الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي "باب فضل قيام الليل" أورد المصنف -رحمه الله- حديث جابر قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة[1]، رواه مسلم.
قوله ﷺ: إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم، هذه الساعة أبهمها النبي ﷺ وليس المقصود بذلك الساعة المعروفة اليوم التي تبلغ ستين دقيقة، وإنما الزمان اليسير، يقال له: ساعة، تقول: وقفت معه ساعة، كلمته ساعة، أو نحو ذلك، وهذه الساعة أبهمها ﷺ؛ ذلك -والله تعالى أعلم- من أجل أن يجتهد المسلم في تحريها، وتطلبها، كالساعة التي تكون في يوم الجمعة[2]، وقد مضى الكلام عليها.
وكذلك أيضًا ليلة القدر جاء إبهامها مع أن النبي ﷺ أرشد أيضًا إلى أنها في العشر الأواخر من رمضان[3].
فهنا أيضًا الأحرى في هذه الساعة أنها في الثلث الآخر من الليل، فالنبي ﷺ هنا يقول: لا يوافقها رجل مسلم يسأل خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة، وجاء في الحديث الآخر: حديث التنزل الإلهي حين يبقى ثلث الليل الآخر، فينزل ربنا -تبارك وتعالى- كل ليلة فيقول: من يدعوني فأستجيب له،...[4]، الحديث.
فذلك يكون في ثلث الليل الآخر، والله تعالى أعلم.
وقوله ﷺ: لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله شيئًا، لا يوافقها رجل المرأة داخلة في هذا، ولكن النساء تبع للرجال، فلفظة: رجل، في الأصل في كلام العرب لا تدخل فيها المرأة فهي مختصة بالرجال، ولكن ذلك يأتي في الشرع يعبر بمثل هذا ويدخل فيه النساء على سبيل التبع؛ لأنهن مخاطبات بذلك، وهن شقائق الرجال، ولا فرق في هذه القضية بين رجل وامرأة، فإذا قامت المرأة تصلي تدعو ربها فهي كالرجل في ذلك فلا فرق، ولكن ذكر الإسلام هنا رجل مسلم هذا معتبر فلو قام مشرك من المشركين يدعو الله في تلك الساعة فإن ذلك لا يستجاب، والله تعالى أعلم.
قال: يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، يسأله خيرًا لو سأل شرًا؟ لو سأل أن ييسر له شيء من الحرام، فإن ذلك ليس من الخير، كذلك لو أنه دعا بإثم أو قطيعة رحم، امرأة تقوم آخر الليل وتدعو على زوجها؛ لأنه تزوج امرأة ثانية مثلاً، فهذه لا يستجاب لها؛ لأن هذه بإثم، إنسان يدعو على قرباته ونحو ذلك من غير ما جرم أو يدعو عليهم بأعظم من جرمهم وقع منهم خطأ يسير في حقه فصار يدعو عليهم بالهلاك والدمار، وما إلى ذلك من الدعاوى الكبار، فهذا لا يستجاب، والله تعالى أعلم.
قال: يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة هذا الخالق الذي بيده خزائن السماوات والأرض كل ليلة ينزل، لو أن مخلوقًا فتح للناس نافذة يعطيهم شيئًا من حطام هذه الدنيا لتهافت الناس عليه، والله -تبارك وتعالى- هو العظيم الأعظم، الغني الذي لا تنفذه خزائنه ينزل كل ليلة ويقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، ومع ذلك قد لا يحرك في نفوسنا الحديث كثيرًا.
ثم ذكر حديث أبي هريرة ، أن النبي ﷺ قال: إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين[5]، رواه مسلم.
فهذا أمر منه ﷺ، وعِلة ذلك -والله تعالى أعلم- هو من أجل تحصيل النشاط أن يبدأ بركعتين خفيفتين من أجل أن ينشط البدن وتنشط النفس، فلا يبتدئ ذلك بعد نوم بصلاة طويلة لأول وهلة، ثم بعد ذلك يشق عليه القيام ويثقل لكن يبتدئ بركعتين خفيفتين، فالنفس يكون لها شيء من الانتقال من حال الكسل والضعف إلى النشاط والقوة والإقبال على الصلاة.
وجاء ذلك من فعله ﷺ كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- الذي بعده قالت: "كان رسول الله ﷺ إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين"[6]، رواه مسلم.
وبعض أهل العلم قال: إن ما ورد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في صلاة النبي ﷺ ثلاث عشرة ركعة في صلاة الليل، وحديث عائشة إحدى عشرة ركعة قالوا: لعل المراد هذا ما يفتتح به صلاة الليل من ركعتين خفيفتين فالمجموع يكون ثلاث عشرة ركعة، وقيل غير ذلك.
ثم ذكر حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله ﷺ إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع، أو غيره صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة"[7]، رواه مسلم.
فهنا قالت: إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره، فهذا يُبين أن النبي ﷺ لم يكن يدع صلاة الليل لغير عذر.
وأيضًا كان ﷺ إذا فاته ورده من الليل صلاه من النهار، ولكن يكون شفعًا لا يصليها وترًا؛ لأن الوتر إنما هو في الليل ويصلي شفعًا وقد جاء ما يدل على أن ذلك يكون ما بين يعني ارتفاع الشمس بعد الفجر إلى ما قبل الزوال، وأن ذلك يكتب له كأنما صلاه في الليل سواء كان ذلك من وجع، أو كان ذلك بسبب نسيان، أو كان ذلك بسبب نوم غلب عليه النوم لكن إن كان مفرطًا فإنه لا يقضي.
ويؤخذ من هذا أيضًا فيما يتصل بغير قيام الليل مثل: السنن الرواتب، إذا كان الإنسان فاتته لعذر فإنه يقضي السنة الراتبة، لكن لو أنه كان تركه لها بسبب التفريط والإهمال فمثل هذا لا يقضي، -والله تعالى أعلم-؛ لأنه فات المحل تركها من غير عذر، وقد تكلم أهل العلم على من فوت صلاة الفريضة وأخرجها عن وقتها من غير عذر، فذهب طائفة منهم إلى أنه لا يقضي، ونحن هنا في سّنة الراتبة تركها من غير عذر أو في قيام ليل فكان النبي ﷺ إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، أو غيره، يعني لعذر من الأعذار، وليس معنى ذلك الترك من غير عذر؛ لأن ذلك لم يكن من شأنه ﷺ، فهذا يفهم من حاله ومن السياق قالت: "صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة"[8]، باعتبار أنه كان يصلي إحدى عشرة ركعة، لكن من كان يصلي خمس ركعات فإنه يصلي ستًا، من كان يصلي ثلاث فإنه يصلي أربعًا، وهكذا، وهذا من فضل الله -تبارك وتعالى- على عباده أن عوضهم بهذا، وكتب لهم كأجر من عمله في وقته.
ثم ذكر حديث عمر قال: قال رسول الله ﷺ: من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل[9]، رواه مسلم.
والمقصود هنا بحزبه الورد، يعني ما اعتاد عليه من صلاة، أو قراءة، فلو أن الإنسان الآن معتاد أنه يقوم في الليل فيقرأ من القرآن ما شاء الله من غير صلاة، يقرأ في الليلة ثلاثة أجزاء فنام ذات يوم لا شك أن قراءة الليل أفضل من قراءة النهار، فإذا قرأه من النهار يكتب له كأنما قرأه من الليل في وقته، فإن كان حزبه أو ورده في صلاة له ورد من صلاة فإنه يقضي ذلك شفعًا، ويكتب له كما لو صلاه في وقته، ولكن هذا بالنسبة للصلاة وقت النهي أنه يكون بعد ارتفاع الشمس قد رمح، يعني حدود ربع ساعة إلى عشرين دقيقة بعد الإشراق، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء، برقم (757).
- أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة، برقم (935)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب في الساعة التي في يوم الجمعة، برقم (852).
- أخرجه البخاري، كتاب فضل ليلة القدر، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، برقم (2022)، ومسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعا لرمضان، برقم (1169).
- أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل، برقم (1145)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل، والإجابة فيه، برقم (758).
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (768).
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (767).
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، برقم (746).
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، برقم (746).
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء، برقم (757).