الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:
فمما جاء في فضل العلم: حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة[1]، وقد مضى الكلام على هذا الحديث في الليلة الماضية.
ثم ذكر حديثًا آخر عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا[2]، رواه مسلم.
هذا أيضًا يدل على فضل العلم، فالذي قبله: من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة وفي بعض ألفاظه: سلك الله به طريقًا إلى الجنة[3]، فيهديه ويوفقه ويسدده، ويلزمه طاعته، فيصل إلى السعادة التي ليس بعدها سعادة، وإلى النعيم الذي ليس بعده نعيم.
وهذا الحديث: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه وذلك أنه يكون قد دل الآخرين وعلمهم، فيكون له كأجرهم؛ وذلك من عمله؛ لأن هذه الدلالة والإرشاد والتعليم هذا كله من عمله؛ ولهذا يأتي في الذين تجري لهم أعمالهم العلم الذي ينتفع به، حينما يورث الإنسان علمًا، فهذا دل الآخرين على هدى، فعملوا به بسبب دلالته، وعرفوه من طريقه، فله كأجرهم، دون أن ينقص من أجورهم شيء.
وكذلك أيضًا كما في الحديث نفسه: ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا فهذه الأوزار جاءت إليه باعتبار: أنه دل على هذه الضلالات، ودعا إليها؛ وذلك لا ينافي قول الله -تبارك وتعالى-: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] كما لا ينافي قوله -تبارك وتعالى-: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] فهذا لا شك فيه، وهو ثابت، كما سمعتم في هذه الآيات، فالإنسان لا تُحمل أوزار الآخرين فتوضع عليه، هكذا، أو أن يأتي أحد ويقول: أنا أتحمل وزر فلان، ولكن الإنسان قد يتحمل أوزارًا مثل أوزار الآخرين، من جهة أنها من عمله، وأنه متسبب فيها، وهو الذي دعا لها، كما قال الله -تبارك وتعالى-: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:25] وقال: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت:13] وذلك بسبب أنهم أضلوهم، ودعوهم إلى الشر.
وهنا تأتي الخطورة، كون الإنسان يأتي يوم القيامة بذنوبه وجرائره وأعماله السيئة أسهل بكثير من أن يأتي وهو أيضًا يحمل أوزار الآخرين، وأقرب ما هنالك من تحت يده من ولد وزوجة، حينما لا يقوم عليهم كما ينبغي، وحينما يوفر لهم الأجهزة التي تكون سببًا لانحرافهم، وحينما يسافر بهم هنا أو هناك، أو حينما يدعوهم إلى معصية الله صراحة، كالذي يأمر زوجته أو ابنته ألا تتحجب، ويسافر بهم، ويأمرهم بالتبرج والسفور مثلاً، أو يترك هؤلاء يضيعون بأي طريقة من طرق الضياع، فهذا يحمل وزرًا كوزرهم؛ لأنه هو الذي أضلهم.
وقل أيضًا مثل ذلك فيمن أضل الآخرين بكتاباته، أو أضل الآخرين بقناة أنشأها، أو ببرامج يقدمها، أو غير ذلك من الأعمال التي يضل بها الآخرين، وقد يكون له ولاية، فيجري -في ولايته وتحت نظره ولربما تحت أمره وطلبه- ألوان من الفساد، الذي تضلل به الأمة، فيأتي يوم القيامة بأوزار هؤلاء جميعًا، مع ما يحملونه هم أيضًا من الأوزار، فالمسألة ليست سهلة، فينبغي على الإنسان أن يخاف من أن يحمل وزر أحد، سواء كانوا من أقرب الناس إليه، أو غير هؤلاء، يكفي الإنسان أن يتحمل أوزاره.
والشاهد هنا على كل حال هو أن من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه وبهذا يتبين فضل الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-، وفضل التعليم.
فالإنسان عمره قصير محدود، والأعمال قليلة، والكسل غالب، لكنه حينما يدل الآخرين على ألوان الأعمال الصالحة، فيعملون بها، فإنه يأتيه من الأجور ما لا يطيقه بعمله الذي يزاوله بجسده، ومن هنا يكثر الإنسان أعماله، ويطول بذلك أيضًا عمره، فيموت والأعمال جارية، كما سيأتي فيما يبقى بعد موته.
ثم ذكر حديثًا آخر عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له[4]، رواه مسلم.
وقد مضى الكلام على هذا الحديث في مناسبة سابقة، في غير هذا الباب.
فقوله: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ما المقصود بعمله الذي ينقطع؟ يعني: العمل الذي صدر عنه، فهل هذا ينفي أو يدل على أنه لا يصح إهداء الثواب مثلاً إلى الآخرين؟
بعض أهل العلم يحتج بهذا الحديث، ويقول: إن أعمال الآخرين لا تنفعه، ولا تغني عنه، فإذا أهدوها له، فإن ذلك لا ينفع، وإنما ذكر النبي ﷺ هذه القضايا الثلاث: الصدقة الجارية، والعلم الذي ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، وبين أهل العلم خلاف مشهور، فيما يهدى من الأعمال، وجعلوا الأعمال على نوعين:
أعمال بدنية، فأكثر أهل العلم أنها لا تصل، وأعمال مالية، أما الدعاء فاتفقوا على أنه ينفع، وبعض أهل العلم حصر ذلك بما وردت به النصوص: كالحج والعمرة والصدقة، كما في حديث سعد بن عبادة في صدقته عن أمه[5]، والمرأة التي سألت عن أبيها في الحج[6].
فالشاهد: أن من أهل العلم من قصر ذلك عليها، فقالوا: عندنا عموم، وهو وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] وجاءت استثناءات في بعض الأدلة، فيوقف عندها فقط، والذي أظنه أقرب -والله أعلم- أن الأعمال تصل البدنية والمالية، ولكنه لا يشرع أن يصرف الإنسان الأعمال البدنية لغيره، فهو بحاجة إلى العمل، والعمر قصير، وأولئك أخذوا فرصتهم من العمر، وأفضوا بما قدموا، والإنسان بحاجة إلى أن يستزيد، ولا يزهد في الأعمال الصالحة، لكن لو أنه أهدى عملاً من الأعمال لغيره، فإن ذلك -والله أعلم- يصل.
وأما قوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] فذلك يدل على أنه لا يستحوذ على عمله غيره، ليس له إلا عمله، ولكن لو أن غيره أعطاه عمله، وتبرع به، فإن ذلك يصل إليه، والله تعالى أعلم، لكنه لا يشرع؛ لأن الشارع لم يرشد إلى هذا.
وكذلك الأعمال المالية أيضًا التي أحيانًا تكون في بعض الصور، قد لا تكون كما ينبغي، وإن كانت تصل، مثل هذه الموضة في هذه السنوات، الآن إذا مات أحد من الناس، يقول زملاؤه ومن حوله: نعمل له وقف، فإذا ماتت فلانة، زميلاتها يقلن: نعمل لها وقف، هو الوقف يعمل من ماله هو، أما أن الآخرين يأتون، ويدعون إلى ذلك، ويجمعون التبرعات من أجل يعملون له وقف؟
اعملوا لأنفسكم وقف، والذي يظهر أن هؤلاء عامة، يظنون -كما يدل على سؤالهم ومناقشتهم حينما يسألون- أن لهم من الأجر مثل أجر هذا، وهذا الكلام غير صحيح، ليس لهم من الأجر، إنما هم تبرعوا بهذا المال عن زيد من الناس، فذهب إليه، وإنما يؤجرون فقط على الإحسان، مثل الذي يحج عن غيره، وليس من أجل المال، بعضهم يحج تبرعًا، ويظن أن له مثل الحجة هذه، وهذا الكلام فيه نظر، وبعض الناس يدفع مالاً من أجل أن يحجج آخرين، ويظن أن ذلك بمنزلة حجة له، هو يحجج عن أمه، أو عن أبيه، أو نحو ذلك، ويعتقد أيضًا أن ذلك كحجة عنه هو، لا، إنما يؤجر على البر، والحجة لمن حج عنه، وليست له.
فعلى كل حال عندنا هذا الحديث أيضًا لا يدل على الحصر في هذه الثلاث: انقطع عمله إلا من ثلاث لأن الأحاديث الأخرى ذكرت أمورًا أخرى، حديث أنس ذكر سبعًا: سبع يجري للعبد أجرهن من بعد موته وهو في قبره: من علم علمًا، أو كرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجدًا، أو ورث مصحفًا، أو ترك ولدًا، يستغفر له بعد موته[7]، وذكر أبو أمامة - ذكر- أربعًا: أربع تجري عليهم أجورهم بعد الموت: رجل مات مرابطًا في سبيل الله، ورجل علم علمًا فأجره يجري عليه ما عمل به، ورجل أجرى صدقة فأجرها يجري عليه ما جرت عليهم، ورجل ترك ولدًا صالحًا يدعو له[8]، ومن الأشياء التي ذُكرت في الأحاديث الصحيحة هذه الثلاث: الصدقة الجارية، والعلم الذي ينتفع به، والولد الصالح الذي يدعو له.
ثم المصحف الذي ورثه، والنخل الذي غرسه، والبيت الذي بناه لابن السبيل، والنهر الذي أجراه، والبئر الذي حفره، كل هذه تجري له بعد موته، وكنتُ حينها ذكرتُ بعض الأبيات التي جمع فيها هذا، وهو قوله:
إِذا مَاتَ ابن آدم لَيْسَ يجْرِي | عَلَيْهِ مِن فِعالٍ غير عشرِ |
عُلُوم بثها وَدُعَاء نجلٍ | وغرسِ النّخلِ وَالصَّدقَاتِ تجْرِي |
وراثةِ مصحفٍ وَرِبَاطِ ثَغْرٍ | وَحَفْرِ الْبِئْرِ أَوْ إِجْرَاء نهرِ |
وَبَيتٍ للغريبِ بَنَاهُ يَأوي | إِلَيْهِ أَو بِنَاء مَحل ذكرِ |
وَتَعْلِيم لقرآنٍ كريمٍ | فَخذهَا مِن أَحَادِيثٍ بِحصرِ[9] |
الصدقة الجارية يعني: "وراثة مصحف ورباط ثغر" لأنه صح الحديث: أن المرابط يجري عليه عمله "وحفر البئر أو إجراء نهر".
"وبيت للغريب بناه يأوي | إليه أو بناء محل ذكر" |
يعني: بناء مسجد، وتعليم لقرآن كريم، هذا ورد فيه حديث، لكنه لا يصح مرفوعًا، ولكنه ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "من علم آية من كتاب الله كان له ثوابها ما تليت"
[10].
قال: "فخذها من أحاديث بحصر" هذه تجري للإنسان بعد الموت.
وقوله ﷺ هنا: الصدقة الجارية ما المقصود بالصدقة الجارية التي لا تنقطع؟ يعني: لو أعطاه طعامًا وأكله؟ هذه ليست صدقة جارية، لكن لو أنه حفر بئرًا يعتبر صدقة جارية، أو بنى مسجدًا، هذه صدقة جارية، أو بنى مدرسة هذه صدقة جارية، أو عمارة، أو وقف تؤجر، أو يسكنها ناس من الفقراء، أو طلاب العلم، أو غير ذلك، صدقة جارية.
كذلك أيضًا أنشأ مطبعة تطبع الكتب والمصاحف والأشياء النافعة، هذه صدقة جارية، أو أوقف سيارة صدقة جارية، فكل هذه من الصدقات التي تستمر، واليوم تيسرت الأمور، يعني: أصبحت هناك مشاريع وقفية، يمكن أن يساهم الواحد بالقليل، السهم بمائة ريال مثلاً.
أو علم ينتفع به سواء كان ذلك بالتعليم، فبقي في قلوبهم، وانتفعوا بهذا العلم، وتخرج طلاب العلم، أو كان بالتأليف، ألف كتبًا، ولا زال الناس ينتفعون بها، كما حال هذا المصنف الإمام النووي-رحمه الله-، هذا الكتاب الذي يقرأ في المساجد، فهذا من العلم الذي ورثه، وينتفع به.
أو ولد صالح يدعو له هذا واضح، ولا يحتاج إلى تعليق.
ومن هنا تأتي أهمية إصلاح الأولاد، والقيام عليهم بما ينبغي؛ لأن هؤلاء يدعون له، والناس إذا رأوهم، ورأوا إحسانهم، ونحو ذلك، دعوا، وقالوا: رحم الله والديك، ورحم الله كذا، ورحم أباك، يدعون له، بخلاف السيئ، الذي يرى الناس منه ألوان الشر، فيدعون على أبويه، ولربما شتموهم، حتى بعد موتهم، فيلحقهم ذلك، من سب الناس، وأذى الناس، بسبب هذا الولد، وهو المتسبب، والنبي ﷺ قال: ولعن الله من لعن والديه[11].
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر برقم (2699).
- أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة برقم (2674).
- أخرجه أبو داود في باب الحث على طلب العلم، باب الحث على طلب العلم برقم (3641) والترمذي ت شاكر في أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة برقم (2682) وصححه الألباني.
- أخرجه مسلم في كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته برقم (1631).
- أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز، وكذلك الصدقة برقم (2770).
- أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب وجوب الحج وفضله برقم (1513) ومسلم في الحج، باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت برقم (1334).
- مسند البزار برقم (7289) وشعب الإيمان برقم (3175) وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/140): "حسن لغيره".
- أخرجه أحمد ط الرسالة برقم (22318) وقال محققو المسند: "صحيح لغيره".
- الأبيات للسيوطي في شرحه على مسلم (4/228).
- أخرجه أبو سهل القطان في حديثه عن شيوخه (4/243/2) وقال الألباني السلسلة الصحيحة (3/ 409): "وهذا إسناد جيد عزيز".
- أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله برقم (1978).