الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
كتاب الجهاد، الجهاد معنى واسع، ويقال بهذا الإطلاق الواسع لكل ما يصدق عليه ذلك ابتداء من جهاد النفس والهوى والشيطان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- إلى القتال، فهذا كله يقال له: الجهاد بمفهومه الشامل الواسع، لكن عند الإطلاق إذا قيل الجهاد، إذا أمر الشارع به، وهكذا في الأبواب التي يذكرها الفقهاء -رحمهم الله- كتاب الجهاد، وفي أبواب الفضائل في كتب السنن، وما إلى ذلك، كل هذا يقصد به الجهاد بمعناه الخاص، الذي هو القتال كما هنا فليس الكلام هنا في مجاهدة النفس، وإنما في الجهاد الذي بمعنى القتال، لكن يبقى بهذا المعنى الخاص الذي هو أعلى درجات الجهاد، وأفضل وأجل الدرجات الداخلة تحته، ما المراد به؟
هل كل قتال يقال له جهاد؟
العلماء -رحمهم الله- يقولون: الجهاد هو قتال الكفار.
ثم قال: باب فضل الجهاد، وكعادته -رحمه الله- يصدر الأبواب بآيات من القرآن الكريم، فذكر قول الله -تبارك وتعالى-: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:36].
وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً هذا أمر حينما يذكر فضل الجهاد، يعني أنه مشروع؛ لأن الله أمر به وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وهذه الآية فيها كلام كثير معروف لأهل العلم، هل هي ناسخة للآيات، أو ناسخة لما قبلها من قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً جاء هذا بعد هذا، وقال في سورة البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ الآية [البقرة: 217] هذا في حرمة القتال في الأشهر الحرم، والعلماء -رحمهم الله- مختلفون هل نسخ ذلك؟ القتال في الأشهر الحرم هل هو منسوخ، أو أنه محكم، لا يجوز في أي زمان أن يقاتل الإنسان اختيارًا في الأشهر الحرم، اختيارًا لا اضطرارًا؟
فالذين يقولون: إنه منسوخ، أعني ما جاء في قوله -تبارك وتعالى- في سورة البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ بعضهم يقول: منسوخ بهذه الآية، أن الله ذكر الأشهر، وذكر منها أربعة حرم، ثم قال: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً قالوا: فهذا نسخ لتحريم القتال في الأشهر الحرام، وفهموا من قوله: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً يعني أن ذلك بإطلاق، في الزمان والمكان، وأيضا من حيث الأفراد قاتلوهم جميعا كما يقاتلونكم جميعا، فقالوا: لم يقيد ذلك بقيد، فيبقى هكذا على إطلاقه من هذه الجهات.
واستدلوا أيضا بأن النبي ﷺ لما سار إلى حنين سار إليها في شهر ذي القعدة[1]، وذو القعدة من الأشهر الحرم، والواقع أن النبي ﷺ ما سار إلى حنين اختيارًا، ولكن أهل الطائف خرجوا من الطائف إلى وادي حنين يقصدون مكة؛ لأنهم رأوا النبي ﷺ لما فتح مكة أنه لم يبق إلا أن يتوجه إليهم، فقصدوه، وأرادوا قتاله ﷺ فخرج إليهم -عليه الصلاة والسلام- لما بلغه ما صنعوا، فيكون هذا الخروج ليس من باب الاختيار، لم يحدد المعركة رسول الله ﷺ من جهة المكان والزمان.
ثم إن قوله -تبارك وتعالى-: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً يعني قاتلوهم جميعا كما يقاتلونكم جميعا، وليس المراد قاتلوهم في كل زمان كما يقاتلونكم في كل زمان، فالأقرب -والله تعالى أعلم- أن حرمة الأشهر الحرم باقية، وأنه لا يجوز القتال فيها اختيارًا، لكن لو أن الكفار هجموا على المسلمين، أو سيروا إليهم جيشا، فليس بصحيح أن المسلمين ينتظرون حتى يقتلون؛ لأنهم في الأشهر الحرم، بل إنهم يقاتلون من باب الدفع.
وقوله -تبارك وتعالى- في خاتمة هذه الآية: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أي بالنصر والتأييد فمن أراد النصر على الأعداء فعليه بالتقوى، تربية النفس، والأمة على التقوى، فعندئذ تنتصر الأمة، وإذا حصلت الأحداث الكبار؛ بدأ الناس يسألون، بدأ الشباب يسألون ما دورنا؟ ماذا نستطيع أن نقدم للأمة، ماذا نصنع؟
ليس الآن، وإنما ينبغي أن يكون الإنسان في حال من تزكية النفس وإصلاحها، وتقوى الله -تبارك وتعالى- فعندئذ تكون الأمة مهيأة للنصر.
أما ردود الأفعال السريعة والآنية؛ فإن هذه قد لا يحصل من جرائها كبير نفع، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر قوله -تبارك وتعالى-: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
كتب عليكم القتال أي أن الله كتبه عليكم، ومعنى الكتب أي الفرض، فهي إحدى العبارات الدالة على الوجوب، وقد ذكر هذه العبارات، وجمعها الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في كتابه بدائع الفوائد العبارات الدالة على الوجوب في ألفاظ الشارع، منها الكتب كُتِبَ عَلَيْكُمُ وهل القتال، واجب على كل أحد، أو أنه فرض على الكفاية، في أول الأمر كان واجبا على الجميع.
وقوله -تبارك وتعالى-: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً مما يستدل به لذلك، ولكن الله أنزل بعده قوله -تبارك وتعالى-: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ فهذا يدل على أنه لا يجب على الناس أن ينفروا جميعا، مع أن الله قال في سورة براءة نفسها انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً كما سيأتي.
فهنا قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ كره لكم؛ لأن فيه إزهاق النفوس، ذهاب المهج، وهذا أغلى ما يملكه الإنسان، ولذلك كان ذهاب ذلك في سبيل الله -تبارك وتعالى- يبلغ به صاحبه أعلى المقامات يقال: شهادة تدل على صدق الإيمان، كما أن الصدقة قال عنها النبي ﷺ: برهان[2] أي تدل على صدق دعوى الإيمان، فإذا قدم على هذه الدعوى ما يصدقها من المهج، والأموال التي هي أغلى ما يكون فإن ذلك يدل على صحة هذه الدعوى.
قال: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ يعني ما يدريك قد يكون المقدور الذي يكرهه الإنسان، أو المكتوب من الأحكام الشرعية، وهو ثقيل على النفوس، لكن الخير فيه، ويعقبه المحبوب، فالإنسان لا يعلم الغيب، لا يعلم عواقب الأمور، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ هذا لا يختص بالقتال والجهاد، وإنما فيه وفي غيره، الإنسان يرضى بأقدار الله لأنه مع المحن قد تكون المنح، فلا يجزع، ولا يتسخط، وإنما يرضى ويسلم، ونحن نشاهد ذلك في حياتنا وأحوالنا وواقعنا، يكره الإنسان أمورا ثم ما يلبث أن ينكشف من الغيب أن ما كرهه كان عين الخير والنفع له.
قال هنا: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فالجهاد كتب على الناس، كتب على المسلمين، كتب على الأمة على سبيل الكفاية، وفيه خير لهم، وذلك أنه يكون فيه إعزاز الدين، ويكون فيه أيضا كبت الكافرين وإذلالهم، والله يقول: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ كل هذه الأشياء ذكرها تبعا للقتال والجهاد، فيحصل فيه إغاظة الكافرين، ويحصل فيه دفع غير هؤلاء ممن لا نعلمهم، فيخافون ويكف شر كثير عن المسلمين، ولهذا قال الله -تبارك وتعالى- في باب النفقة في سبيل الله : وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ من أحسن ما فسر به هذا ما قاله ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنفقوا في سبيل الله، يعني في الجهاد في سبيل الله وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ قال: إنهم إذا امتنعوا عن النفقة في سبيل الله للجهاد قوي عدوهم عليهم فظهر وأخذ ما بأيديهم، واستباح بيضتهم، إذا تركوا ذلك؛ يقوى العدو، ثم بعد لك يظفر بهم، وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ: ابن عباس فسر التهلكة بترك الإنفاق للجهاد في سبيل الله، فالعدو ينتفش، والمسلمون يضعفون، فتشل حركتهم، ولا يستطيعون دفع العدو، ولا يستطيعون شراء السلاح، ولا يستطيعون مقاومته، فيتلاشون، فيتمكن العدو منهم، فذلك إلقاء باليد إلى التهلكة إن كانت الأمة تعقل عن الله -تبارك وتعالى- والله المستعان.
ثم قال: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هذا أمر بالنفير العام، خِفَافًا وَثِقَالاً قيل: نشطاء، وغير نشطاء، يعني حينما تنشط النفوس إذا كان الجهاد إلى مكان قريب، أو فيه غنائم متوقعة كبيرة، أو عدو ضعيف، وَثِقَالاً: يعني متثاقلين، وبعضهم قال: أصحاء ومرضى، وبعضهم قال: جماعات وأفراد، وبعضهم قال: خِفَافًا وَثِقَالاً: يعني شيوخًا وشبانًا.
والله -تبارك وتعالى- لم يحدد معنى من هذه المعاني، والآية تحتملها جميعًا، إلا من عذره الله -تبارك وتعالى- كقوله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ إلى آخره، فهذه الآية نسخت بقوله -تبارك وتعالى-: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً قال: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جهاد بالمال وبالنفس، وقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، مع أن الجهاد بالنفس أعظم، ذكر بعضهم علة لذلك، بأن الجهاد بالنفس لا يتأتى إلا بالجهاد بالمال، لا يستطيع الناس الجهاد بأنفسهم إلا إذا كان بأيديهم المال، فقدم الجهاد بالمال قال: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وسبيل الله إذا أطلق في القرآن فالمقصود به الجهاد، وعلى كل حال الآيات التي ذكرها كثيرة أكتفي بهذا في هذه الليلة، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.