الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا آخر حديث في "باب وجوب الحج وفضله"، وهو حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، أسواقًا في الجاهلية، فتأثموا أن يتّجروا في المواسم، فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]، في مواسم الحج"[1]، رواه البخاري.
قوله: "كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية"، عكاظ: سوق قريب من الطائف، بعضهم يقول: على طريق اليمن على مرحلة من الطائف، وبعضهم يقول: من جهة وناحية نجد.
ومجنة: يأتونه بعد عكاظ، يعني يأتون إلى عكاظ قبل الحج في أول شهر ذي القعدة، ويجلسون إلى منتصف الشهر، ثم بعد ذلك ينتقلون إلى مجنة في طريقهم إلى مكة، ويبقون فيه إلى آخر شهر ذي القعدة.
ثم ينطلقون إلى ذي المجاز، ويبقون فيه إلى اليوم الثامن من ذي الحجة، يعني إلى يوم التروية.
فهذه ثلاثة أسواق يأتونها قبل الحج.
قال: "أسواقًا في الجاهلية"، والجاهلية هي الحالة التي كان الناس عليها قبل الإسلام، حالة شعورية وواقعية، بعيدة عن الاهتداء بهدى الله -تبارك وتعالى-، منسوبة إلى الجهل، وهو خلاف العلم، وليس هناك ما هو أعظم جهلاً من الجهل بالله ، وتوحيده، وأسمائه وصفاته، والجهل بالطريق الموصل إليه، وما إلى ذلك، وكانوا من أجهل الناس في هذه الأمور، فكانت هذه أسواقًا لهم في الجاهلية.
"فتأثموا أن يتجروا في المواسم"، يعني موسم الحج لما أسلموا صار عندهم تحرز، صاروا يتخوفون من مشابهة أهل الجاهلية في شيء من أعمالهم.
ولهذا لما كان أهل الجاهلية يطوفون على أصنام على الصفا، فلما جاء الإسلام خافوا أن يكون ذلك من مآثر الجاهلية وأعمال الجاهلية، فتحرجوا من السعي، تحرجوا من السعي نفسه، فالله -تبارك وتعالى- بين لهم أن الصفا والمروة من شعائر الله، وأنها ليست من شعائر الجاهلية، قال: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ: لا حرج أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، أي: يسعى بين الصفا والمروة، فليس ذلك من أعمال الجاهلية، فصار عندهم مثل هذا التحرز والاحتياط، والنفور من مشابهة ما كان عليه أهل الجاهلية.
وهكذا ينبغي أن يكون المسلم دائمًا، أن يحترز من مشابهة المشركين والجاهليين في سائر أحوالهم.
فهنا أيضًا تحرجوا من الاتّجار في مواسم الحج، فأنزل الله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]، يعني في مواسم الحج.
أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ، يعني بالتجارة، فهذا أمر لا إشكال فيه.
ولكن لو أنه نظر إلى أحوال الناس في هذه العبادة، فلاشك أن من تجرد قصده للحج، من غير التفات إلى مطلوب آخر كالتجارة فهو أكمل الأحوال.
ويلي ذلك من حج وله أيضًا مطلوب تابع في هذا الحج من المطالب الدنيوية كالتجارة.
وأما إن كان له مطلوب، ويلتفت إلى أمر لا يجوز الالتفات إليه بحال من الأحوال: كالرياء والسمعة فذلك شرك.
وأسوأ الأحوال أن يتمحض قصده للشرك، للرياء والسمعة، فهذه أحوال متفاوتة.
وقد يذهب الإنسان إلى هذه الأعمال، أو هذه المناسك، أو إلى هذه الأماكن والبقاع وهو يريد الدنيا فحسب، لا يريد الرياء والسمعة، ولكن لا يريد إلا الدنيا.
والأمثلة على هذا كثيرة:
فالذي يذهب وقد تمحض قصده لإرادة ما عند الله هذا واضح، هذا هو التجرد الكامل.
النوع الثاني من الالتفات: أن يلتفت إلى أمر يجوز الالتفات إليه، لكن ينبغي أن يكون على سبيل التبع، يحج ويريد التجارة، يحج وعنده حملة مثلاً، أو يحُج ويحمل ركابًا، أو يؤجر سيارته في الحج مثلاً، فهذا لا إشكال فيه.
أما الذي يذهب إلى المناسك، أو يذهب إلى الحج، أو نحو ذلك، وهو لا يريد إلا أمرًا من الدنيا، فهذا ليس له من حجه نصيب، هو لا يريد الحج، هو يريد أن يحصل مكاسب، كأن يقال له مثلاً: من حج أعطي إجازة، من حج أعطي راتب مضاعف.
أو أن يكون هذا الإنسان قد وعد بأنه إذا حجّ يعطى مكافأة من قبل أهله مثلاً، أو نحو ذلك، أو يزوج، أو.. فحج من أجل هذا وهو لا يريد الحج، حج لهذا، فهذا ليس له نصيب، وإنما قصد الدنيا فحسب.
وأما الذي يريد الرياء والسمعة، فهو يريد ما عند الله، لكنه يلتفت إلى شيء آخر، يريد أن يقال: يا حاج، أن يتحدث عند الناس، أو أن يتحدث الناس عنه أنه يحج، أو أنه يحج كل عام، أو أن يقال عنه: بأنه حج عشر مرات، أو عشرين مرة، أو ثلاثين مرة، أو خمسين مرة، فهذا كله من قبيل الرياء والسمعة، وذلك يبطل العمل، يفسده.
أما من تمحض قصده للرياء والسمعة، فهذا نسأل الله العافية، يعني لا يريد إلا الرياء والسمعة، فهذا أسوأ هذه الأحوال، -والله تعالى أعلم-.
فالمؤمن ينبغي عليه أن يتجرد في قصده، وأن يريد ما عند الله في حجه، وعمله، وسعيه، وعباداته، فإن التفت إلى أمر يجوز الالتفات إليه فهذا لا إشكال فيه، ولكن مرتبته تكون دون الأول.
مثل الذي يصوم يريد ما عند الله ويريد أن يصح بدنه، فهذا جائز، ولكن يكون ذلك على سبيل التبع، إنسان يزكي ماله يريد ما عند الله ، ويريد أن ينمو هذا المال، لكن إذا كان يزكي فقط لينمو هذا المال، ويصوم من أجل أن يصح البدن فقط، فهذا ليس له عند الله نصيب.
فإذا كانت جميع الأعمال بهذه المثابة فهو متوعد بقول الله -تبارك وتعالى-: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].
وهكذا في قوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18]، وما إلى ذلك من الآيات.
فتجريد القصد، وإرادة العبادة، ومعرفة تفاوت الأعمال من هذه الحيثية، وما يجوز الالتفات إليه، وما لا يجوز الالتفات إليه من المقاصد أمر مطلوب لا بد منه، من أجل أن يعرف العبد أحوال العمل والعاملين.
- أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب ما جاء في قول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11]، وقوله: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، برقم (2050)، وبرقم (4519)، كتاب تفسير القرآن، باب ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم. ومسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((بني الإسلام على خمس))، برقم (16).