الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب تأكيد وجوب الزكاة أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله ﷺ وكان أبو بكر الخليفة من بعده، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ﷺ: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله، ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كان يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعه، قال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق[1]. متفق عليه.
لما ارتدت العرب، وكان هؤلاء على صنوف شتى، فمنهم من رجع إلى دين آبائه وأجداده من عبادة الأوثان، ومنهم من منع الزكاة إما جحداً باعتبار أنه زعم أنها لا تعطى إلا للنبي ﷺ لأن الله قال: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا..[التوبة:103]، فقالوا: هي تدفع للنبي ﷺ فحسب، ومنهم من لم يجحد، لكنه بخل بها، فسماهم الصحابة بالمرتدين، وقاتلوهم، فقال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله ﷺ: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه.
هذا الحديث الذي احتج به عمر يمكن أن يجاب عنه بما رواه ابن عمر في الحديث المتفق عليه، وقد مضى بالأمس، وهو أن النبي ﷺ: قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك؛ عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله[2] معنى ذلك أنهم إن لم يقيموا الصلاة، أو لم يؤتوا الزكاة؛ فإنهم يقاتلون، فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، كأن الأمر عندهم متقرر أن من ترك الصلاة فهو كافر، وأنه يقاتل، وأن قرينتها الزكاة.
قال: فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا، العقال قيل: هو الحبل الذي يربط به البعير، يعقل به البعير، فيذكر ذلك على سبيل التقليل، لو منعوني شيئا يسيرا كهذا الحبل؛ لقاتلتهم، بمعنى أنهم لو منعوا الحق الذي عليهم، ولو كان يسيرا؛ لقاتلتهم، وبعضهم قال: العقال هذه الإبل التي تدفع في الزكاة الأعيان، إن أعطى الإبل سميت عقالا، وإن أعطى المال فذلك نقد، العرب هكذا تقول، وبعضهم يقول: العقال هو نصيب سنة في الزكاة، يعني ما يجب إخراجه في العام من هذه الإبل مثلا، وهذا قد يكون كثيرا، لو منعوني عقالا يعني زكاة سنة، والظاهر أن هذا غير مراد، وإنما قصد بذلك التيسير والتقليل، ولهذا جاء في بعض الروايات: لو منعوني عناقا[3] والعناق هو الصغير من هذه البهم من المعز يقال له: عناق.
هنا قال: لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعه، قال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق، أبو بكر قام لله بما يجب في حروب المرتدين، وأعاد الأمر إلى نصابه، بوقفة حازمة؛ فصار ذلك يذكر على مر الأجيال.
وعن أبي أيوب أن رجلا قال للنبي ﷺ: أخبرني بعمل يدخلني الجنة، قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم[4] متفق عليه عمل يدخله الجنة، تعبد الله ولا تشرك به شيئا؛ هذا هو التوحيد، تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم، ما ذكر له الصيام، ولا الحج، فقد يكون ذلك قبل فرض الصوم، والحج، قد يكون هذا في أول الأمر، وقد يكون ليس ممن يجب عليه مثلا الصوم ولا الحج، ولكن هذا لا يخلو من بعد؛ لأنه إن لم يجب عليه الصوم؛ فإنه يجب عليه البدل، وربما يكون ذكر له النبي ﷺ رؤوس هذه العبادات، فرأس العبادات البدنية -كما سبق- هو الصلاة، ورأس العبادات المالية هو الزكاة.
وعن أبي هريرة أن أعرابيا أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته؛ دخلت الجنة، قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، هذا زاده النبي ﷺ الصيام، فالنبي ﷺ إما أنه كان يجيب كل سائل بحسب حاله، وما يستطيعه ويطيقه، وإما أن يكون ذلك قبل فرض بعض هذه العبادات.
قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا، فلما ولى قال النبي ﷺ: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة؛ فلينظر إلى هذا[5] متفق عليه، السائل قبل قال النبي ﷺ: أفلح إن صدق، وهنا قال: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة؛ فلينظر إلى هذا شهد له النبي ﷺ بذلك، ذاك علقه قال: إن صدق، وهذا شهد له، فعرف النبي ﷺ أعلمه الله أن هذا الرجل يمتثل، ودل ذلك على أن هذه الأمور المذكورة هي شرائع الإسلام التي وجبت عليه، وقد يكون النبي ﷺ ذكر له أمورا أخرى من هذه الأركان، كما يدل عليه بعض الروايات أن النبي ﷺ علمه شرائع الإسلام، فيكون ذكر له الحج مع هذا، والله تعالى أعلم.
الشاهد: أن الرجل قال: لا أزيد، وقد ذكرت بالأمس أن من حافظ على الواجبات، وترك المحرمات أنه يكون من أهل النجاة، يكون من المقتصدين، وأن هذه الأمة على ثلاث مراتب: الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات.
ثم ذكر حديث جرير بن عبد الله قال: بايعت النبي ﷺ على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم[6]، متفق عليه. هذه بيعة خاصة بايع النبي ﷺ عليها جرير بن عبد الله البجلي والبيعة على الإسلام تنتظم ذلك كله، ولكن النبي ﷺ كان يبايع بعض أصحابه بيعة خاصة، فهنا على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، قال: والنصح لكل مسلم، فكان جرير بن عبد الله إذا بايع أحدا نصح له، لربما باع له فرسا، ثم ركبه، جربه، ثم رجع إلى صاحبه، وقال: إن فرسك يساوي كذا، وكذا، يعني أكثر مما اشتراه منه، ثم بعد ذلك زاده أيضا ثانية حتى أرفع له في قيمته، وهذا أمر واجب على كل مسلم، ولا يحتاج إلى بيعة خاصة، فالمسلم يجب عليه أن ينصح لإخوانه المسلمين، والنبي ﷺ قال: الدين النصيحة[7] بخلاف ما يتوهمه كثير من الناس، من أنه إذا وجد أحدا لا معرفة له، ولا دراية بهذا المبيع كم يساوي في السوق، سواء كان عقارا، أو سيارة، أو نحو ذلك اعتبر تلك فرصة لا تعوض، فينتهز ذلك، ويأخذه بثمن بخس، ويعتقد أنه قد فاز وظفر، وما علم أنه بذلك يكون قد غر أخاه المسلم، وأن ذلك لا يحل له، وكون هذا الإنسان ما يعرف السوق، ولا يعرف الأسعار، ويأتي بهذا العقار، أو هذه السيارة، أو السلعة، لا يعني أنه يغرر به فينصح له، يقال: ترى هذه تساوي كذا، هذه الأرض ما تساوي مائة وخمسين، هذه تساوي ثلاثمائة، هذا مقتضى النصح للمسلمين، لكن أين تجد مثل هذا اليوم إلا من رحم الله -تبارك وتعالى- لعل هذا يكفي، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برقم (7284)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، برقم (20).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]، برقم (25).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، برقم (1399).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، برقم (1396)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة، وأن من تمسك بما أمر به دخل الجنة، برقم (13).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، برقم (1397)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة، وأن من تمسك بما أمر به دخل الجنة، برقم (14).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الدين النصيحة: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) برقم (57)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم (56).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم (55).