الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:
ففي باب ما يقال عند النوم.
أورد المصنف -رحمه الله- حديث عائشة -رضي الله عنها- "أن رسول الله ﷺ كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه، وقرأ بالمعوذات، ومسح بهما جسده"[1].
"كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه" والنفث فوق النفخ؛ إذ المراتب: نفخ: وهو هواء يخرج من الفم، وفوقه: نفث: وهو هواء مع شيء من الريق يسير، وفوقه: التفل، وهو: إخراج الريق، هذه ثلاث مراتب، فحينما يرى رؤيا سيئة يتفل عن يساره ثلاثًا، لكن هنا يجمع يديه هكذا، وينفث فيها ثلاثًا، قال: "يقرأ بالمعوذات" المعوذات: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وقال بعض أهل العلم: إن المراد بذلك هنا: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، مع قل هو الله أحد، وأنه أطلق على ذلك (المعوذات) من باب التغليب، والتغليب أسلوب معروف عند العرب.
ولعل ذلك يوضحه ما جاء في الرواية الأخرى في الصحيحين: "أن النبي ﷺ كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة"[2]، ولاحظوا هنا صرح كل ليلة، وقد قلت لكم من قبل: بأن هذه الصيغة: كان يفعل كذا، يدل على أنه يداوم عليه.
"جمع كفيه، ثم نفث فيهما، فقرأ فيهما قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ فذكر قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.
وفي رواية أخرى في حديث عائشة في الصحيحين: "ثم مسح بهما ما استطاع من جسده"[3].
لاحظ هناك: "ومسح بهما جسده" هل المقصود مسح جميع الجسد وإلا ما استطاع من الجسد؟ ما استطاع من الجسد "يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات".
وظاهره -والله تعالى أعلم- هكذا، أنه يجمع كفيه، ثم ينفث ثلاثًا، ثم يقرأ هذه السور: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثم يمسح ما استطاع من جسده، ثم ينفث، ثم يقرأ مرة مرة، ثم يمسح هكذا: رأسه وما أقبل، ووجهه وما أقبل من جسده، ثم الثالثة هكذا؛ لأنه هنا قالت: "يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات".
فهو يحتمل أنه يقرأ، ينفث ثلاثًا ويقرأ ثلاثًا، ثم يمسح ثلاث مرات، واضح.
ويحتمل أن تكون كل مسحة بعد قراءة، كل مسحة بعد قراءة.
وأظن -والله أعلم- أن قائلاً لو قال ذلك لكان أقرب، مع أن الآخر محتمل، وأرجو أن يتحقق له مطلوبه، فإن من اجتهد في طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، وبذل وسعه في معرفة الحق من ذلك، فإنه يكون معذورًا، فيحصل له المطلوب، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
فهذه تعويذة اشتملت على قراءة هذه التعاويذ التي هي أعظم التعويذات، واشتملت على النفث، واشتملت على المسح؛ وذلك أبلغ ما يكون في التعويذ.
والتعويذ قد يكون قراءة من غير نفخ ولا نفث، كالرقية مثلاً، والمرتبة الثانية: أن يكون مع نفخ، والمرتبة الثالثة: أن يكون مع نفث.
فإذا صاحب ذلك وضع اليد، أو المسح باليد، فإن ذلك يكون أبلغ، والله تعالى أعلم.
والمصنف هنا قال: قال أهل اللغة: النفث نفخ لطيف بلا ريق، هكذا قال، وذكر هذا بعض أهل العلم، ولكن لعل الأقرب -والله أعلم- هو ما ذكرت أنه يفرق بين الثلاث بهذا، نفخ بلا ريق، ونفث مع ريق، هذا الذي ذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله- فيما يحضرني عند كلامه على الرقية، ومراتبها.
قال: وعن البراء بن عازب قال: قال رسول الله ﷺ: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة[4].
توضأ وضوءك للصلاة وهل هناك وضوء آخر؟ يقال: نعم، الوضوء يمكن أن يقال للنظافة، لكن هنا المقصود: الوضوء الشرعي، بنية.
ثم اضطجع على شقك الأيمن فهذا من السنة، كان يفعله النبي ﷺ، وأمر به أيضًا قولاً هنا، فاجتمع فيه القول والفعل، وسيأتي في فعله ﷺ.
وقل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك أسلمت نفسي إليك: يعني: أنه يتصرف فيها كما شاء.
وفوضت أمري إليك يعني: أني متوكل عليك، فالله له التدبير المطلق، والمؤمن يفوض أمره إلى الله جل جلاله ثقة به، فالله هو العليم الحكيم، يدبر أمر الخلائق بعلم وحكمة، فالمؤمن يفوض جميع الأمور إلى الله؛ لأن تدبير الله خير من تدبيره، فتحصل له العاقبة المحمودة.
قال: وألجأت ظهري إليك ليس المقصود بالظهر الظهر الذي في الجسم، وإنما المقصود أنه يعبر بذلك عن الاعتماد ألجأت ظهري إليك تقول: فلان لا ظهر له، أو فلان له ظهر يقويه ويؤيده ويدعمه، وفلان له ظهر، يعني: من أهل الولاية والسلطة، أو غير ذلك ممن يستطيع إعانته وتقوية جانبه.
هنا المؤمن ماذا يقول: ألجأت ظهري إليك كل ليلة، إذا جاء ينام يتذكر هذه المعاني العظيمة.
ولوط -عليه السلام- لما جاءه أضيافه، وضاق بهم ذرعًا، قال كلامه المعروف: قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80] آوي إلى ركن شديد يعني: ظهر.
والنبي ﷺ ماذا قال؟ قال: ويرحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد[5]، يعني: هذا الواقع، وهو الله -تبارك وتعالى-.
فالمؤمن يلجئ ظهره إلى الله، يعتمد عليه، فلان ما عنده ظهر، إذا كان مؤمن فالله هو مولاه، وهو مؤيده وناصره ومقويه.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36] فالعبد هنا مضاف إلى المعرفة، الهاء الضمير، بمعنى الجمع: عباده، فلا يختص بالنبي ﷺ، ويدل عليه القراءة الأخرى المتواترة: "أليس الله بكاف عباده"[6]، إذن الله يكفي عباده.
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة:137] المؤمن كل ليلة يذكر نفسه بذلك.
قال: رغبة ورهبة إليك يجمع بين الرغبة والرهبة، فلا يكون مدلاً على ربه -تبارك وتعالى- بسبب غلبة الرغبة والرجاء، ولا يكون أيضًا راهبًا فقط، فيكون قانطًا، فإن الخوف وحده يورث القنوط، وإنما يجمع بين الرغبة والرهبة، وقدمت الرغبة ربما لأن رحمته سبقت غضبه .
لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك أين يلجأ الإنسان؟ وكيف ينجو؟ وأين المفر؟ فالبشر الجن والإنس الله قال لهم: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [الرحمن:33] إلى أين يذهب الإنسان؟ ولهذا كان يقال في الموعظة كما جاء عن جماعة من السلف: "إذا أردت أن تعصيه وأنت تحت رزقه وفي بلاده فانظر موضعًا لا يراك فيه مبارزًا له فاعصه فيه"[7]، أين يذهب الإنسان؟ فلا ملجأ ولا منجى إلا إلى الله، فالله هو الذي يقدر المقادير، وهو الذي يقضي ما يشاء، وهو الذي يحكم لا معقب لحكمه، والخلق بين يديه يتصرف فيهم كيف شاء بعلم وحكمة.
فالإنسان لا يلجأ إلا إلى الله، ولا يفر إلا إليه: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50] ولا سبيل إلى النجاة إلا باللجأ إليه، والإقبال عليه.
آمنت بكتابك الذي أنزلت يحتمل الكتاب هنا القرآن، ويحتمل أن يكون كتاب هنا مضاف إلى الكاف الضمير معرفة، فيفيد العموم، بكتابك: أي بكتبك كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285].
وبنبيك الذي أرسلت بنبيك الذي أرسلت: يحتمل أن يكون بنبيك يعني: بأنبيائك أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء:150-151] لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285].
قال: فإن مِتَ متَ على الفطرة يعني: مِت على الإسلام واجعلهن آخر ما تقول يعني: ختم له بها، مات على الإسلام.
وفي رواية: وإن أصبحت أصبت خيرًا[8]، أصبت خيرًا من ماذا؟ أصبت خيرًا أنه ختم لك بهذا التوحيد، وأصبت خيرًا من كفاية الله ؛ لأنك توكلت عليه، ولجأت إليه، إلى غير ذلك من المعاني.
ثم ذكر حديث أنس أن النبي ﷺ كان إذا أوى إلى فراشه قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا، وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مأوي[9].
الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا الإنسان يأوي إلى فراشه عادة، ويكون قد حصل مطلوبه من الطعام والشراب، فالنوم هو الآخر، فيتذكر نعم الله عليه، ويقر بها أطعمنا، وسقانا، وكفانا، وآوانا كفانا ماذا؟
الإنسان لو قيل له: عليك فقط أن تقوم بمهمة واحدة وهي الرئة التي تتنفس فيها، هذا النفس الذي يخرج ويعود خلال أربعة وعشرين ساعة لا يتوقف، وأنت نائم وأنت مستيقظ، نحن نطلب منك شيئًا واحدًا لو سمحت، نريد تتكفل بها الرئة، هذه ستكون مهمة لك فقط، وغيره ستكفى، الكلى وعمل جهاز الدورة الدموية، والكبد، والأعصاب، وغير ذلك، كل هذا ما عليك ستكفى، لكن فقط شيء واحد الذي هو الرئة، اجلس انفخ ولا تتخلف، يستطيع؟! نص ساعة، ساعة، ساعتين، ثلاث ساعات، أربع، عشر ساعات، وبعدين؟ وبعدين ينقطع، فنحن كفينا هذا كله، ما ندري عن الأشياء التي تشتغل في أجسامنا، نأكل ونشرب، مصانع في الداخل.
ولذلك أحيانًا يتعطل عند الإنسان جزء يسير، ثم بعد ذلك يرى آثاره، فيكون عنده ثقافة في أشياء أول مرة يسمع بها، وأول مرة يعرف كيف تعمل؟ هذا العصب، أو هذا الجزء، أو هذا العرق، فقد كفانا وآوانا.
ولو كنا نشتري الهواء كيف ستكون حالنا؟
الأشياء الضرورية، الهواء مجانًا، ولله الحمد، ولو كان يُشترى كان رأيت أحوال الناس، والماء وهو من أعظم ضروراتهم مجانًا، وهذه الأشياء الأساسية، الدعوة، وتعليم الناس والتوحيد والإيمان: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا [هود:51] هذا بالمجان؛ لأنه أعظم من الطعام والشراب.
فكم ممن لا كافي له ولا مأوي يتذكر الإنسان نعمة الله عليه، في ناس يفقدون هذا كله.
ثم ذكر حديث حذيفة وهو الحديث الأخير:
أن رسول الله ﷺ كان إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خده، ثم يقول: اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك رواه الترمذي، وقال: حديث حسن[10]، ورواه أبو داود من رواية حفصة -رضي الله عنها-، وفيه: أنه كان يقوله ثلاثًا[11].
يضع كفه تحت خده الأيمن ثلاثًا، لاحظ هناك أمره أن يضطجع على شقه الأيمن، وهنا النبي ﷺ كان، إذا كان يضع كفه اليمنى تحت خده الأيمن، معناه: أين يضطجع؟ على شقه الأيمن.
لكن هل ورد أن النبي ﷺ كان يستقبل القبلة إذا نام؟
الجواب: لا، لم يصح عن النبي ﷺ في ذلك شيء، فهل يقال: إن هذا من الآداب؟
الجواب: لا، بعض الناس يظن من آداب النوم أن تستقبل القبلة وأنت نائم، وهذا لا أصل له، لكن ينام على شقه الأيمن.
يقول: اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك وفي الرواية الأخرى يقوله ثلاثًا، وكل ذلك ثابت صحيح.
إذن يكون هذا من الأذكار التي تقال عند النوم.
وجاء من حديث أيضًا البراء ، حيث ذكر أنهم كانوا يحبون أن يكونوا عن يمين رسول الله -ﷺ حينما ينفتل من صلاته، وأنه سمعه يقول: رب قني عذابك يوم تبعث عبادك[12]، يعني: بعد الصلاة أيضًا، فيكون ذلك مما يقال عند النوم، ويقال بعد الصلاة.
وهذا آخر الكلام على الأذكار، ثم يأتي بعد ذلك كتاب الدعوات.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب التعوذ والقراءة عند المنام برقم (6319).
- أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب فضل المعوذات برقم (5017).
- أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب فضل المعوذات برقم (5017).
- أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب فضل من بات على الوضوء برقم (247) ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع برقم (2710).
- أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله -عز وجل-: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْه} [الحجر:51-52] برقم (3372) ومسلم في الإيمان، باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلةـ وفي الفضائل باب من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم برقم (151).
- قراءة حَمْزَة وَالْكسَائِيّ. حجة القراءات (ص:622).
- التوابين لابن قدامة ط العلمية (ص:285).
- أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع برقم (2710).
- أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع برقم (2715).
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الدعوات برقم (3398) وصححه الألباني.
- أخرجه أبو داود في أبواب النوم، باب ما يقال عند النوم برقم (5045) وصححه الألباني.
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الدعوات برقم (3399) وصححه الألباني.