الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي "باب فضل الذكر والحث عليه" أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس[1]، رواه مسلم.
التسبيح بمعنى التنزيه، والحمد يكون بإضافة المحامد وأوصاف الكمال، وفسره بعضهم بالثناء، والثناء إعادة الحمد ثانيًا.
ولا إله إلا الله هي أجل كلمة، وأصدق كلمة، وأعظم كلمة قيلت على وجه الأرض، هي كلمة التوحيد، أول ما يدخل به الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، وهي مفتاح الجنة.
والله أكبر الله أكبر من كل شيء، أكبر مما يصفه الواصفون، وأكبر من كل شيء على الإطلاق، وليس أفعل التفضيل على بابه، فحينما نقول: الله أكبر من معبودات المشركين وآلهتهم وما يتقربون إليه من دون الله -تبارك وتعالى-، وهو أكبر من محبوبات الإنسان التي قد تصرفه عن الله والدار الآخرة.
أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس والشمس حينما يقال: مما طلعت عليه الشمس يعني الدنيا بأسرها، وذلك أن الدنيا فانية ليست محل بقاء ودوام، وإنما هي محل الفناء، هي معبر، ولهذا سماها الله بالدنيا، إما لدنو مرتبتها؛ منسفلة دنيا، والآخرة عليا، وهذه الدار دنيا، أو لقربها فهي سريعة التقضي، ولهذا سماها الله بالعاجلة: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ [الإسراء:18].
وإذا أردت أن تتصور هذا المعنى تذكر البقاء الأبدي السرمدي في الآخرة الذي لا انقطاع له، فلا يقادر بعدد يحصيه العادون، لا يقال: مليارات السنين، بل هو بقاء بلا انقضاء، فإذا بقي الإنسان متفكرًا في هذا المعنى ثم نظر بعد ذلك إلى المدة التي يعيشها في ستين أو سبعين أو ثمانين سنة حينما يهرم فإنه يدرك أن هذه المدة قصيرة.
وقد مضى في بعض المناسبات قوله -تبارك وتعالى- عن قيل الكافرين حينما يبعثون من قبورهم ويقسم المجرمون أنهم لم يكن لبثهم إلا ساعة: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55].
وبعضهم يقول: بقينا يومًا، وأمثلهم طريقة يقول: بقينا عشرًا، فحياة كهذه تُستهل فيها الآلام، والصعاب والمشقات والنكد الذي يلقاه الإنسان من حرها، وبردها، ومصائبها، ومصاعبها، ومشاق العيش فيها بالإضافة إلى ألوان العبادات التي تحتاج إلى مجاهدات، فذلك يسير في هذه المدة اليسيرة؛ ليحصل الإنسان النعيم المقيم الأبدي السرمدي الذي لا يحصل معه تعب، ولا نصب، ولا هم، ولا غم، ولا مرض، ولا جِراح، ولا فقر، ولا جوع، ولا عطش، ولا غير ذلك، لا يهرمون، ولا يحصل لهم ملل، الناس مهما قُلِبوا بألوان الملاذ فإن اللذة سرعان ما تنقضي وتزول وتذهب، يبحث عن غيرها، وهكذا يبقى في حلقة مفرغة يبحث عن سعادة موهومة لتتبع اللذات المتقضية العاجلة، لذة الطعام والشراب هي في الثواني التي يضعها الإنسان في فمه فقط، يضع هذا الطعام ويمضغه هذه هي اللذة فإذا انتهى المضغ وابتلعه انتهت اللذة، إذا وصل إلى البطن ليس فيه لذة، ولا يشعر بلذته، بل يبدأ التنغيص تبدأ آثار ذلك، وكما هو معلوم ليس في الدنيا لذة كاملة، أما الآخرة فهي الدار الباقية.
فهذه الكلمات خير مما طلعت عليه الشمس، وهي الباقيات الصالحات؛ لأن الله قال: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46]، فما هي الباقيات الصالحات التي هي خير ثوابًا وخير أملاً؟
يدخل فيها دخولاً أوليًا هذه الكلمات، ويدخل في ذلك ما يتقرب به إلى الله -جل جلاله- من ألوان العبادات، هذا خير من المال والبنين التي يحرص عليها الناس في هذه الحياة الدنيا، وبهذا نفهم كون هذه الكلمات أحب إلى النبي ﷺ مما طلعت عليه الشمس، فإذا كانت أحب إليه مما طلعت عليه الشمس فإذا أكثر الإنسان منها فما ظنكم؟!
وقد يقول قائل: إذا قال الإنسان واحدة منها؛ لأن الله قال: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا فالباقيات الصالحات يدخل فيها الواحدة من هذه سبحان الله، أو الحمد لله، أو نحو ذلك، فهي أفضل مما طلعت عليه الشمس بلا شك، فكيف إذا اجتمعت هذه الكلمات الأربع؟!
فهذه أمور وفضائل عالية عظيمة نغفل عنها مع أن الإنسان يمكن أن يرددها وهو يمشي، أو على فراشه، أو وهو في السيارة، وهو في مكان انتظار وهو يشتغل بيده يردد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
ثم ذكر حديثًا آخر عن أبي هريرة ، أن النبي ﷺ قال: من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عِدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه. وقال: ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل: زبد البحر[2]، متفق عليه.
من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هذه كلمة التوحيد.
له الملك والملك هو التصرف المطلق التام، واللام في قوله: له الملك اللام هذه يحتمل أن تكون للاختصاص، ويحتمل أن تكون للملك.
وله الحمد تقديم الجار والمجرور يدل على الحصر.
وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، وهنا لم يقيد أن يكون ذلك سردًا بمعنى أن يقول ذلك في مجلس واحد في أول النهار، أو في آخر النهار، أو غير ذلك بل لو فرقها فكان المجموع مائة مرة فإنه يحصل له هذا الأجر المرتب على ذلك.
قال: كانت عِدل عشر رقاب، عِدل يعني تعدل، والعدل من أهل العلم من يقول: إنه بالكسر عِدل إذا كان ذلك من جنس الشيء، وإذا كان من غير جنسه قيل له: عَدل، أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا جزاء الصيد، لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فلما ذكر الجزاء قال: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95]، فالصيام ليس مماثلاً للصيد، فمن هنا بعض أهل العلم يقولون: إن العَدل بالفتح إذا كان من غير جنسه، ومنهم من عكس.
ومنهم من قال: كلاهما بمعنى واحد، وهنا قال النبي ﷺ: كانت له عِدل عشر رقاب، عشر رقاب يعني كأنه أعتق عشرة مماليك، والرقبة بمعنى المملوك العبد أو الأمة، وقيل لها: رقبة تعبيرًا بالبعض عن الكل كما هو معلوم، ولما كانت الرقبة لا تتجزأ إلا بانفصال الروح ومفارقة الحياة عبر عن الإنسان بالرقبة، فهنا قال: عِدل عشر رقاب، أو عَدل عشر رقاب كأنه أعتق عشر إذا قال هذه الكلمات.
وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة من يعمل في اليوم مائة سيئة؟ ربما الذي يشاهد قنوات سيئة أو مواقع سيئة نعم قد تقع منه مائة نظرة محرمة، لكن الإنسان الذي لا يحصل له هذا هو من بيته إلى عمله إلى مسجده وعافاه الله من هذه البلايا، من الذي يعمل مائة سيئة في اليوم؟
فهذه تمحى مائة سيئة.
وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، يعني منذ قاله، ولهذا يحسن بالإنسان أن يقولها جميعًا في أول النهار؛ لأن اليوم يبدأ من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس هذا اليوم فلو أن الإنسان قال ذلك من أول اليوم فيكون ذلك حفظًا له من الشيطان حرزًا له من الشيطان، والحرز من الشيطان يعني الكثير، فالشيطان قد يتسلط على الإنسان بالوسواس والأفكار، وقد يلقي في قلبه الهموم والأحزان، ألم يقل الله : إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:10]، وألم يقل النبي ﷺ: الرؤيا السيئة من الشيطان[3].
فكل ذلك من أجل أن هذا العدو إبليس ومن والاه من الشياطين لا يفتؤون في البحث عن كل سبيل يمكن أن يوصل إليك الضرر به، بالإغراء بالمعصية، بالتثبيط عن الطاعة، بإلقاء الوحشة في قلوب الناس، فيحصل بينهم الفرق والمشاحنات وما إلى ذلك، وأحيانًا من غير سبب معلوم، وتجد الناس يستوحشون من بعضهم، ويكون ذلك أيضًا بإلقاء هذه الأمور من الضيق والوساوس والخواطر فتجد هذا يوسوس في العقيدة، ويتضايق وكأنه جبل على رأسه، وهذا يوسوس في الصلاة، وذاك يوسوس في الطهارة، وهذا يوسوس في الطلاق إلى غير ذلك من أنواع الوساوس التي يلقيها الشيطان.
وأحيانًا يأتيه ويقول له: أنت منافق، أنت غير صادق، وأحيانًا يلقي في قلبه أشياء غير حقيقية عن الآخرين عن إخوانه المسلمين أنهم يكرهونه، أو أنهم يقصدون الإساءة إليه، أو احتقاره، أو نحو ذلك مما يلقيه الشيطان في قلوب الناس، ولهذا إذا وجد هذ الحرز من الشيطان حتى يمسي استراح الإنسان مما يسمى بالوسواس القهري، وغير ذلك من أنواع التسلط الذي يتسلطه الشيطان على كثير من الناس، فما أحوجنا إلى مثل هذا الحرز في وقت كثرت فيه الشكوى!، تسمع شكوى صباح مساء أشياء مؤسفة وتتعجب كيف ينقاد لها الناس!
وأحيانًا تتعب وأنت تريد أن تقنع هذا الإنسان أن هذا من الشيطان، تريد فتوى، هذه هي الفتوى: لا يجب عليك إعادة شيء، تريد فتوى: طلاقك لا يقع اذهب، ويأتيك مرة ثانية وثالثة ورابعة: صحيح، اكتب لي هذا الكلام أرجوك، أنا أتناول أدوية يمكن أني الآن في وضع مستقر يمكن الطلاق يقع، يمكن أنا الآن غير أول، ويأتيك بعد قليل يقول: شفت تحركت ما هي أشياء في النفس، ثم يأتيك بعد قليل يقول: لساني تحرك، بلاء -نسأل الله العافية- من أين هذا؟!
هذا من الشيطان، وتحاول أن تقنعه، وأحيانًا تحلف له يمين أن الطلاق ما وقع، وأن طلاقك لا يقع، أو أن طهارتك صحيحة، أو أن صلاتك صحيحة، إذا كنت تريد فتوى هذه فتوى، ومع ذلك يرجع تقنع إنسان ليس بك علة ما بك مرض، ما بك شيء، ويتوهم أمراض، ويتخيل أمراض، ويتوقع أمراض في المستقبل، وإذا لمس شيء هنا أو هنا توهم أن هذه أسوأ الاحتمالات سرطان، وغير ذلك من الأمراض، هذا يتوهم وما فيه شيء؛ فيتسلط عليه الشيطان فيمرض، وتجده في حال من البؤس والانكسار، ويغالب الهم، ويصارع الغم، وليس به علة.
وأحيانًا يتخيل أن هناك من يتآمر عليه، ومن يريد به سوءًا وشرًا وبلاء وليس من ذلك شيء، فكل ذلك من تسلط الشيطان.
حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه، يعني جاء بهذه الأشياء وزيادة إما منها، أو من غيرها، لكن إنسان قال مثل هذه الكلمات فمعنى ذلك أنه قد حصل حالاً ومرتبة عالية في العمل.
قال: ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل: زبد البحر، الزبد هو الرغوة، والرغوة هذه كثيرة جدًا، فتحط الخطايا ولو كانت هذا، من قال سبحان الله وبحمده، فالتسبيح بمعنى التنزيه، والواو يحتمل أن تكون للحال يعني والحال أنا حامد، أو متلبس بحمد الله ، فهل معنى هذا التسبيح والتحميد أفضل من هذه التي ذكرها النبي ﷺ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كلمة التوحيد؟.
الجواب: لا، نعم في الثاني قال: حطت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر، لكن الأول رتب عليه عشر رقاب، وسبق في بعض الأحاديث: من أعتق رقبة، أعتق الله بكل عضو منه عضوا من أعضائه من النار، حتى فرجه بفرجه[4]، هذه رقبة واحدة، فكيف إذا كانت عشر؟! وليست القضية تقف على أنه يكتب له مائة حسنة، ويمحى عنه مائة سيئة!، فهنا قال: حطت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر، لا ذاك يعتق من النار برقبة واحدة، فمثل هذه الأمور اليسيرة والأعمال التي لا تكلفنا شيئًا ينبغي على المؤمن أن يحرص عليها غاية الحرص، وألا يفرط فيها، وألا يزال اللسان رطبًا بذكر الله ، وأن يلهج بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد في أوقاته وأحواله وأحيانه كلها، هذا هو اللائق بالمؤمن.
فأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا وإياكم من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، برقم (2695).
- أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح، برقم (6405)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، برقم (2691)، واللفظ لمسلم.
- أخرجه البخاري، كتاب التعبير، باب إذا رأى ما يكره فلا يخبر بها ولا يذكرها، برقم (7045)، ومسلم، في أوائل كتاب الرؤيا، برقم (2261).
- أخرجه مسلم، كتاب العتق، باب فضل العتق، برقم (1509).