الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل الجهاد أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي؛ فهو ضامن عليّ أن أدخله الجنّة، أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه بما نال من أجر، أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيأته يوم كلم، لونه لون دم، وريحه ريح مسك، والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله، فأقتل، ثم أغزو، فأقتل، ثم أغزو، فأقتل[1]، رواه مسلم، وروى البخاري بعضه.
قوله ﷺ: تضمن الله لمن خرج في سبيله معناه ضمن، ويوضحه رواية أخرى من حديث أبي هريرة وأرضاه: توكل الله للمجاهد في سبيله[2]، قال: تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جاهد في سبيلي لمن خرج في سبيله وعرفنا أن سبيله هو أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا فقط، وما عداه فليس في سبيل الله.
قال: لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وهذا يفيد الحصر، أنه لم يخرج لأمر آخر، يعني قد يخرج جهادًا في سبيل الله، وله أيضًا مقاصد أخرى غير محمودة، قد يداخله الرياء أو السمعة، أو نحو ذلك، ولكن ذلك أيضا لا ينافي أن يخرج، وهو يريد ما عند الله، يجاهد في سبيله، وهو يريد أيضا المغنم، فإن هذا يكون على سبيل التبع، لكنه لا ينفرد القصد به، لا يكون ذلك مقصودًا له قصدًا أوليًا، وإنما يكون بالقصد التابع، فهذا لا إشكال فيه، وكما قال الله في الحج: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ يعني التجارة في مواسم الحج، وهذا معروف، وإن كان الذي يخرج يريد ما عند الله فقط أكمل، وهو في أعلى المراتب.
ولهذا قال هنا: لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي كل هذا يؤكد هذا المعنى أن خروجه لله، وفي الله، وطلبًا لما عند الله، وتصديقًا بموعود الله قال: فهو ضامن عليّ أن أدخله الجنة ضامن بعضهم يقول: المعنى أنه ذو ضمان، كما تقول: فلان لابن، وتامر، أي صاحب لبن ذو لبن، وذو تمر، يعني أن له ضمانًا من الله -تبارك وتعالى- ذو ضمان، وبعضهم يقول: إن ضامن هنا يريد به معنى المفعول، أي أنه مضمون له ما ذكر من الجنة، ونحو ذلك، ضامن على الله، ويفسره ما سبق، تضمن الله، وكذلك توكل الله لمن خرج في سبيله.
ضامن على الله، أي أن الله -تبارك وتعالى- قد ضمن له ذلك، ضامن عليّ أن أدخله الجنة، يعني إذا مات أو قتل، وظاهره أن دخوله الجنة من غير حساب، من غير أن يعذب في النار، وإلا فكل مؤمن يدخل الجنة، لكن بعدما يمحص.
قال: أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة أو هذه تحتمل التقسيم، فهل يفهم من ذلك أنه إن رجع بغنيمة لا يرجع بأجر؟ يعني إما بأجر، وإما بغنيمة، أو يقال ذلك للعطف، أو التنويع بمعنى أنه يرجع بما نال من أجر وغنيمة، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم- وإن كان رجوعه بغنيمة يكون من قبيل تعجل أجره، أو تعجل بعض الأجر كما يدل عليه حديث عمرو بن العاص عن النبي ﷺ: ما من غازية تغزو[3]، ثم ذكر بعد ذلك أنه إن رجعوا إن حصل لهم غنيمة أنهم قد تعجلوا ثلثي الأجر، وإن لم يرجعوا بغنيمة؛ فإنهم يرجعون بأجرهم كاملاً، تامًا غير منقوص.
قال: والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله الكلم معروف هو الجرح، وهذا قد يكون بإصابة العدو له، وقد يكون ذلك بغيره، مثل لو أنه أدمته حجارة في الطريق، أدماه شوك، شجر، ثم إن التنكير هنا في قوله: ما من كلم يكلم كلم، فهذا يصدق على الصغير والكبير، والقليل والكثير، فكل ما يقع له من ذلك؛ يحصل له ما ذكر من الأجر والثواب، وما رتب عليه من قوله ﷺ: ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيأته يوم كلم هذا يدل على أنه ليس القتل فقط في سبيل الله، الشهيد، لا، حتى الذين يصابون بالجراح في الجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى-.
إلا جاء يوم القيامة يعني في المحشر، البعث كهيأته يوم كلم يعني لم يجف الجرح، ولم يحصل له تجلط، قال: لونه لون دم، وريحه ريح مسك فهذا فيه جاء معه بهذه الشهادة التي يتشرف بها بين الخلائق يأتي بهذه الجراح اللون لون الدم، والريح ريح المسك، فيجد الناس فضله في أرض المحشر، والدم شيء مستكره -كما هو معروف- والناس يتنزهون منه، ويغسلونه من أبدانهم وثيابهم، ولكنه في يوم القيامة يأتي دم لا يستقذر الناس رؤيته، وإنما يجدون منه رائحة المسك، فهذا يدل على كل حال أن المسألة ليست مجرد القتل، ثم إن ذلك لا يطلب في الدنيا كما يظنه بعض الناس، وللأسف الجهل حينما يكثر، ويروج؛ تحصل بسبب هذا إشكالات كثيرة جدًا.
فكم سمعنا من أناس حينما كانوا يزاولون أعمالاً يجاهدون فيها عدوهم، ونحو ذلك أنهم يتحدثون ربما قد تكون كرامة، لكن كرامة يعني شيء خارق للعادة، قد يوجد، لا ننكر نحن كرامات تحصل لأهل الفضل والصلاح، وما إلى ذلك أنه يوجد ريح مسك، لكن هذا خارق للعادة، بمعنى أن القتلى في سبيل الله في الدنيا لا يظهر منهم رائحة مسك، إنما هذا قال: يوم القيامة، فكثير من الناس يخلط، ويظن أن هذا يحصل في الدنيا، وبعضهم قد يكذب إما في الإخبار عن غيره من باب التثبيت بزعمه، أو تلفيق كرامة لزيد من الناس، وبعضهم قد يكذب لنفسه، وقد اعترف بعضهم بهذا أصيب، وظن أنه يموت، أو ربما إصابة بالغة، ومعه قارورة مسك معدة من قبل، فوضعها وهو مصاب، وتحدث الناس عن رائحة المسك، ثم سلم وبرئ وشفي، وبعد مدة أخبر أن ذلك لم يكن منه شيء، وإنما هو الذي وضع هذا المسك.
فأنا أقول مثل هذه الأشياء، حينما نعلم من البداية أن هذا أصلاً في يوم القيامة فلا داعي للتعلق به بحيث يظن الواحد أنه إن لم يوجد منه ريح المسك فمعنى ذلك أنه ليس بشهيد، وأن نيته مشوبة، العلم أيها الأحبة يخلص الإنسان من كثير من الإشكالات التي يوقعها فيه الجهل.
يقول: والذي نفس محمد بيده كرر ذلك هنا أقسم على قضية ثانية لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدًا يبين كيف تكون المشقة بما ذكر بعده، والسرية هي قطعة من الجيش، يعني كحد أقصى تصل إلى أربعمائة، وتتقدم الجيش، أو يرسلها القائد لبعض النواحي لمهام استطلاعية أو قتالية، أو غير ذلك، قيل لها سرية بعضهم يقول: آخذا من هذا اللفظ، وهو أن هؤلاء سراة، يعني أنها خلاصة الجيش، وأن هؤلاء هم النخبة، الذين خصوا بالمهام الصعبة، وبعضهم يقول: لأن عادة هذه السرية أنها تسير في جنح الليل، تسري؛ لئلا يراها أحد؛ لئلا تكتشف، فقيل لها: سرية، على كل حال هي قطعة من الجيش.
ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم يعني ما عند النبي ﷺ من المال والدواب والمراكب ما يحملهم عليه كما قال الله فيمن عذرهم، قال: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ فهؤلاء قد وضع الله عنهم المطالبة والمؤاخذة.
قال: ولكن أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة هم أيضا فيشترون ما يحتاجون إليه ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده أعادها ثالثًا لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل يعني ثلاث مرات هذا قد يرد عليه إشكال، وهو أن النبي ﷺ أعلمه الله -تبارك وتعالى- أنه حفظه من الناس وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وأنه لن يقتل، مع أن الله قال: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وقال: (كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) في القراءة هذه، وعلى الوقف (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ) مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا هذا معنى آخر.
فالشاهد هنا: من أهل العلم من يقول: لعل ذلك كان قبل أن يطلعه الله على هذا الأمر الذي كان غيبًا، وهو أنه لن يصل إليه أعداؤه بالقتل، والله يعصمك من الناس، ولكن يرد عليه أن مثل هذا حديث أبي هريرة أبو هريرة أسلم، والنبي ﷺ في خيبر، عام خيبر، وقوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ كان في أوائل ما نزل في المدينة، لكن على كل حال لا يلزم أن أبا هريرة سمعه من النبي ﷺ بعدما أسلم، قد يكون سمعه من غيره، وقد يكون قاله النبي ﷺ أولاً، ثم قاله ثانيا،، لكن حتى لو قاله ثانيًا فيرد عليه نفس الإشكال.
والظاهر -والله تعالى أعلم- أن ذلك قاله النبي ﷺ لبيان الفضيلة، وأن تمني المنازل الشريفة لا يعني التحقق والوقوع، تمنى ذلك، ولكن يعلم أن ذلك لن يحصل له -والله تعالى أعلم- هذا ما يتعلق بهذا الحديث.
ثم ذكر حديثا آخر أو حديثين بهذا المعنى، وهو حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة، وكلمه يدمى يعني الدم ينزف اللون لون دم، والريح ريح مسك[4]، متفق عليه.
فهذا في القيامة، جاء يوم القيامة مع أنه قد يحصل في الدنيا على سبيل الكرامة، وقد حصل، يعني شهداء أحد -رضي الله عنهم وأرضاهم- ما الذي حصل لهم؟ جابر بن عبد الله لما دفن أبوه في قبر مع غيره لم تطب نفسه بذلك، ما طابت نفسه بهذا، فجاء بعد مدة، وحفره، فوجده لم يتغير طري، ووجد الدم رطبًا، الدم رطب كأنه الآن جرح، ثم بعد ذلك في عهد معاوية أجريت عين قبالة أحد، وهذا كان بعد سنة أربعين، يعني بعد ما يقرب على الأقل من أربعين سنة، أو ما يقرب من سبعة وثلاثين سنة، في عهد معاوية أجريت عين، فكانت باتجاه القبور، فحفرت القبور، ووجدوهم كما هم، وضربت الآلة، آلة الحفر ضربت رجل عبد الله بن حرام -رضي الله تعالى عنه- ففاضت دمًا، كأنهم أحياء[5].
الشاهد" أن هذا يقع على سبيل الكرامة، وإلا فالأصل أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- تبقى أجسادهم، كما جاء عن النبي ﷺ: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء[6]، أما غيرهم فإن الأرض تأكل أجسامهم في الأصل، وتتلاشى في الأرض، لكن قد يبقي الله ذلك لبعضهم، وهذا موجود إلى يومنا هذا، يعني يحصل كرامة لبعض الناس، لكن هذ خلاف الأصل، بمعنى أنه إذا وجدنا الإنسان قد ذهب، واضمحل ليس معناه أنه ليس له حظ ونصيب عند الله، أو ليس من أهل الصلاح، لا، الأصل أن الناس تأكل الأرض أجسامهم، ثم يبعثهم الله بعد ذلك، والله تعالى أعلم.
على كل حال يكفي هذا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، برقم (1876).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، برقم (2787).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان قدر ثواب من غزا فغنم، ومن لم يغن، برقم (1906).
- أخرجه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب المسك، برقم (5533)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، برقم (1876).
- انظر: السيرة الحلبية، للحلبي (2/339).
- أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الجنائز، باب ذكر وفاته ودفنه -صلى الله عليه وسلم-، برقم (1636)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (1366).