الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:
ففي "باب فضل الذكر، وما يتصل منه بما يقال في الركوع والسجود" ما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: فأما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمنٌ أن يستجاب لكم[1]، رواه مسلم.
قوله ﷺ: فأما الركوع فعظموا فيه الرب هيئة الركوع تناسب ما يقال فيه من الذكر من تعظيم المعبود -جل جلاله-، فيقول: سبحان ربي العظيم[2]؛ وذلك أنَّ هذه الهيئة بالانحناء هي هيئة دالة على التعظيم قطعًا؛ ولذلك لا يجوز الانحناء لأحد إلا الله ، وكان من عادة العظماء من الملوك وغيرهم أنه إذا دخل عليهم الداخل فإنه ينحني تعظيمًا لهم، وهي عادة أعجمية، لم تكن معهودة عند العرب؛ ولذلك لما جاء معاذ إلى النبي ﷺ، ورأى بعض الأعاجم يعظمون عظماءهم بالسجود لهم، سجد للنبي ﷺ، وقد يراد بالسجود هنا الركوع؛ لأنه يقال له: سجود، كما في قوله -تبارك وتعالى-: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [البقرة:58] يعني: رُكّعًا، وليس المقصود وضع الجبهة على الأرض؛ لأن ذلك لا يتأتى للداخل، يدخلون باب المدينة في حال الفتح؛ وذلك فيما قصه الله من خبر بني إسرائيل وعتوهم على الله -جل جلاله-، فكان ذلك مما أمرهم، والمقصود ادخلوا ركعًا، يعني: تعظيمًا وخضوعًا لله -جل جلاله-، فهنا هذه الهيئة (الركوع) تدل على التعظيم، فيناسب معها أن يقال: ((سبحان ربي العظيم)).
وأما السجود: فإنه غاية الخضوع من حيث الهيئة، ولا خضوع أعظم من وضع الجبهة والوجه الذي هو أشرف شيء في الإنسان على الأرض، ولو أن الإنسان تأمل هذه الهيئات التي نكررها في اليوم والليلة مرارًا كثيرة مع الجماعة، وفي صلاتنا، وفي بيوتنا، وغير ذلك، لرأى أن الناس يفعلون أشياء عظيمة من التعظيم، ولكننا في الواقع لا نستشعرها كثيرًا، تصور لو أنك أتيت إلى قوم فوجدتهم يعظمون أحدًا، فيركعون له كل يوم، ويضعون وجوههم على الأرض كل يوم، فإن ذلك لا شك أنه يحرك النفس، وإذا رأيت أحدًا يسجد لمخلوق، أو يركع لمخلوق، فإن الإنسان لربما وقف شعر رأسه؛ لأن ذلك هيئة غير معتادة بالنسبة إلينا، وهي الخضوع لمخلوق، فهل استشعرنا وعظمنا الله -تبارك وتعالى- حينما ركعنا له وسجدنا؟ نحن حينما رأينا هذا يفعل مع مخلوق أصابنا حالة من الفزع، والخوف، والوجل، والإشفاق، والتعظيم لله -تبارك وتعالى-، كيف يفعل هذا لمخلوق؟ لكن حينما نفعله لله -جل جلاله- فإننا نغفل عن مثل هذا المعنى، أشرف شيء في الإنسان وجهه يوضع على الأرض مرارًا في اليوم، في صلاة الفريضة يكرره في كل ركعة، وسبعة عشر ركعة في الفرائض يكرر ذلك فيها، فلا شك أن هذا أمر عظيم لو استشعره المؤمن؛ لخضع قلبه لله -تبارك وتعالى-.
فهنا أما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم قمن يعني: حري، حقيق أن يستجاب لكم؛ لأن أقرب حالات العبد من ربه وهو ساجد، وكلما ازداد العبد خضوعًا وعبودية وذلاً وانكسارًا وتواضعًا لله كان إليه ربه أقرب، وكلما سمت به مرتبته، فمرتبة المخلوق تعلو إذا خضع وذل لله ، وكلما تعالى وتعاظم كلما اتضع وهبطت مرتبته.
فهنا قال: اجتهدوا في الدعاء معناها: أن الإنسان يبذل جهده من كل وجه، يجتهد في الدعاء، ويجتهد في استحضار القلب، ويجتهد في ذكر المحامد والمقدمات التي تقال بين يدي الدعاء، والثناء على الله ، والدعاء له بأسمائه التي يظن أنها هي الاسم الأعظم، فيجمعها.
وكذلك الصلاة على النبي ﷺ، ومن الاجتهاد في الدعاء أن يدعو الإنسان بجوامع الكلم، وأن يجمع بين خيري الدنيا والآخرة، وأن يكون هناك تضرع وإلحاح على الله ، لا يدعو دعاء المستغني، ودعاء من يدعو تحلة القسم أنه دعا فقط، وإنما يجتهد.
فهل هذه الجملة التي أرشد إليها النبي ﷺ وأمر بها، هل نحن نستحضرها في سجودنا، ونجتهد في الدعاء؟ فقمن أن يستجاب لكم حقيق أن يستجاب لكم؛ ولهذا ينبغي على الإنسان أن يحرص في الجمع بين المواضع التي يتحرى فيها إجابة الدعاء، التي هي مظنة للإجابة، فلو أنه مثلاً الدعاء بين الآذان والإقامة، فدعا في سجوده في الركعتين، سواء في الراتبة، أو تحية المسجد دعا في سجوده، هذا وقت إجابة، وفي وقت نزول المطر، ودعاء المسافر، ولو أنه صلى ركعتين ودعا في السجود، وفي ثلث الليل الآخر يجعل دعاؤه في سجوده، وهذا بلا شك آكد وأولى وأحرى بالإجابة من الدعاء في القنوت في الوتر، والناس كثيرًا ما يحرصون على القنوت، ولربما يغفلون عن الدعاء في السجود، ولربما استطالوا السجود في صلاة القيام، ولكنهم يحبون منه إطالة القنوت، وهذا غير صحيح.
ثم ذكر حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء[3] لاحظ هناك اجتهدوا وهنا قال: أكثروا أن يكثر الإنسان الدعاء، بمعنى أنه يسأل حاجته في أمور الدنيا والآخرة، ويكثر من الدعاء، ولا يكتفي باليسير منه، فالله غني كريم، وعطاءه وفيوضه لا تتناهى، وهذا القرب هو قرب مطلق أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد إذًا هو أقرب من حال الدعاء في غير الصلاة، وهو أقرب من حال الدعاء بعد التشهد، وهو أقرب من حال الدعاء أيضًا في القنوت، إلى غير ذلك من مواضع الدعاء.
وعنه: أن رسول الله ﷺ كان يقول في سجوده: اللهم اغفر لي ذنبي، كله دقه وجله، وأوله وآخره، وعلانيته وسره[4]، رواه مسلم.
"كان يقول في سجوده" عرفنا أن هذه الصيغة تدل على المداومة، وهذا يفسر لنا ما يقال في السجود، والنبي ﷺ، أمرنا أن نجتهد في الدعاء، فهذا من الاجتهاد فيه، بأن يدعو الإنسان بجوامع الكلم.
اللهم اغفر لي ذنبي النبي ﷺ غُفر له ما تقدم من ذنبه، فهذا تعليم للأمة، وهو تواضع لربه -تبارك وتعالى- كله.
ثم فسر ذلك بقوله: دقه وجله وبعض الناس يقول: اللهم اغفر لي كل ذنب عظيم، طيب والباقي؟ والصغائر؟ وهذه نسمعها تردد على ألسن بعض العامة: اللهم اغفر لي كل ذنب عظيم، فهذا غير لائق مع الله ، اغفر لي كل ذنب عظيم؟! والصغار لا يريد أن تُغفر؟!
اغفر لي ذنبي كله دقه دقه يعني: اليسير والصغير من الذنوب، وبدأ به إما للترقي من الأدنى إلى الأعلى، أو لأن الصغائر لربما لا يتفطن لها كثير من الناس، وهي تجر إلى الكبائر.
وجله وجله يعني: الجليل العظيم، والنبي ﷺ لا يفعل الكبائر -عليه الصلاة والسلام-، والأنبياء عصموا من الشرك بالله ، ومن مقارفة الكبائر حاشاهم، وأما الصغائر ففيها كلام معروف لأهل العلم، والأقرب أنها تقع منهم الصغائر، لكنهم لا يصرون عليها، ولا يقع منهم الصغائر التي تسقط المروءة، حاشاهم، التي يسمونها صغائر الخسة، كتطفيف حبات في المكيال، وسرقة بيضة، أو نحو ذلك من الأمور، هذا كله ينزهون عنه -عليهم الصلاة والسلام-، لكن الله قال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] ولا حاجة للتكلف في تأويله، وموسى قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي [القصص:16] وداود فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24] ويونس قال: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].
فالشاهد: أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يقع منهم الذنب، لكنهم لا يصرون عليه، ولا تقع منهم الكبائر، فقوله ﷺ: دقه وجله هذا تعليم للأمة، وإلا فرسول الله ﷺ منزه عن الكبائر، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر -عليه الصلاة والسلام-.
وقوله: وجِله يخطئ فيها كثيرون فيقولون: دقه وجُله، وجُله يعني: معظمه، يعني: غالبه، فكأنه يدعو يقول: اغفر لي ذنبي كله دقه وأكثره، والإنسان لا يريد أن يغفر له أكثر الذنوب، وإنما تغفر جميع الذنوب، فهذا يقابل دقه، دقه وجله يعني: وعظيمه، يعني: الدقيق والجليل العظيم الكبير، هكذا يقال.
قال: وأوله وآخره هذا كله تأكيد لما سبق ذنبي كله ثم قال: دقه وجله، وأوله وآخره ذاك في الحجم، وهذا في الزمن وعلانيته وسره هذا في الحال، فجمع هذه الأمور، مع أنه يفي بها قوله ﷺ: اغفر لي ذنبي كله وأهل العلم يذكرون في آداب الدعاء ألا يتطرق الداعي إلى تفاصيل، وإنما يدعو بجمل وافية جامعة، والنبي ﷺ أوتي جوامع الكلم، ونجد في بعض الأحاديث كهذا الحديث ذكر بعض التفاصيل، فيقال: هذا مما جاء عنه ﷺ في بعض المواطن، فيلتزم، وهو من دواعي البلاغة، وأهل البلاغة يتكلمون في مثل هذا الحديث، ويقولون: الإطناب في مقام يلتذ به حال المناجاة، وما إلى ذلك، فهذا يقتصر فيه على ما ورد، وإلا فإن الصحابة أنكروا، كما جاء في أكثر من أثر، كحديث عبد الله بن مغفل، أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض، عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أي بني، سل الله الجنة، وتعوذ به من النار، فإني سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء[5]، ونهاه عن مثل هذا التكلف، والدخول في مثل هذه التفاصيل، إلى غير ذلك.
ثم جاء الحديث الأخير فيما يقال في السجود، وهو حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: افتقدت النبي ﷺ ذات ليلة فتحسست -يعني تتلمس بيدها تطلبته- فإذا هو راكع أو ساجد، يقول: سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت[6]، وذكرنا معناه في الأمس، وأنه ينزه الله وأن هذا التنزيه حاصل وواقع بتوفيق الله وهدايته، فهو حامد لربه -تبارك وتعالى- على هذا التوفيق، وما يسر له من تسبيح الله، وذكره، فجمع بين الذكر والحمد، سبحانك وبحمدك، لا إله إلا أنت وفي رواية: "فوقعت يدي على بطن قدميه، وهو في المسجد، وهما منصوبتان[7]، هذا يدل على أنه كان -عليه الصلاة والسلام- في حال السجود، ويدل أيضًا أن الإنسان في حال السجود يضم بين قدميه، ويدل أيضًا على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء، والراجح أن مسها لا ينقض الوضوء حتى لو كان لشهوة، وقد كان النبي ﷺ يقبل ويخرج إلى المسجد، ولا شك أن التقبيل يكون بشهوة، ولكنه إذا خرج شيء مذي، فإن ذلك ينقض الوضوء قطعًا.
قال: "قالت عائشة -رضي الله عنها-: وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك الرضا صفة لله والسخط صفة له فيستعاذ به منه، وهذا يدل على أنه يصح الاستعاذة بالصفة: أعوذ بوجهك، وأعوذ بعزتك، وأعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر[8]، لكنه لا يصح دعاء الصفة، فلا يقول الإنسان مثلاً: يا عزة الله، ويا عظمة الله، يا رحمة الله، فالصفة لا تدعى، ولكن يستعاذ بالصفة، كما جاء في الأحاديث.
اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك فالمعافاة ترك المؤاخذة، فالله هو العفو، ومن صفته العفو، فيعوذ بعفوه من سخطه وعقوبته.
وأعوذ بك منك لأنه لا يخلصه من الله أحد، لا ملك ولا بشر، وإنما يفر العبد من الله إلى الله، فلا مخلص له إلا الله، فقال: وأعوذ بك منك لأنه لا يجد معاذًا يعوذ به؛ ليخلصه من عذاب الله .
قال: لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك لا يحصي ثناء على الله ؛ لأن العبد لا يعلم جميع المحامد، ولا يعلم جميع أوصاف الكمال، حتى يثني على الله بها، ولا يعرف أسماءه الحسنى جميعًا؛ ولهذا يقول: أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك[9]، وما عرفنا من عظمة الله وجلاله وأوصافه الكاملة إلا القليل، فالله أعظم وأجل مما نعظمه، وما عبدناه حق عبادته، فقال: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك[10]، رواه مسلم.
ومن تأمل في مثل هذا الحديث رأى كيف أعطي ﷺ جوامع الكلم.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود برقم (479).
- أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل برقم (772).
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود برقم (482).
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود برقم (483).
- أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الإسراف في الماء برقم (96) وصححه الألباني.
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود برقم (485).
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود برقم (486).
- أخرجه ابن ماجه في كتاب الطب، باب ما عوذ به النبي صلى الله عليه وسلم، وما عوذ به برقم (3522). وصححه الألباني.
- أخرجه أحمد ط الرسالة برقم (3712) وابن حبان في كتاب الرقائق، باب الأدعية، ذكر الأمر لمن أصابه حزن أن يسأل الله ذهابه عنه وإبداله إياه فرحا برقم (972) وصححه الألباني.
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود برقم (486).