الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا "باب فضل العتق"، والمقصود بالعتق يعني تحرير الرقاب من الاسترقاق والملك، قال الله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ [البلد:11-13].
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ يعني دخل وتجاوز بشدة، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ كأنه جعل الأعمال الصالحة عقبة تجاوزها يحتاج إلى بذل وجهد، مجاهدة للنفس والهوى والشيطان حتى يستطيع الإنسان أن يتغلب عليها، فهذه الأعمال والمزاولات التي يحبها الله -تبارك وتعالى- لاسيما الكبار منها: هي عقبة تحتاج إلى اقتحام، تحتاج إلى دفع وتجاوز بشدة، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ.
فَكُّ رَقَبَةٍ تخليصها من الرق، وقيل للرقبة: رقبة تعبيرًا بالجزء والبعض عن الكل، الإنسان يعبر عنه بجزء لازم منه، ولما كانت الرقبة لا تنفك إلا بمفارقة الحياة عبر بها عن المملوك، فتحرير الرقاب، يعني من الاسترقاق.
وبعضهم يقول: إنه قيل له ذلك كأنه قد جعل الغل في عنقه، الرباط الذي يوضع في العنق، يقاد به الدابة، أو يقاد به الأسير، أو يقاد به الرقيق إذا كان منفلتًا شاردًا على سيده، يقال له: غل.
فهنا قال: عن أبي هريرة قال: قال لي رسول الله ﷺ: من أعتق رقبة مسلمة، أعتق الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار، حتى فرجه بفرجه[1]، متفق عليه.
قوله: من أعتق رقبة مسلمة بهذا القيد لكنه لم يقيد ذلك بقيود وأوصاف أخرى زائدة، ما قال مثلاً: من أعتق رقبة كاملة تامة، يعني ما فيها إعاقات مثلاً من أعتق رقبة ذكرًا، وإنما أطلق من أعتق رقبة مسلمة فيصدق على الذكر والأنثى والكبير والصغير، والصحيح والمعاق بهذا الإطلاق مع أننا نجد بعض الاشتراطات في الرقبة المجزئة في الكفارات، فيذكر أهل العلم شروطًا لهذه الرقبة مثلاً، تكون عندها قدرة على العمل ما هي معاق، ونحو ذلك لكن هنا لم يقيده، لكنه قوله ﷺ: أعتق الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار، قالوا: إذا كان كذلك فإذا كان هذا الإنسان قد فقد -يعني المُعْتَق- فقد بعض أعضائه فإن ذلك لا يكون عتقًا لبعض أعضاء المُعِتق مما يقابلها، ولهذا قالوا مثلاً: المجبوب، وهذا يكثر في الأرقاء؛ ليدخل على النساء، فهذا يعتبر من ناحية كمال، يعني الذين عندهم نساء يريدون المملوك أن يدخل عليهن فلربما يفضلون المجبوب، ونحوه مما يحصل به أمن الوقوع في الفاحشة مع أن المجبوب لا تنقطع شهوته، وتجدون في كثير من الكتب للمجان، ونحو ذلك أشياء من هذا القبيل مما يزاولونه مع النساء، بل لربما تفضل بعض النساء المجبوب؛ لأنه يطول مواقعته لها فيحصل بذلك قضاء وطرها، وإن لم يكن يستطيع الجماع فهو من ناحية مأمون، ومن ناحية غير مأمون، لكن بعض ما يفعل بهم تنقطع معه الشهوة.
فالمقصود هنا أن قوله ﷺ: من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار حتى فرجه بفرجه، معناه أن الكامل في أعضائه وأبعاضه أفضل من أجل أن يتحقق إعتاق كل عضو من الإنسان فيما يقابل ذلك العضو في المملوك، ومفهوم قوله ﷺ: من أعتق رقبة مسلمة، أن من أعتق كافرة لا يتحقق له ذلك، لكن هل المرأة مثل الرجل؟
أما إعتاق المرأة للمرأة فلا إشكال فيه أنه يعتق كل عضو منها بعضو منها.
وفي بعض الروايات: كل عظم بكل عظم منها[2]، يعني مما يقابله، لكن إذا أعتق الرجل امرأة هل يكون ذلك عتقًا لكل عضو منه بكل عضوًا منها مثلاً؟
الجواب: لا، لا يكون كذلك، فإنه قد صح عن النبي ﷺ بأن من أعتق امرأتين مسلمتين فإنه يعتق بكل عضو منهما عضو منه من النار[3]، فهذا ثابت عن النبي ﷺ فهو نص في المسألة، فيكون إعتاق المرأة لا يكون إعتاقًا للرجل، لكل عضو منه، وإنما إعتاق امرأتين؛ لأن دية المرأة نصف دية الرجل، فالرجل والمرأة يستويان في الإنسانية سواء، ويستويان في الثواب والجزاء والعقاب والتكليف، والمسؤولية إلا ما استثناه الشارع، وفرق فيه بين الرجل والمرأة وإلا الأصل أن النساء شقائق الرجال لكن من الفروقات أن دية المرأة نصف دية الرجل، وليس ذلك عيبًا تعاب به المرأة، لكن الرجل في مزاولاته، وما يحصل على يده وما يصلح له من المنافع والأعمال والخلافة وما إلى ذلك لا يكون للنساء، وكما في قوله -تبارك وتعالى- عن امرأة عمران: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى [آل عمران:36]، ولا يستطيع أحد أن يغالط بهذه الحقائق الناصعة في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فالشاهد أن المرأة إذا اعتقت امرأة كان ذلك إعتاقًا لكل عضو منها بعضو من هذه من النار.
وإذا أعتق الرجل الرجل فكذلك، وإذا أعتق الرجل امرأتين فكذلك.
ثم ذكر حديث أبي ذر قال: قلت يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله[4]، وقد سبق الكلام على هذا، وأن الجهاد لا يعني العطف، لا يعني التساوي أن الجهاد يساوي الإيمان بالله، وهناك أيضًا أعمالاً أخرى ذكرها النبي ﷺ بأنها أفضل الأعمال.
قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمنًا، متفق عليه.
قوله: أنفسها عند أهلها، يعني يكون هذا المملوك نفيسًا، ما وجه النفاسة فيه؟
وجه النفاسة أن يكون هذا الإنسان مثلاً قوي شجاع في الحروب، أن يكون هذا الإنسان فارسًا، أن يكون هذا الإنسان فيه قوة كبيرة على العمل، وصبر وجلد، أن يكون هذا الإنسان عنده من العلم مثلاً، أو نحو ذلك مما يتفاضل به الناس، وقد يرجع ذلك إلى الجمال، فقد تكون جارية في غاية الجمال فأعتقها، وابن عمر أعتق جارية، كذلك عنده كانت أحب المال إليه، لما سمع قول الله -تبارك وتعالى-: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، فهنا قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنًا، متفق عليه.
فأخذ من هذا أهل العلم بأن الأفضلية تكون باعتبار هذا المعنى الأنفس، والأكثر ثمنًا، ولهذا ذهب بعضهم كالإمام مالك -رحمه الله- إلى أن ذلك منظور إليه بإطلاق، يعني حتى ولو لم يكن مسلمًا؛ لأنه هنا ما قال: الإسلام إنما قال: أنفسها عند أهلها، سئل عن الرقاب ما قال: المؤمنة، أو نحو ذلك، وإنما قال: أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمنًا فأطلقه؛ ففهم منه الإمام مالك -رحمه الله- الإطلاق، فقال: ولو كان كافرًا ينظر إلى هذا الوصف، والأقرب -والله أعلم- أن ذلك يقيد في إعتاق المؤمن، كما قال الله : وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [البقرة:221].
وقال عنهم: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7] فما قيمة هذه الأشياء التي يحسنها إذا كان لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فالأقرب أن ذلك مع الإسلام أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنًا.
لو أنه بهذا الثمن يعني هؤلاء أرقاء هذا رقيق نفيس يمكن الآن الأرقاء فيمن يزعمون أنهم يملكون يبيعون بأسعار البنت البكر سوداء شديدة السواد بنحو خمسة وثلاثين ألف تقريبًا والبنت الثيب لربما تصل إلى عشرين، والصغير يباع باثني عشر ألف، ونحو ذلك كان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز[5] -رحمة الله عليه- الناس حينما يطلبون، أو يكون عليهم كفارات لربما ذكر لهم شيئًا من هذا في بعض البلاد في إفريقية، ولكن الواقع أن هذا لا يوثق به فهؤلاء قد أطلقوا من أيام الاستعمار، فبقيت ذكريات، وهم لا يقدرون عليه، ولا يوثق بهذا الرق إطلاقًا، ولا يدرى ما أصله، لربما إغارات قبائل يسترقونهم، يسترقون الأحرار، ربما لا أحكم على الجميع، ولكن كل هؤلاء لو قيل لهم أعطونا ورقة سلموا لنا هذا الرقيق لا يستطيعون إلا ما ندر، فبعض هؤلاء الأرقاء قد يكون فيه خوف من الله ، ويعلم أن إعتاق الاستعمار الفرنسي في تلك البلاد، أو غير الفرنسي، أنه لا عبرة به فيبقى عند سيده، ويبيعه، ونحو ذلك.
فالشاهد أن هذا يتفاوت، الآن لو عندنا مملوك يجيد أعمال، ويجيد صناعات، صانع يجيد، يمكن أن يكون له دخل كبير من المال فيساوي مثلاً: خمسمائة ألف، لكن عندنا مجموعة من النساء والأطفال والشيوخ والرجال الذين لا يحسنون كثيرًا، الواحد منهم باثنا عشر، فهل خمسمائة ممكن نعتق بها مجموعة كبيرة ما الأفضل؟
بعض أهل العلم نظر إلى هذا مطلقًا قال: أنفسها عند أهلها، حتى لو كان واحد.
وذهب بعض أهل العلم، وهذا قال به جماعة إلى أنْ الذي يراعى في الأضاحي الأغلى، والأنفس والأطيب؛ لأن المقصود هو اللحم، فواحدة جيدة بألفين ريال أفضل من ثنتين الواحدة بألف هذا في الأضاحي، وهذا قال به الشافعي[6]، والبغوي[7] من الشافعية، وقال به النووي[8] صاحب هذا الكتاب، قالوا: بالنسبة للماليك إعتاق اثنين أفضل من إعتاق واحد نفيس؛ لأن النبي ﷺ سئل عن أفضل الرقاق فقال: أنفسها عند أصحابها، لو كانت هذا الثمن سيوضع في اثنين من أجل أنه يحرر مجموعة يحرر أكثر من نفس في الرق يخلصها منه، ويعتق منه أيضًا مثلما أعتق منه من النار، فمن أهل العلم كهؤلاء الأئمة الشافعي والنووي والبغوي قالوا: إن إعتاق الاثنين أفضل من إعتاق واحد غالي الثمن.
والأقرب -والله أعلم-، هو التفصيل أن هذا فيه تفصيل، وهذا الذي ذهب إليه الحافظ ابن حجر[9] -رحمه الله- أنه يفصل فهؤلاء يتفاوتون فقد تعتق واحد يكون صاحب نجدة وفروسية وقوة وبأس في الحرب أفضل من أن تعتق اثنين أو ثلاثة أو خمسة أو عشرة لا بلاء فيهم، وإنما يجلسون عند أبواب المساجد يسألون الناس، فهؤلاء قد لا يحسن عتقهم أصلاً؛ لأنهم سيكونون عالة على أنفسهم، سيكون العتق جناية عليهم، ولهذا قال الله في المكاتبة مع المملوك الذي يريد الإعتاق بأقساط يدفعها للمالك: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33].
والأقرب أن الخير يراد به في الآية أنه القدرة على الكسب مع الوفاء، عنده وفاء مع قدرة على الكسب، ولهذا ابن عمر أبى أن يعتق مملوكًا له، قال: "تطعمني من أوساخ الناس"[10]، يعني يذهب ويجمع صدقات وزكوات من أجل أن يُعتق، ما عنده قدرة على الكسب، ما عنده صنعة، فيبقى عالة على المجتمع إذا أعتق فكونه يبقى عند سيده يطعمه ويرعاه أفضل من أنه يضيع، ولذلك كثير من هؤلاء الأرقاء قد يكون العتق جناية عليه باعتبار أنه لا يحسن شيئًا، فإذا ترك ضاع، فهنا يقال بالتفصيل.
بعض العلماء كانوا أرقاء وأعتقوا لما ظهرت نجابتهم أمثال عطاء بن أبي رباح، وأئمة في العلم فإعتاق هذا أفضل من إعتاق مائة من الكاسدين، الذين أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ [النحل:76]، لا علم ولا عمل، هو يريد أن يأكل وينكح وينام فقط، وكثير منهم بهذه المثابة، فهذا ما الفائدة من عتقه؟!
فإن كان واحدًا فيه من المواصفات الجيدة ما يجعله ينتفع وينفع المجتمع، فهذا أفضل من إعتاق مجموعة لا نفع بهم، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب كفارات الأيمان، باب قول الله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] وأي الرِّقاب أزكى، برقم (6715)، ومسلم، كتاب العتق، باب فضل العتق، برقم (1509).
- أخرجه النسائي في السنن الكبرى، برقم (4860)، وعبد الرزاق الصنعاني في مصنفه، برقم (2906).
- أخرجه أبو داود، كتاب العتق، باب أي الرقاب أفضل، برقم (3967)، والترمذي، باب ما جاء في فضل من أعتق، باب ما جاء في فضل من أعتق، برقم (1547)، وابن ماجه، أبواب العتق، باب العتق، برقم (2522)، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2611).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم (84).
- مجموع فتاوى ابن باز (20/ 265).
- انظر: روضة الطالبين وعمدة المفتين (6/ 165).
- انظر: التهذيب في فقه الإمام الشافعي (8/ 39-40).
- انظر: روضة الطالبين (6/ 165).
- انظر: فتح الباري لابن حجر (10/ 13).
- انظر: مصنف عبد الرزاق الصنعاني (8/ 374)، برقم (15585).