه ثابتًا، لكن من كانت له عادة، فتوضأ، فيمكن أن يقال: إن صلاة الركعتين هنا مشروعة، ومن أهل العلم من يقول: يذهب إلى المسجد، فيصلي فيها ركعتين تحية المسجد، فيقال: إن قصد ذلك، ذهب إلى المسجد من أجل أن يصلي ركعتين تحية المسجد؛ ليدعو فيهما، فهذا أيضًا فيه نوع حيلة على أوقات الصلاة في أوقات النهي، ويمكن للإنسان أن يدعو وهو في بيته، لا يحتاج أن يذهب إلى المسجد، وهذا أدعى إلى إخفاء العمل، ولعله أقرب إلى الإخلاص، والله تعالى أعلم.
ومن أهل العلم من حمل الصلاة هنا على المعنى اللغوي، قالوا: يصلي، يعني: يدعو فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي يعني: يدعو، والله -تبارك وتعالى- يقول: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ يعني: ادع لهم، فالصلاة أصلها تأتي بمعنى: الدعاء في اللغة، فهنا يمكن أن يحمل على هذا، وهو قول قريب، له وجه، ولعله أجود ما قيل في ذلك، أن المقصود يدعو، والله تعالى أعلم.
لكن قال هنا: قائم، فهل يقصد بالقيام الوقوف على حقيقته، على ظاهره؟ لا يلزم ذلك فيه، وإنما القيام، يعني: تقول قام على كذا، يعني: اشتغل به، هذا يقوم على أبوين كبيرين، يقوم على صبية، بمعنى: أنه يجدّ، ويعمل في هذا السبيل، فهنا قائم يصلي يعني: أنه متلبس بذلك، مشتغل به، ولهذا قال بعض أهل العلم: بأن المراد بقوله: قائم يصلي أي أنه متلبس ببعض شروطها، وما يطلب فيها من استقبال القبلة والطهارة، ونحو ذلك، فعلى كل حال هنا الذي يظهر -والله أعلم- أن ذلك لا يحمل على الصلاة بالمعنى الشرعي؛ لأنه وقت نهي، لكن من قال: إنها قبل قيام الخطيب؛ فذلك وقت للصلاة، حتى يقوم الخطيب كما سبق في الليلة الماضية حديث سلمان ثم صلى ما كتب له، ثم ينصت يعني: إذا تكلم الخطيب، فهذا وقت صلاة.
ومن أهل العلم من ذكر أن ذلك يكون بين الخطبتين، أو في أثناء الخطبة، أو نحو ذلك، فليس له أن يدعو أثناء الخطبة، ولكن يدعو بين الخطبتين يدعو بين الخطبتين، فلو أن الإنسان تحراها قبيل صعود الخطيب على المنبر، وبين الخطبتين، وفي آخر ساعة من العصر، عصر يوم الجمعة، فأرجو أن يكون قد أصابها، والله تعالى أعلم.
يقول: وهو قائم يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه فهذا، وعد لا يتخلف، فإذا تحقق الإنسان بهذه الأمور، وتحرى هذه الإجابة؛ فإن الله -تبارك وتعالى- يفي له بما وعده، فلا يفرط الإنسان، لكن الناس اعتادوا في مثل يوم الجمعة، أو عصر يوم الجمعة، أنهم يرسلون ساعة إجابة، صل على النبي، جمعة مباركة، وما أشبه ذلك، مثل هذا تكراره، والاعتياد عليه قد يكون من ذرائع البدع، فلا يفعل.
وكذلك ما يفعله بعضهم لا يرسل فوائد، أو نحو ذلك إلا يوم جمعة، من غير موجب، يعني: بعض الناس قد يقول: أنا ما أتفرغ إلا في هذا اليوم، لكن بعض الناس يتحرى يوم الجمعة، ويقول: جمعة مباركة، ونحو ذلك، فهذا قد يكون من هذا القبيل، يعني: ذرائع البدع، فينهى عنه.
ثم ذكر حديث أبي بردةـ، ابن أبي موسى الأشعري قال: قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أسمعت أباك يحدث عن رسول الله ﷺ في شأن ساعة الجمعة؟ قال: قلت: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة[2]رواه مسلم.
فهذا دليل واضح، وصريح في أنها بين يدي الخطبة، وفي أثنائها، فيتحرى قبيل صعود الخطيب على المنبر، وكذلك ما بين الخطبتين.
كذلك في كونها في آخر ساعة من الجمعة، هناك أدلة تدل على هذا، وفي إخفائها كما يقال في إخفاء ليلة القدر؛ من أجل أن يجتهد الإنسان، ويتحرى حتى يحصلها، وليس ذلك بكثير، الوقت يمضي سريعًا، فهي في هذه الأوقات اليسيرة، والله تعالى أعلم.
وأيضًا حديث أوس بن أوس قال: قال رسول الله ﷺ: إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ[3] رواه أبو داود بإسناد صحيح.
إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة والحديث السابق: خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة[4] وكما سبق إذا كان يوم الجمعة بهذه المثابة فهو يوم عيد، ولا شك أنه يوم عيد، وهو أفضل أيام الأسبوع، فيفرح المؤمن به، ولا يستثقل هذا اليوم، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب.
يقول: إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ يوم الجمعة، وليلة الجمعة، كما في الحديث الآخر، وأكمل ذلك أن يقول: اللهم صل على محمد على آل محمد كما صليت على إبراهيم.. إلخ كما في حديث قيس بن سعد بن عبادة -رضي الله عنهما- قد علمنا السلام عليك، فكيف نصلي عليك؟ فذكر لهم الصيغة الكاملة[5] ولو أن أحدًا قال: اللهم صل على محمد؛ أجزأه هنا في يوم الجمعة، أو في ليلة الجمعة، والله أعلم، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم علمًا نافعًا، وعملاً صالحًا، ونية صحيحة.
- أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة، برقم (935)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء، برقم (757).
- أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب في الساعة التي في يوم الجمعة، برقم (853).
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، برقم (1047)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (1361).
- أخرجه أحمد في مسنده، برقم (9409)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (1356).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 55]، برقم (4798)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد، برقم (405).